الحبيشي : استاذ جمال لننتقل الآن من الماضي إلى الحاضر.. من اشكاليات عهد مضى إلى اشكاليات واقع نعيشه بكل تحدياته وتناقضاته ومصاعبه.. أود أن اتعرف على رؤيتكم لما يعانيه العالم الإسلامي من مشاكل في داخله ، ومشاكل مماثلة مع الآخر في العالم الخارجي غير المسلم بسبب مفاهيم لا تحظى باجماع كل المسلمين حول ” الجهاد “؟
البنا : اولاً هناك فرق كبير بين كلمتي الجهاد والقتال.. الجهاد شيء والقتال شيء آخر وكلاهما مختلفان تماماً في المضمون والبنية اللغوية.. الجهاد اسم مصدر للفعل يجاهد، بمعنى ان الانسان يجاهد الشرور والشهوات.. الجهاد مجاله اصلاح وإعادة بناء النفس البشرية ولا يعني بالضرورة حمل السلاح واستخدامه لقتل النفس. بعيداً عن كلمة (( الجهاد )) يأتي (( الجهد )) بمعنى العمل من خلال بذل مجهود عضلي أو ذهني وما شابه ذلك ، لكن القتال يعني شيئاً آخر تماماً.. انه يعني حرباً بالسيف تراق فيها الدماء وتزهق فيها الارواح ويدمر على جوانبها العمران .. على النقيض تماماً من جهاد العمل والبناء الذي يرتبط بازدهار العمران ، وسعادة الانسان واستمرار الحياة .
هناك خلط بين القتال والجهاد .. وتتحمل ايديولوجيا الإسلام السياسي مسؤولية هذا الخلط .. والكارثة ان حملة هذه الايديولوجيا والمبشرين بها ينطلقون من التخريجات الفقهية التي تقول بان آيات السيف نسخت آيات الجهاد في سبيل الله بالدعوة والموعظة الحسنة والعمل الصالح .
هذا كلام لا يؤخذ به اطلاقاً.. كيف يجوز ان نعمل سكين النص في آيات القرآن .. لايجوز ان نبتر آيات ونقطعها كما يفعل الجزار في اللحم .. هذا مرفوض تماماً لان القرآن لا يضرب بعضه بعضا ، ولكن يكمل بعضه بعضا .. و ولا يجوز أن نلغي عقولنا ولنصدق القول بان بعض آيات القرآن تلغي بعضها .. وان الروايات والأحاديث التي نقلها او إخترعها الرواة تنسخ أو تلغي كلام الله في القرآن أوتضيف اليه .. هذا كلام خطير.. هذا كلام ٌ به خبيئًٌ .. معناه ليست لنا عقول ُ .. بحسب قول أحد أعلام الشعر العربي لا يحضرني إسمه الآن .. ولكن يمكن القول ان بعض الآيات القرآنية تعد تطويراً وتعميقاً لبعضها الآخر نحو الافضل والأعمق.
في كتابنا الذي اصدرناه حول ” الجهاد ” حاولنا تقصي كلمة قتال في القرآن الكريم من أول الفاتحة حتى سورة “الناس” وجرى التركيز على كل أية تشير إلى القتال .. ثمة أية تقــــول ” وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم و لا تعتدوا ان الله لا يحب المعتدين ” .. والثابت ان القتال هنا هو الدفاع عن حرية العقيدة دفعاً للمشركين الذين أرادوا ان يعود المسلمون إلى شركهم القديم وحاربوهم على هذا الأساس .. فكان لابد للمسلمين ان يدافعوا عن عقيدتهم قتالاً بعد ان حاولوا بالوسائل السلمية وفشلوا.. بل وتعرضوا لحرب عدوانية ظالمة شنت عليهم .. فكان لابد من ان يرد عليها بالحرب بدلاً من الاستسلام والذل والرجوع عن العقيدة وامتهان الضمير.
الفكرة في كل الآيات التي جاءت في القرآن توضح أن هذا القتال الذي تطرقنا اليه هو رد على الذين (( يقاتلونكم )) .. ومما له دلالة ان يأتي الأمر للمسلمين بقتال من يقاتلونهم .. ثم يأتي قوله تعالى بان من عفى واصلح فأجره عند الله .. وقوله ” وان جنحوا للسلم فاجنح له “.. بمعنى ان القتال في الإسلام ليس عدوانيا ولم يكن لنشر الإسلام بواسطة الإعتداء على الآخرين .. لأن الله لا يحب المعتدين .. بل كان الإذن بالقتال للدفاع عن حرية العقيدة .. وهذا امر مشرف ومشروع لانه يشير إلى ضرورة الدفاع عن كرامة الإنسان .. ذلك أن الإنسان حين يجبر على التنازل عن عقيدته ، فان ذلك يقود بالضرورة إلى قبول التنازل عن ضميره وانسانيته.
الحبيشي : كلامك هذا يتسق تماماً والكثير من ارائك المعلنة في مناقشاتك مع من يسمون انفسهم بـ ” الجهاديين “.. فقد سبق لكم ان اوضحتم ان الهدف الوحيد المسموح به للقتال في الإسلام هو الدفاع عن العقيدة أو عن النفس أو عن الملك المشروع .. أي انها في جميع الحالات حرب دفاعية وفي غير هذه الحالات تعتبر الحياة مقدسة ولا يجوز المساس بها.. ولكن أيمن الظواهري قال كلاماً ًو مثيرا ًً للدهشة والتساؤلات في كتابه ( فرسان تحت بيارق النبي ) الذي أصدره بعد أحداث 11 سبتمبر 2001 م .. ثم تكرر هذا الكلام بشكل تبسيطي مرة أخرى عندنا في اليمن على لسان الشيخ (المهندس) عبدالله صعتر عضو مجلس شورى حزب التجمع اليمني للإصلاح الذي أصدر شريطا ً ( دعويا ً ) و كتب مقالاً في إحدى صحف حزبه بمناسبة الذكرى السنوية الأولى لأحداث 11 سبتمبر قال فيه بالحرف الواحد : ( لايجوز ان يبقى شبر على الأرض لا يدين بالإسلام ولا تحكمه شريعة الإسلام ، وان الله لم يرسل نبيه محمد عليه الصلاة والسلام ليبقى في مكانه بل قال له ولاتباعه المسلمين : وقاتلوهم حتى لاتكون فتنة ويكون الدين كله لله ) .. ما تعليقكم؟
البنا : هذا ليس تبسيطاً .. انه تسطيح وتحريف لمعاني القرآن حيث يتحول الدين على يد حملة هذا التأويل من السلفيين المتعصبين إلى مشروع حرب عالمية لاخضاع العالم بالقوة لدين الإسلام وشريعته. علينا الا ننسى ياصديقي ، قبل كل شيء ان القرآن يأمر المسلمين بعدم قتال غير المسلمين الذين يرتبطون معهم بميثاق .. اما اولئك الذين تربطهم عداوة بالمسلمين واعتزلوا المسلمين ولم يقاتلوهم والقوا عليهم السلام فلا بأس على المسلمين من مقابلة هؤلاء بالسلم .. لكن الذين يبادلون المسلمين العداء (الفتنة) ولم يعتزلوهم او يلقوا اليهم السلام .. ففي هذه الحالة يستحقون القتال اينما ” ثقفوا” .
الأكثر من هذا، تضمنت سورة النساء اية عن اشد فئات المنافقين نفاقاً ولم توجب عليهم عقوبة في الدنيا جزاء نفاقهم .. اقرأ هذه الآية الكريمة : (( أن الذين آمنوا ثم كفروا ثم آمنوا ثم كفروا ثم إزدادوا كفرا لم يكن الله ليغفر لهم ولا ليهديهم سبيلا )) .. فمع ان القرآن كشف خبيئتهم واعلن كفرهم مرة بعد أخرى فانه لم يوقع عليهم عقوبة.. لا عقوبة الردة المزعومة.. ولا عقوبة قتال الكافرين حتى يدخلوا بالقوة في دين الإسلام !! عند مقارنة هذه الأية بآيات تتضمن احكام قتال المعتدين ومسالمة الذين يعتزلون المسلمين ويلقون عليهم السلام .. سنجد الرد القاطع على امثال هؤلاء الذين يدعون إلى قتال العالم غير المسلم حتى يدخل اهله في دين الله ويتوبوا عن كفرهم في الدنيا.
الأية السابقة واضحة وترد على هؤلاء الذين يشوهون مفهوم الإسلام للجهاد .. فالذين كفروا بعد ايمانهم ثم ازدادوا كفراً ولم يضمروا حرباً على المسلمين فان الله لم يأمر المسلمين بقتالهم أو تطبيق حد الردة المزعوم عليهم .. بل ترك عقابهم إلى الله يوم القيامة.
الحبيشي : وماذا عن الحرب حتى لاتكون فتنة ويكون الدين كله لله، وهو ما يتعلل به هؤلاء لتسويق مفهومهم القتالي للجهاد من أجل اسلمة كل شير في العالم كله ؟
البنا : في كتابي ” الجهاد ” شرحت معنى حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله .. واعتقد انه من الضرورة استحضار الآية المعنية وهي في سورة الأنفال (( قل للذين كفروا ان ينتهوا نغفر لهم ما قد سلف وان يعودوا فقد مضت سنة الأولين وقاتلوهم حتى لاتكون فتنة ويكون الدين كله لله فان انتهوا فان الله بما يعملون بصير)) .
الآية واضحة .. انها تستبعد الفتنة أي اجبار الناس على تغيير المعتقد كما جاء في سورة البروج (( ان الذين فتنوا المؤمنين والمؤمنات ثم لم يتوبوا فلهم عذاب جهنم ولهم عذاب الحريق)) .. فاذا استبعدت الفتنة اصبح الدين لله بحيث لايتحول الى مشكلة يتنازع ويتقاتل عليها البشر.. وبهذا يكون المعنى الحقيقي بعيداً عما قد يتبادر إلى ذهن بعض المتعصبين من ان المقصود هو ان يكون الدين هو الإسلام .. في حين ان نص الآية ” ويكون الدين كله للهى ” يشمل كل ملل الدين ..مع الاخذ بعين الاعتبار ان قصر الدين على الإسلام يناقض الآيات التي تركت اتباع الاديان الاخرى على ماهم عليه “الذين هادوا، النصارى، الصابئة.. الخ”، واوكلت إلى الله وحده يوم القيامة، الفصل بينهم وبين الذين آمنوا وهم هنا المسلمون.
وفي اجتهادي ــ والله اعلم ــ انه لو كان الغرض من تعبير” ان يكون الدين كله لله ” هو فرض الإسلام على كل شبر في الأرض لوجب ان يغير اتباع الاديان الأخرى الذين اوكلت آيات القرآن امر ما يختلفون فيه مع المسلمين الى الله وحده في يوم القيامة وليس في الدنيا، لوجب على هؤلاء ان يغيروا دينهم إلى الإسلام، فان لم يفعلوا ذلك طواعية فيجب اجبارهم على ذلك قسراً وبالقوة وهو مايصبح ” فتنة ” .. وبالتالي يؤدي هذا التفسير الذي قدمه بن لادن والظواهري وصعتر والملا عمر وأمثالهم إلى عكس معنى الآية الكريمة !!
ومن الواضح ايضاً ان الأمر بالقتال هو موجه لاولئك الذين لا يكتفون بالكفر فقط .. بل ويصرون على قتال المسلمين بهدف اجبارهم على ترك عقيدتهم قسراً.. اما اذا ” انتهوا ” فسيغفر الله لهم .. بل ان آية القتال التي يتحجج بها المتطرفون تقول بوضوح أكثر: ” فان انتهوا فان الله بما يعملون بصير” .
الحبيشي : ولكنكم قلتم بل ودرجتم باستمرارعلى القول: ان معظم الآيات القرآنية تتناول القتال بمعنى الحرب الدفاعية ، واوضحتم في أكثر من محاضرة وكتاب ومقابلة ان حروب النبي عليه الصلاة والسلام كانت في الاصل حروباً دفاعية أو لتأمين العقيدة او نتيجة لنقض العهود .
البنا : نعم قلت هذا ولاازلت عند موقفي.
الحبيشي : أنتم تحدثتم ايضاً عن علاقة خفية بين الإسلام وبين نوع ما من القتال.. ولعل ما استدعى انتباهي قولكم في كتاب لكم لايحضرني اسمه في هذه اللحظة ان ثمة جاذبية خاصة تجذب الإسلام لنزعة القوة أو لفكرة القوة .. حيث يمكن للإنسان ملاحظة ذلك بشفافية في سياق بعض الآيات أو النصوص القرآنية والاحاديث النبوية الصريحة.
البنا (مقاطعاَ ) : كلامك يا عزبزي أحمد ملتبس مع إحترامي الشديد لك .. وانت كما هو واضح متابع جيد لهذه الاشكالية .. واشكرك كثيراً لانك تدفعني الآن بهذا الاستفزاز المحبب لدي إلى ان اخوض في نزعة القوة عند المسلمين الاوائل .. والتي كانت بحسب ظني مسؤولة إلى حد كبيرعن ظاهرة الفتوحات الإسلامية في عهد الخلفاء الراشدين .. تلك الفتوحات التي أسست وكونت دولة الإسلام الكبيرة .. وحارب فيها المسلمون بروح ” جهادية ” عالية وعمقوا فيها مبدأ كسب احدى الحسنيين ” الشهادة أو الانتصار” .. واظهروا فيها بطولات يفخر بها المسلمون حتى اليوم.
الحبيشي : ولكن ثمة سؤال مشروع يبرز في الذهن خاصة عند المفكرين غير المسلمين .. ويجب ان نطرح هذا السؤال ايضاً أمام العقل الإسلامي .. كيف نجمع بين نزعة القوة في ظاهرة الفتوحات الإسلامية وبين حرية العقيدة ؟
البنا : كله على بعضه يقبل التفسير في أكثر من وجهة .. وهذه في تقديري اشكالية لابد ان يقف أمامها العقل الإسلامي سواء في هذا العالم الذي يختلف عن عالم المسلمين الاوائل بمعايير العلاقات بين اطرافه .. أو في هذا العصر الذي يختلف عن عصرهم بقيمه الحضارية والإنسانية وموازين القوى بين مكوناته.
لاشك في ان الطبيعة الجهادية للإسلام عرضت الحياة الإنسانية في صورة نزال بين الخير والشر وابتلاء بالسراء والضراء .. ولعل تفسير اشكالية الجمع بين الفتوحات الإسلامية وحرية العقيدة يعود لنزعة تغليب القتال على الجهاد لدى الفقهاء وكانوا في عهد التأسيس بعد وفاة النبي يجمعون بين الخليفة والفقيه وأمير الجيش .. وخاصة في فترة الخلافة الراشدة حيت كان الخليفة هو الفقيه وهو أمير الجيش .. ولم يحدث الفصل بين هذه السلطات الا في عهد الدولة الأموية وما بعده ، حيث اكتسبت الفتوحات ابعاداً اقتصادية جديدة في سياق نمط الانتاج الخراجي .. ولم يكن للفتوحات لاحقا ً علاقة بالجهاد بهذا المعنى ..بل كانت اشبه بالتوسع والتراجع من منطلقات اقتصادية وعسكرية بحتة تدخل ضمنها تداعيات الحروب الداخلية بين مركز الخلافة واطرافها ونشوء الدول الطائفية الإسلامية .
يمكن القول ايضاً ان هذه الظاهرة تعرض لنا حالة معقدة ومركبة يتلاقى فيها المبدأ بالمبدأ والمثل الأعلى بالمثل الأعلى .. انني اؤمن تماماً بأن مبدأ حرية العقيدة أو حرية الاعتقاد هو الاصل والقاعدة في الإسلام .. ولكن يحدث في بعض الحالات ان يظهر مبدأ يتطلبه التطور بالنسبة للظروف الخاصة أو الآنية مثل تحقيق العدل أو الأمن .. فتصبح الأولوية بتأثير هذا التطور للعدل ..لمبدأ تحقيق العدل ومقاومة الظلم أو ضمان الامن ومقاومة خطرالعدوان أو خطر الفتن الداخلية !!
بالاضافة إلي تلاقي المبادئ يمكن ان تتلاقى المجتمعات فيظهر على سبيل المثال مجتمع جديد يتسم بكل عناصر القوة والحيوية والفعالية .. فيتصرف كحصان جامح يريد ان ينطلق ليتجاوز مجتمعات شائخة يجواره ربما تكون طبقية أو تقليدية فقدت حيويتها.. في هذه الحالة يكون طبيعياً ان يندفع المجتمع الجديد بكل حيويته ليكتسح المجتمع الهرم ، مما يؤدي إلى غلبة وانتصار المبادئ الجديدة والميول الجديدة للمجتمعات الجديدة على المبادئ القديمة للمجتمعات الشائخة.
قبل ظهور الرسالة المحمدية كان المجتمع البشري يتخبط في اسار حضارات طبقية جائرة تسودها الجهالة والوثنية.. وكان ابرز هذه المجتمعات وهي الفارسية والرومانية تتميز باستعباد الجماهير والتحكم فيها اما من خلال تزييف الرسالات السماوية السابقة التي جاءت لتحريرها .. أو تأليه الملوك والحكام وتعظيمهم وتجليلهم .. وعندما جاء الإسلام في صورة مبادئ عادلة تدعو إلى ان تحل المساواة محل الطبقية والشورى محل الاستعباد والعدالة محل الظلم والعلم محل الجهل والعقل العلمي التحليلي مع النقل الحرفي والتسليم الأعمى .. كان لابد من تقويض أسس وهياكل النظم القديمة الجائرة من خلال النزوع إلى تغليب القوة وتهميش العقل ومحاربته ومحاصرته ..انني لا أدافع عن ما حدث ولكن الظروف والمتغيرات التي حدثت بعد ذلك وتتعاظم الآن ، تفرض علينا التخلص من النظرة النمطية لمفهوم الجهاد المرتبط بالقتال بما في ذلك التخلص من عبودية التأويل .. أي الا نكون عبيداً لتأويل الفقهاء القدامى لهذه القضية أو تلك وهو تأويل تاريخي بكل المعاني ، ومحكوم بظروف تاريخية سابقة لايجوز ان تحكمنا الان .. ولا يجوز نقلها حرفيا و قبولها كما جاءتنا في كتب الفقهاء الأسلاف بدون نقاش .. ومع ذلك فان الغرض الرئيسي من الجهاد في الإسلام ليس هو حمل الناس قسراً على الايمان بالاسلام على نحو ما قاله بن لادن و الظواهري واشياعه عندكم أو في السعودية أو في مصر أو في بلدان أخرى .. حيث يدعو هؤلاء إلى فرض الشريعة الإسلامية على كل شبر من الارض لايحكمه الاسلام .. لان الاسلام لو اراد ذلك لما سمح ببقاء كل من يشاء الاحتفاظ بدينه .. ولما حمى الكنائس ولما اعطى القسيسين والرهبان نوعاً من الحصانة.
الحبيشي : هناك من يرى ان الجزية التي اقرها الإسلام هي الثمن الذي يدفعه غير المسلمين مقابل ضمان حرية العقيدة بالنسبة لهم ؟
البنا : الجزية ظاهرة تاريخية.. وهي غير موجودة الآن .. وأود القول بأن الآيت التي تشير الى ضرورة أن يدفع غير المسلمين الجزية وهم صاغرون ليست تشريعا ثابتا ً وواجب التفيذ في كل زمان ومكان .. خصوصا في العصر الحديث الذي تسوده قيم المواطنة المتساوية في الدولة المعاصرة والمجتمع الدولي الحديث .. ومع ذلك يقر المسلمون بعدم ضرورتها وعدم فائدتها.. والإسلام هم المسلمون.. والجزية ــ يا صديقي أحمد ــ لم يأت بها الإسلام .. لقد كانت موجودة تاريخياً قبل الإسلام .. وقد دفع المسيح نفسه الجزية وكانت عند الرومان وغيرهم ثقيلة وباهظة.
صحيح ان البعض يرى في الجزية ثمناً أو ضريبة مفروضة على الذين يريدون الاحتفاظ بدينهم بعد ان رفضوا الايمان بالإسلام .. هذا البعض قد يرى ان الجزية ثمن يخالف حرية الاعتقاد كحق غير مشروع من حقوق الإنسان.. ولكن الأمر في تصوري ليس بهذا التبسيط .. حالياً يمكن ان يبقى الانسان على عقيدته بدون ثمن يدفعه .. بإمكانه أن ينخرط ايضاً في حقوق وواجبات المواطنة بعيداً عن اعتبارات العقيدة بحكم تطور المجتمع البشري وتطور الدول وتطور العلاقات بين الدول وتطور الحضارة البشرية المعاصرة.
لكن الوضع في تلك الفترة مختلف تماماً عند اسلافنا .. ولا يجوز قياس وضع العالم المعاصر والمجتمع الدولي المعاصر على وضع عالم الاسلاف الذي تختلف مواثيقه و معاييره السالفة مع قواعد العلاقات الدولية ومبادئ العيش المشترك في ظل قيم ومواثيق المجتمع الدولي المعاصر.
لو لم تكن الجزية قائمة آنذاك لكان البديل الوحيد هو انخراط غير المسلمين في خدمة الإسلام الذي لايؤمنون به.. ولولاها لأصبح جائزاً أخذهم والحاقهم بالجيش الإسلامي وعندئذ يلزمون بالدفاع عن عقيدة لايؤمنون بها.. فالجزية آنذاك كانت تمثل سبيلاً للاحتفاظ بالعقيدة وبديلاً عن القسر الذي لم يكن منه مناصاً نتيجة للتعقيد الاجتماعي في ظروف تاريخية سابقة وهي ليست ثمناً للحرية كما جاء في سؤالك.
الحبيشي ( موضحاً ) : أنا لم اقرر ذلك في
سؤالي وانما عرضت افكاراً يراها البعض على لسانهم ومنشورة في كتب وابحاث؟
البنا : عفواً لسوء فهمي لك.. لان ماورد في سؤالك لايعني بالضرورة انك توافق على محتواه.. ولكني أود ان اوضح بهذه المناسبة جانباً مهماً لعله يسهم في تسليط مزيد من الضوء على هذه المسألة الشائكة .
الجزية ــ يا عزيزي ــ لم تكن ثمناً للحرية بل كانت ثمناً للعدالة والحماية.. كان هذا الثمن الذي دفعه غير المسلمين صفقة رابحة بالنسبة لاولئك الذين آثروا الاحتفاظ بدينهم والتمتع بحرية ممارسة عقائدهم أكبر مما كانت صفقة رابحة للمسلمين.
الحبيشي : كيف ؟
البنا : كان غير المسلمين سعداء بدفع الجزية على حساب المجتمع
الإسلامي إلى درجة ان الجزية ساعدت فيما بعد على ظهور ” الامتيازات الاجنبية “.. وظهور مجتمعات منفصلة وشبه مستقلة داخل المجتمع الإسلامي .
الحبيشي : والان مارايكم في الذين يقولون انه ليس هناك شيء بين المسلمين وغيرهم في البلدان الاسلامية سوى ان يدخل غير المسلمين في الإسلام أو أن يكونوا من أهل الذمة ويدفعوا الجزية.. هذا الكلام مع الاسف قرأته في كتاب انيق صادر عن رابطة العالم الإسلامي .. وعلى غلافه الأمامي عبارة “يهدى ولا يباع “.. كما سمعته ايضاً في شريط صوتي لأحد شيوخ الكاسيت بحسب وصفك ؟
البنا : هذا تخريف.. تخريف حقيقي.. انه يدل على الجهل بحقائق التاريخ والجهل بحقائق العصر الراهن والاغتراب عن الحضارة الحديثة القائمة.. ان الذين يقولون هذا الهراء يجهلون تماماً الإسلام .. ولا يعرفون قيمه ومقاصده الإنسانية النبيلة.. والأكثر من كل ذلك انهم يجهلون ديناميكية الإسلام وقدرته على التطور والتكيف مع المتغيرات التي تحصل ويمكن ان تحصل في كل زمان وكل مكان.
الحبيشي : في ضوء ما تقدم .. كيف تعلل اصرارك على مبدأ تثوير فهمنا للقرآن؟
البنا : القرآن قام بالثورة التي احدثها الإسلام عند ظهوره على نحو ما شرحته سابقاً .. لقد عالج القرآن النفس الإنسانية لأن الإسلام نقل المعجزة من مجال الطبيعة ــ التي كانت محور الإعجاز في الاديان الأخرى ــ إلى النفس الإنسانية. لم نجد في الإسلام والقرآن معجزة تشبه احياء الموتى او شق البحر وغير ذلك من معجزات الانبياء السابقين للرسول محمد عليه افضل الصلاة والسلام .. القرآن اتجه إلى النفس الانسانية ، وكان ولا يزال كتاباً يحتوي أعلى درجات الفن الرفيع .. وانا هنا لا أقصد مفهوم الفن الشائع .. بل اقصد ادوات الفن العميقة مثل : المجاز والنظم والايقاع الموسيقي والبيان .. كان القرآن ــ و لا يزال ــ يؤدي دوره بمجرد سماعه على طول.. ويترك تأثيراً عميقاً في القلب والعقل والوجدان والنفس فيتحول من يتأثر بمعاني القرآن من الشرك إلى الايمان. عندما ارسلت قريش عتبة بن الوليد لإغراء الرسول بمختلف الوسائل كي يترك الرسالة.. استمع الرسول اليه طويلاً .. ورد عليه بقراءة بعض الآيات القرآنية فنزلت على اذني عتبة كالصاعقة وقال للرسول : حسبك ، حسبك ! ثم عاد إلى قومه.. فلما رأه ابو جهل اقسم ان ابن الوليد عاد بوجه غير الوجه الذي ذهب به إلى الرسول وكان محقاً في ذلك. هذه هي قوة القرآن الثورية التي نحتاجها اليوم.
الحبيشي : استاذ جمال .. فيما يتعلق بهذه الاشكالية ، ثمة غبار حول الفقة الإسلامي بسبب الخلافات التي حصلت بين جمهور الفقهاء .. انا شخصياً متفق معك فيما قلته لي قبل اكثر من إثني عشر عاما ً سنوات انه لم يكن هناك أي اجماع بين جمهور الفقهاء .. وان القول بأن جمهور الفقهاء اجمعوا على كذا وكذا يعتبر كذبة كبرى .. ومن العيب ان يكذب بعض الذين يزعمون بانهم من اهل الذكر فيقولون : لقد اجمع جمهور الفقهاء على كذا وكذا.. حتى جمهور المذهب لايجتمعون على قضية واحدة كما حدث على سبيل المثال عند تباين مواقف الفقهاء المسلمين من احتلال العراق للكويت عام 1990 حينما عقد فقهاء سنيون مؤتمراً معارضاً لهذا الاحتلال في مكة ،، وفي الإتجاه المعاكس لهم عقد فقهاء سنيون آخرون مؤتمراً مؤيداً لصدام حسين في بغداد آنذاك .. وكل طرف اطلق على نفسه صفة “علماء الأمة ” حيث زعم هـــؤلاء ( العلماء ) في بيان كل طرف منهما على حدة بأنّ ” جمهور العلماء أجمعوا على كذا وكذا ” في اتجاهين متناقضين!!. ثمة إشكالية عاناها الفقه والفقهاء هي إشكالية النص.. وانت الآن تتحدث عن الحاجة لتفسير جديد وقراءة جديدة للقرآن.. ثمة من كان يرى ان معنى القرآن الحقيقي هو في عموم اللفظ وليس في خصوص السبب.. بيد انك لاتتحدث عن الفاظ ولا عن اسباب بقدر ما تتحدث عن مقاصد الدين ومقاصد القرآن وقيم الإسلام على نحو ما فعله الإمام الطوسي رضي الله عنه .. واذكر انك قلت في حوار مع احدى الصحف الالكترونية على شبكة الانترنت انه ليس مهما عموم اللفظ ولا خصوص السبب ، لان الذين يختلفون في هذين الجانبين يهملون المقصد ويتجاهلون حقيقة ان الدين جاء في الاساس بقصد خدمة الانسان وإعلاء شأنه وتكريمه .. لان الله كرمه بالعقل وميزه عن غيره من الكائنات بالعقل .. واستخلفه في الأرض لكي يعمرها بالعقل والإيمان بعد ان علم آدم الاسماء كلها.. هل من الممكن يا استاذي تسليط الضوء على رؤيتك لهذه الاشكالية في اطار مشروع تجديد الفقه الإسلامي الذي تتبناه الآن؟ البنا : نحن استبعدنا اسباب النزول كلها لسببين : السبب الأول ان الاسباب التي تقدم في كتب التفسير تعتمد على مرويات ركيكة جدا لايمكن ان نحكمها في النص بصرف النظر عن سندها.. لان السند نفسه مشكلة عويصة وغنية باشكاليات لاينكرها الا اولئك الذين قرروا اعطاء عقولهم اجازة طويلة .. ثم قرروا قبول نصوص الإخباريات التي جاءتهم عبر كتب الرواة والشراح والمفسرين كما هي بدون نقاش أو نقد موضوعي .
القرآن ــ يا عزيزي ــ قطعي النزول والثبوت ولكن الاحاديث كلها ظنية الثبوت فيما عدا ما يوصف بالحديث المتواتر.. علما بأن المسلمين إختلفوا وتصارعو وانقسموا على أساس أحاديث يقال عنها بأنها متواترة .. كما أن الكثير من الفقهاء على وجه الخصوص والمسلمين ــ عموما ًـــ رغم كثرة صراخهم حول تطبيق السنة وإعتبار السنة جزءا ً لا يتجزأ عن الشريعة الاسلامية ، تجدهم لا يجيزون القياس على بعض الأحاديث والروايات المتواترة مثل روايات الذبابة والربابة والمحراث والمزمار ورضاعة الكبار .. وغير ذلك من الروايات التي تواترت منسوبة الى السنة النبوية .. حيث يعتبرها بعضهم حالات خاصة لا يجوز القياس عليها.. فيما ذهب بعض الفقهاء لإختراع الحيل لتبرير قبول بعض تلك الأحاديث وخاصة التي تقول بتحريم الغناء وتحريم الموسيقى والفنون والتصوير .. فهم يجيزون القياس عليها ويضيفونها الى الشريعة ويجعلونها شريكة لحكم الله باسم السنة وليس باسم القانون الوضعي ، مع أنها من صنع الوضاعين الذين إحتالوا على التاريخ بنسبها الى الرسول .. لكنهم لا يجيزون القياس على البعض الآخر .. وهذا يفتح أبوابا ً واسعة لمزيد من الإشكاليات المنهجية والعقلية حول مدى صحة هذه الرواية أو تلك .. ومدى سلامتها وقابليتها للتطبيق والاستمرار في مختلف العصور والأزمنة والأمكنة بميزان العقل .. بصرف النظر عن ثبوت تواترها في فقه أهل السنة وفقه أهل الشيعة .
إذا درست الحديث المتواتر ستجد انه أبعد الاحاديث عن المصداقية لأن معظهما عن حتمية عودة الإمام المهدي الغائب .. و عن الأئمة الإثنى عشر وظهور جيش عدن أبين والفرقة الناجية وحكر الحكم على قريش الى قيام الساعة .. وعن الدجال الأعور وحيتان الجزر والثعبان الاقرع والشجر أوالحجر اللذين سيبلغان المسلم بأن يهوديا إختبا خلفه ليأتي فيقتله .. وغيرها من الروايات التي تسيئ الى الإسلام ، ولا يقبلها العقل السوي على الاطلاق .. بل واقرب الى الخرافة. هذا الحديث المتواتر لا يمكن ان مقاربته بالآيات القرآنية الربانية من زاوية اسباب النزول .. و لايمكن تصديقها وقبولها لمجرد أنها وردت كأحاديث صحيحة نقلتها الينا كتب الحديث مثل صحييح البخاري وصحيح مسلم .. أولمجرد أن أهل السنة يلحقونها بالقرآن مثلما يلحق اليهود كتاب التلمود بالتورات .. وكذلك مثلما يلحق المسيحيين إصحاحات الانجيل التي أعدها الحواريون على لسان المسيح عليه السلام بالانجيل الذي هو كتاب الله .. وما ترتب على ذلك من تحريف لليهودية والمسيحية عندما ألحقت كتب الحوارات والروايات المنسوبة الى الأنبياء بالكتب السماوية .. وأصبحت غالبة عليها كما يحدث الآن للإسلام على أيدي بعض فقهاء أهل السنة والشيعة !!
ثمة شيء آخر وهو القول بان القرآن كتاب قصصي وحكايات على نحو ماذهب اليه المستشرقون الذين لم يفهموا الإسلام ، وارادوا حصر معانيه في اسباب النزول التي تشرح ظروف تلك القصص والحكايات.. وبتعبير آخر فان موضوعة اسباب النزول اضحت تشبه المذكرة التفسيرية للقانون. الحبيشي : طيب.. الا تعتقد ان موضوعة عموم اللفظ تقودنا إلى عبودية النص بالفاظه وليس بمعانيه؟ البنا : يا أخي ، لاتفهم من اعتراضي على اسباب النزول انه انحياز لاصحاب اطروحة عموم اللفظ .. كلا الاطروحتين تسببتا في تهميش العقل وحصره بين المطرقة والسندان.. مطرقة قراءة النص من منظور اسباب النزول.. وسندان قراءة النص من منظور عموم الفاظه فقط .. وكلاهما يقودان الى الكسل الذهني . انا اؤمن بأنه ليس من نص لا يقبل الاجتهاد.. كل النصوص القرآنية قابلة للاستدلال .. وقابلة للإجتهاد وتجديد الإستدلال وفقا لمقتضيات ومتغيرات الحياة في كل عصر .. وفي كل طور من أطوار الحضارة الإنسانية التي لا يمكن قولبتها في قالب جامد وثابت ونهائي .. قالب مطلق لا يقبل الصيرورة والتجدد . الحبيشي : انت تحدثت في السابق عن احاديث متواترة ارتبطت بالخرافات.. ما رأيك في احاديث تدعو إلي العلاج ببول الابل واوساخ الذبابة.. اليس البول من الاشياء النجسة ويجب التطهر منه فكيف تتحول الاشياء النجسة إلى وسائل للعلاج؟ البنا : هذه الاحاديث والروايات مشكوك فيها .. وهي جزء من مأساة المسلمين واسباب تخلفهم العقلي وتدهورهم الحضاري ومصائبهم المستمرة والمتلاحقة..ومن المؤلم جدا ان فقهاء أهل الشيعة وفقهاء أهل السنة إختزلوا الاسلام على أيديهم في صورة روايات وأحاديث ما أنزل الله بها من سلطان .. حيث أصبح الإحتكام اليها أكثر من الإحتكام للقرآن الذي نقله الينا النبي وحده .. ولم ينقله الينا بشر إختلفوا وتصارعوا وتناحروا بينهم البين كما هو حال هذه الأحاديث والروايات التي يتبناها اهل الشيعة وأهل السنة الذين ويزعم فقهاؤهم بأنها الحق والحقيقة
زز وإن الآخر مخالف ومارق ومشرك .. وكل حزب بما لديهم فرحون ..ولا يمكن لنا بأي حال من الاحوال الشروع في الخروج من مأزقنا الحضاري دون التخلص من هذه الخرافات. الحبيشي : هناك من يرى ان جزءا كبيرا من مصائبنا يعود إلى موضوعة الحديث وتحويله الى ملحق بالقرآن على غرار التلمود بعد أن طغى على التوراة عند اليهود وفتح الباب للتحريف والحذف والإضافة إلى كلام الله بكلام روا بشر عن بشر بصورةٍ لا تخلو من خلافات وإإشكاليات منهجية تدخل في إطار المتون الظنية التي لا صلة لها بالوحي الإلهي الحق .
المدهش حقا ً أنّ فقهاء الحديث يؤكدون على أنّ الأغلبية العظمى من الأحاديث المنسوبة للرسول صلى الله عليه وسلّم هي أحاديث أحاد ، ويؤكدون أنّها تفيد الظن ولا تفيد الحق .. ومع ذلك فإنّ فقهاء الحديث من أهل السنة يعتبرون هذه الأحاديث الظنية ركناً من أركان الإسلام وأصلاً معلوماً في الدين .. وهم بهذا يتعارضون صراحةً مع القرآن الذي يحذر من إتباع الظن بقوله تعالى : “إنْ يتبعون إلا الظن وما تهوى الأنفس ولقد جاءهم من ربهم الهدى” وكذا بقوله سبحلنه وتعالى : ” وأنّ الظن لا يغني من الحق شيئاً ” صدق الله العظيم.
كيف نفهم اشكالية الحديث الذي يجري تقديمه كشريعة واجبة التنفيذ بينما الرسول عليه الصلاة والسلام نهانا عن تدوين السنة وقال : ” لا تكتبوا عني غير القرآن، ومن كتب عني شيئاً غير القرآن فليمحه ” ثم محا بيديه الشريفتين ما كان الصحابة يكتبونه على لسانه.. بالاضافة إلى ذلك احرق الخليفتان ابو بكر الصديق وعمر بن الخطاب كل ما كان مكتوباً من احاديث الرسول.. ولم نسمع بتدوين الحديث وجمعه مرة اخرى الا بعد أكثرمن مائة سنة ونيف وفي ظل صراعات واستقطابات سياسية على الحكم حيث جرى توظيف الحديث النبوي لصالح هذا الطرف أو ذاك .. مارأيكم؟ البنا : نعم.. الرسول امر بمحو ما كتبه الحفاظ من احاديثه واقواله.. وابو بكر وعمر منعا تدوين السنة في عهديهما.. لعمر بن الخطاب قول مشهور عندما منع تدوين السنة واحرق ما تم تدوينه منها إذ خرج يوماً على المسلمين وقال : اني فكرت في كتابة السنة ثم تذكرت اقواماً كتبوا كتباً وعكفوا عليها وتركوا كتاب الله.. واني والله لأخاف على القرآن ان يأتي من ينافسه او يحل محله أو يزاحمه. هذا ما هو حاصل الآن.. اصبح عندنا الحديث ومدرسة الحديث واهل الحديث وجماعة الحديث ولم اسمع بجماعة القرآن وأهل القرآن .. لعل الرسول حين امر بعدم تدوين احاديثه كان لا يريد للسنة وضع اطار حاجز ومغلق لمعاني القرآن وتشريعاته ومقاصدها .. القرآن وضع مبادئ عامة ورسم مقاصد ذات آفاق واسعة.. وصاغ قيما اخلاقية عليا لكل العصور.. بمعنى ان اطار المعاني والمقاصد ليس مغلقا .. ويجب على العقل اعادة اكتشافها بعيداً عن الاطر الجامدة والمغلقة التي يمكن ان تحدث لو تم تدوين الحديث .. وهو ما حصل الآن. القرآن تحدث عن مبادئ عامة بدون تفصيل .. فما يتعلق منها بالعبادات والشعائر تركه للرسول اما ما يتعلق منها بالقيم والشرائع فتركه للعقل المسلم .. وعندما امرنا القرآن بان نأخذ ما آتانا الرسول .. فقد اتانا الرسول بتفصيل وشرح وتطبيق ما جاء في القرآن حول الصلاة والزكاة وحج البيت .. وكل هذه الفرائض لم يذكر فيها القرآن أي تفصيل بل تركه للرسول الذي اتانا به وأمرنا الله ان نأخذ ما يؤتينا الرسول.. ولكن الله امرنا في القرآن بان نترك ما نهانا عنه الرسول .. واريد ان اسأل اي انسان له عقل كيف نصر على عصيان الرسول حينما نتمسك بحديث نهانا عنه وقال لنا : لا تكتبوا عني غير القرآن ومن كتب عني غير القرآن فليمحه.. فبأي حديث بعد القرآن يؤمن هؤلاء .. وكيف نخالف سيرة ابي بكر وعمر اللذين منعا تدوين السنة واحرقا كل ما كتب منها ؟ .. لقد طلب المشركون من النبي حذف بعض القرآن او الإضافة اليه .. فنزلت الآية محذرة من ذلك بقوله تعالى : ” فبأي حديث بعده يؤمنون ” ؟ .. وهو ما يتحقق الآن مع الأسف الشديد من خلال ما يسمى النسخ أو الإضافة !!
الحبيشي : أشرتم الى بعض مآخذنا على اليهودية .. ومنها ما حدث لها من تحريف في التلموذ الذي تم الحاقه بالتوارة فأصبحت اقوال الاسباط ورواياتهم غالبة على كتاب الله التواراة .. الأمر الذي فتح الباب أمام النسخ والإضافة و التحريف والإنحراف .. نحن لدينا القرآن والسنة.. ويرى المستشرقون ان السنة التي تم اختزال تعريفها في “الحديث والروايات عن وقائع السنة النبوية ” توازي التلموذ في اشكالياتها .. خصوصاً ان المسلمين اتفقوا على القرآن واختلفوا على الحديث والروايات المنسوبة الى السنة النبوية .. بل وانقسموا وتقاتلوا وسالت دماؤهم انهاراً بسبب ذلك حتى وقتنا هذا.
في احد اجزاء مؤلفكم الضخم “نحو فقه جديد” اعربتم عن تحفظ واضح ازاء ربط السنة بالحديث واختزالها فيه.. هل لكم ان توضحوا للقارئ الكريم رؤيتكم لهذه المسألة ؟ البنا : السنة النبوية هي العمل والسيرة والطريقة بمعنى العمل والفعل .. ولذلك فانها بعيدة عن كلمة حديث بـُعد الفعل عن القول.. بهذا المعنى فهم الصحابة السنة النبوية وفهمها كذلك الخلفاء الراشدون الذين كانوا يتقصون عمل الرسول .. كما فهمها الامام مالك عند ما جعل “عمل” اهل المدينة دليلاً من ادلة الفقه. الزعم بان السنة قولية يخالف طبيعة الكلمة .. فلا تكون السنة قولية ابداً لانها بطبيعتها عملية وفعلية. الحبيشي : لماذا اذن حدث الفصل بين السنة القولية والسنة الفعلية .. ماهو سبب حاجة المسلمين إلى السنة القولية بمعنى “الحديث” الذي اصبح ا لمصدر الثاني للإسلام بعد القرآن.. بل انه لدى الفقه البدوي هو الغالب على المفهوم السلفي البدوي للإسلام؟ البنا : اوضحت في مؤلفي “نحو فقه جديد” ان هناك اسباباَ مفتعلة واسباباً موضوعية للفصل بين السنة القولية والسنة الفعلية .. مع ان السنة هي فعلية وليست قولية بحسب اجتهادي. من الاسباب المفتعلة ما لجأ اليه معاوية بن ابي سفيان عند ما بث القصاص في المساجد وجعل على رأسهم كعب الاحبار ووهب بن منبه وأخوه همام بن منبه وهما ــ على فكرة ــ من عندكم .. من اليمن .. وغيرهم ممن أسلموا بعد وفاة الرسول كما هو معروف .. ، ففتح هذا باب القصّاص وما يجيؤون به من احاديث و”رقائق” فضلاً عن “الوضاعين الصالحين” الذين وضعوا الاحاديث ترغيباً وترهيباً للناس .. فجعلوا فضائل لكل سورة واستلهموا من الخيال والاساطير والخرافات عقوبات ومثوبات .. ومن المعروف ان استخدام “الحديث” عاد من جديد في عهد معاوية بعد ان منع تدوينه الرسول والخلفاء الراشدون.. وقد استخدم معاوية الحديث على نطاق واسع في تدعيم حكمه وتصفية معارضيه وتبرير سياساته .. كما ان مقاومة الحكام لأي معارضة من الفقهاء جعلت الفقهاء يركزون جهدهم في مجال العبادات وتقصي الاحاديث عن تفاصيل وفروع العبادات والشعائر. الحبيشي : هل نفهم من كلامك ان وضع الاحاديث بدأ بعد الفتنة الكبرى وتبلور في عهد معاوية؟ البنا : واقعة الوضع لا تعود إلى ما بعد الفتنة الكبرى سنة 40 هجرية تقريباً .. ولكنها تعود إلى أيام الرسول نفسه من المنافقين واليهود واعداء الإسلام الذين كان دأبهم ان يؤمنوا بهذا الحديث وجه النهار ويكفروا به آخره .. وان يقولوا عن القرآن انه اساطير الاولين .. ولعل ما جاء من وضع علي يد هؤلاء هو الاصل الذي نجد نتائجه وامتداداته فيما يروى عن القرآن من ادعاءات وايات منسوخة اوسور منسية او اختلافات وضعها المنافقون واليهود في الأيام الأولى للإسلام .. ثم نسبوها إلى الصحابة وجازت على اسرى الأسناد من ا لمحدثين ومفسري القرآن فحشوا بها كتبهم ونقلت عنهم كما جاءت حتى اليوم. الحبيشي : وماذا عن ما اسميتها الاسباب الموضوعية؟ البنا : الاسباب الموضوعية والأصلية تدور حول تقصي الاحاديث التي تصلح مستندا للاحكام في القضايا الكثيرة التي نشأت نتيجة لتوسع الدولة الإسلامية. يعجب الانسان عندما يختبر اكثر الاحاديث في اسانيدها فيجد ان الاحاديث التي توجب تحريما وتحليلا وعقابا لم يأت في القرآن هي احاديث معدودة.. اما الغالبية الساحقة من الاحاديث فتنقسم الى قسمين، الأول : احاديث تتعلق بتفاصيل دقيقة عن العبادات وبوجه خاص الصلاة والحث على أدعية معينة في اوقات معينة من اليوم أو الشهر.. الخ.. اما الثاني فهو ما يمكن ان نسميه احاديث “الرقاق” أي الاحاديث التي تبدأ من عذاب القبر ثم الفتن والخرافات بما فيها ظهور المهدي وجبش عدن أبين ، حتى البعث والنشور والحساب والعقاب والجنة والنار.. هذا القسمان هما الاغلبية الساحقة من الاحاديث. الحبيشي : ما الذي تستنتجه من هذا الكم الكبير من الاحاديث؟ البنا : الوف الاحاديث التي امتلأت بها كتب السنة واكدها وحققها المحدثون وحكموا بصحتها ووصلوا ببعضها الى التواتر، اعطت المجتمع الإسلامي بعضا من اظهر خصائصه كوَهَن المعارضة وغياب المرأة من المجتمع أو حرمانها من العلم والمعرفة والحيلولة دون تطور العلوم الطبيعية الاداب والفنون والموسيقى وبقية تجليات النفس الانسانية. هذا الكم من الاحاديث الموضوعة مسؤول عن هيمنة النفسية النمطية للمسلم .. مسؤول عن غلبة الطابع البدوي للحياة اليومية الذي تسوده الطقوس العبادية والاستسلام والتقليد والسلبية والبعد عن الفعالية وانعدام المبادرات الحية والتشبث بالماضي وتحقير المرأة وتهميش دور العقل مقابل إعلاء دور النقل للروايات والأحاديث التي نسبها الرواة ــ وهم بشر ــ الى الرسول دون إعمال العقل فيها .. ودون فحصها بميزان القرآن وميزان العقل الذي لا يمكن أن نقرأ القرآن ونستوعبه الاّ به.
الحبيشي : بمناسبة حديثك عن المرأة وغيابها .. ما الذي تود قوله بشأن المرأة؟ البنا : لنقرآ هذه الآية من سورة التوبة : ” والمؤمنون والمؤمنات بعضهم اولياء بعض يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويقيمون الصلاة ويأتون الزكاة ويطيعون الله ورسوله”.. الآية هنا تتحدث عن مجتمع بكون المؤمنون والمؤمنات فيه اولياء بعض . الحبيشي : لكن الامام الغزالي قال كلاماً سيئاً عن المرأة في كتابه ( احياء علوم الدين ) أهان فيه المرأة الى درجة التحقير.. حيث نعتها بأبشع الصفات داعيا ً الرجل الى الحذر منها وعدم مشاورتها وضرورة مخالفتها في الرأي لأن في خلافها بركة !!
وبحسب الغزالي ف‘ن قلة العفل و سوء الخلق صفتان أصليتان في المرأة .. والشيطان لا يأتي إلاّ منها وبها .. ومن واجب الزاني أن يخفف من ذنبه فيحتسب الى الله منها أثناء نكاحها، بأن يطالبها بستر وجهها كي لا ترى الفاحشة (!!) .. حتى المرأة الصالحة لم تسلم من إهانات الغزالي في هذا الكتاب الذي يعتبر مرجعا أساسيا في فقه أهل السنة .. فهي عنده ” مثل الغراب الأعصم بين مائة غراب ” .. وكذلك قيل كلام مماثل يهين المرأة في بعض كتب شمس الدين الذهبي وابن تيمية اللذين قالا ان صوت المرأة عورة ويجب حبسها في المنزل حبسا مطلقا ً ، وهي مثل العبد ، فكلاهما مملوك .. العبد لسيده والمرأة لبعلها أو أهلها؟ البنا ( مقاطعا ً ) : هذا كلام ارسطو .. هذه موروثات الثقافة الاغريقية السابقة للاسلام ، وثقافة المجتمع الجاهلي قبل الاسلام التي كانت تحقر المرأة بينما جاء الإسلام ليعلي من شأنها.. الثقافة الفارسية السابقة للإسلام كانت ايضاً مهينة للمرأة وتحتوي كلاما كهذا الذي سيطر على ذهنية فقهاء الحقبة التي شهدت بدايات أفول شمس الحضارة الإسلامية منذ القرن الخامس الهجري .. وهي الحقبة التي ظهر فيها فقه الغزالي والذهبي وإبن تيمية وغيرهم .
الحبيشي : الأخطر من ذلك يا استاذ جمال أن المسألة لم تعد محصورة في اقوال الفقهاء الذين استسلموا لموروث الثقافة الجاهلية المعادية للمرأة وصبغوه بلون إسلامي .. فهناك من حاول الاساءة للمرأة بواسطة أحاديث منسوبة للرسول والزعم بأنها جزء من السنة مثل الحديث الذي أورده البخاري نقلا عن أبي هريرة وقال فيه : ” يقطع الصلاة المرأة والحمار والكلب الأسود ” .. فيما تروي كتب الحديث ايضا ما يناقض ذلك جملة وتفصيلا على لسان عائشة التي نفت أن تكون قد سمعت الرسول وهو يقول كلاما كهذا الذي رواه أبو هريرة قائلة : ” قاتل الله أبا هريرة فقد جعل المرأة مع الحمار والكلب الأسود . ولقد كان رسول الله يصلي وأنا معترضة بينه والقبلة ، فإذا أراد أن يسجد غمزني فأوخر رجلي لبسجد ثم أعود ” .
و من يقرأ ماجاء في كتاب ( إحياء علوم الدين ) للغزالي الذي يحظى بتوقير أهل السنة سيلاحظ أن جانبا من تحقيره للمرأة تأثر بالروايات المنقولة عن أبي هريرة وكعب الأحبار.. والتي تنفيها روايات منسوبة الى السيدة عائشة.. ناهيك عن تناقضها الصريح مع نصوص قرآنية ترفع من شأن المرأة وتكرمها .
اذن ما رأيك في الذين يدعون إلى الإسلام بينما هم يسيرون على نهج ثقافة المجتمع الجاهلي في تحقير المرأة وتشبيهها بالحمير والكلاب والغربان السوداء.. ثم يدعون الى حبسها في البيت وتسريحها من العمل وتوظيف غيرها من الرجال العاطلين بدل النساء العاملات.. ولا يجيزون قيادة المرأة للسيارات ويعارضون تولي النساء وظائف الولاية العامة بما فيها وظيفة القضاء وعضوية البرلمان .. ما رأيك في الذين يقولون باسم الاسلام كلام ارسطو ورواسب الثقافات الجاهلية السابقة للآسلام ؟ البنا : انهم يستعيدون روح العصور القديمة وليس روح الإسلام .. يجب ان يقذف بهذه الافكار في سلة المهملات لان ليس لها أي قيمة الآن.. بعض فقهائنا ربما لا ينشدون إلى فكر ارسطو بقدر انشدادهم الى رواسب تقسيمات المجتمع الطبقية والقبلية .. الاغنياء فوق الفقراء .. المشايخ فوق الرعايا .. الحكام فوق المحكومين.. الرجل فوق المرأة .. الحر فوق العبد .. كما أنها تضع الذين يشتغلون أعمالا ُ غير منتجة فوق الذين يشتغلون في مهن أخرى مثل الصناعات الحرفية ومصانع ومتاجر اللحوم وصالونات التجميل ومصانع النسيج وورش الخياطة .. وهي أعمال ومهم إنتاجية وحيوية أصبحت في العصر الحديث تتطلب تأهيلا علميا ً وفنيا ًلكل من يشتغل فيها .. هذه هي االتقسيمات الطبقية والقبلية الي كانت تميز بين الناس .. والتي قام عليها المجتمع في العصور القديمة وجاء الإسلام ليثورعليها ويغيرها ويضفي عليها ابعاداً انسانية .. انا اعتقد بان من يحمل هذه الافكار بعيد جداً عن روح الإسلام .. ومنغمس في رواسب العصور والمجتمعات القديمة.
الحجاب
الحبيشي : تابعت باهتمام شديد الاجزاء الثلاثة من كتابكم الكبير “ نحو فقه جديد ”.. ولا حظت ان دفاتركم المكرسة للاحياء الإسلامي تتبنى موقفاً متميزا من قضية “الحجاب”.. كيف تعرضون هذا الموقف.. وكيف تبررونه ؟ البنا : اولاً يجب ان نلفت الانتباه إلى اصرار الفقهاء على تفسير القرآن وفق قواعد اللغة والفاظها .. وبالنظر إلى ذلك فان كلمة الحجاب تعني باللغة العربية “الساتر” .. بمعنى ان الشيء يحجب ما وراءه .. والحجاب في اللغة بل وفي القرآن لم يرد بمعنى الزي أو اللباس وانما ورد بمعنى ساتر. الاهم من كل ذلك ان آية الحجاب نزلت مخصوصة لزوجات الرسول فهن لسن كأحد من النساء نعم نزلت لزوجات الرسول اللائي كن في بيوتهن بالمسجد ، ودون ابواب.. وكن عرضة لأن يراهن البار والفاجر بحسب قول سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه. جاء القرآن وأمر بوضع حجاب بين زوجات الرسول وبين الذين يمكن ان يروهن بدون هذا الحجاب .. بمعنى وضع باب أو ستاريحول دون ان يرى البررة والفجرة نساء الرسول على نحو ما كان عليه وضعهن في بيوتهن الملحقة بالمسجد والتي كانت بدون أبواب. زوجات الرسول اللائي وجه القرآن اليهن الأمر بوضع الحجاب الساتر لسن كأحد من النساء .. ولهن خصائص معينة.. القرآن وعد نساء الرسول بمضاعفة المثوبة ومضاعفة العقوبة.. نساء الرسول لايستطعن الزواج بعد وفاة الرسول .. الرسول نفسه حرم عليه الزواج من نساء أخريات فوق نسائه .. حتى ولو أعجبه حسنهن الحبيشي ( مقاطعاً ) : هل تقصد أن الرسول لايستطيع أن يتزوج فوق نسائه؟ البنا : طبعاً. الحبيشي : ولكنه تزوج أكثر من خمس نساء؟ البنا : خلاص.. بعدما تزوج ذلك العدد لم يعد مسموحاً له بنص القرآن.. ولكني أسأل فقهاء ((الحجاب )) .. كيف نفسر بالعقل آية ” ولو أعجبك حسنهن”؟ .. كيف يمكن لرسول الله أن يلاحظ “حسنهن” إذا كانت المرأة الحسناء مغطاة بقطعة قماش ؟!! لا يجوز ان نسمح لانفسنا باستخراج أي حكم من نص قرآني الا اذا جاء صريحا بصورة لا تقبل التأويلات المتعددة والمتناقضة.. لانه اذا قبلنا التأويل ظهر الاحتمال.. وإذا ظهر الاحتمال بطـُل الاستدلال. لا توجد أية قرآنية فيها نص صريح لا يقبل التأويل وتوجب حجاباً على المرأة .. الآية التي يمكن ا ن نقول عن نصها انه لايقبل التأويل هي : ” وليضربن بخمرهن على جيوبهن” .. والأية هنا تنص بصراحة لاتقبل التأويل على وجوب ستر فتحة الصدر حتى لايظهر منها الثديان أو أحدهما.. والمعروف أن المرأة تستر ثدييها بالفطرة لأنّه من العورات المغلظة. الحبيشي : الجيب معناه فتحة الصدر بحسب كل قواميس اللغة المعتبرة؟ البنا : نعم.. الجيوب هي فتحات الصدر.. هذا هو المقصود في الآية.. والمعروف ان النساء في ذلك الزمان كن يلبسن اثواباً فتحات صدرها كبيرة حتى تتصل بالثديين لتسهيل ارضاع الطفل.. كانت النساء في الجاهلية يفضلن اسهل الطرق لإرضاع الاطفال مما يؤدي إلى ظهورالأجزاء العلوية من الثدي .. ولو كان الصدر مقفولاً حتى الرقبة ستكون عملية الارضاع صعبة جداً. ايضاً النساء يفضلن احياناً لبس قلادة على الرقبة للزينة تمتد على منطقة الصدر فجاء القرآن وأمر بستر منطقة الصدر. اما كلمة “يدنين عليهم من جلابيبهن” فانها تحتمل أكثر من معنى لان المفسرين اختلفوا في تفسير كلمة “يدنين” ابن عباس ومجموعة من المفسرين القدامى قالوا إن الخمار يجب أن يسقط على الوجه كله لأن الخمار للرأس .. فطالما أن الخمار يسقط على الرأس فلابد أن يشمل الوجه.. بعضهم قالوا لابد أن نترك عيناً مفتوحة للرؤية وقالوا إن العين اليسرى أفضل. الشيخ الشعراوي قال ان كلمة “يدنين” تعني ان الثوب يجب ان يكون طويلاً ويغطي سيقان المرأة حتى الأرض.. لم يتكلم الشعراوي عن عباءة بل تكلم عن ثوب طويل.. اماابن عباس واخرون فقد تكلموا عن الرأس و الوجه و الخمار ولم يتكلموا عن بقية اجزاء جسم المرأة!؟.. بعضهم قال ان عورة المرأة كل بدنها عدا الوجه والكفين .. وآخرون أضافوا صوتها الى سلسلة العورات المغلـّظة .. وهكذا دواليك اصبحت المرأة أشبه بجثة في مشرحة يقتطعون منها اجزاء للحجاب ويتركون اخرى بدون حجاب كما يشاؤون! الحبيشي : افهم من كلامك انه لايوجد حديث صريح عن عباءة .. يعني حتى الشعراوي لم يتكلم عن عباءة وانما تكلم عن ثوب طويل. البنا : طبعاً.. هذه اجتهادات ولا يوجد نص قاطع لايقبل التأويل.. النصوص الخاصة بالحجاب تقبل التأويل.. وبالتالي تقبل الاحتمال وبالتالي يبطل الاستدلال.. ولذلك كثرت الافهام والاجتهادات في فهم وتأويل تلك النصوص.
الحبيشي ( مقاطعاَ ) : للدكتور حسن الترابي تعريف للحجاب قال فيه :” انه الثوب الذي لايرف ولا يشف ولا يصف”.. وهو في هذا التعريف يتحدث عن ثوب وليس عباءة؟ البنا : بعد كل هذا .. بعد كل هذا.. الحجاب قضية آداب.. قضية اعراف وتقاليد شائعة ولايجوز رفع الحجاب الى مرتبة الفرائض التي لاتمس العقيدة والالوهية ولا تنكر الرسل واليوم الآخر. الحبيشي : ما رأيك ــ بهذه المناسبة ــ في الذين يقولون ان الحجاب يعد ركناً من اركان الإسلام إذ ْ تضمنت حملة قوى الإسلام السياسي على شيراك عندما أصدرت الحكومة الفرنسية قانونا يعتبر الحجاب من الرموز الدينية الممنوعة في الأماكن العامة ــ والمحصورة في المنازل ودور العبادة ــ اتهامها له بانه كان يريد ان يفرض على المسلمين الغاء ركن من اركان الإسلام ؟ البنا : هذا كلام فارغ .. الحجاب بمعنى ستر الوجه أو ستر شعر الرأس هو تقليد ليس أكثر ولا يعد فريضة.. ما يقوله الفقهاء اليوم حول الحجاب سواء فقهاء الازهر أو فقهاء الفضائيات هو تكرار لأقوال فقهاء الامس . الحبيشي : استاذ جمال .. لو كان الحجاب فعلاً ركناً من اركان الإسلام وفريضة إسلامية.. فلماذا منع سيدنا عمر بن الخطاب عن الجاريات المسلمات ارتداء الحجاب.. هل ثمة إسلام للحرائر وإسلام اخر للجواري .. أم أنّ فرائض وأحكام الإسلام تعد تكاليف شرعية واحدة على كل مسلم ومسلمة ؟ البنا : كان ذلك تواصلاً مع ما كان يطبقه مجتمع الاشوريين منذ ثلاثة الأف سنة .. كان المجتمع الاشوري يعاقب المرأة الحرة اذا اسفرت ويعاقب الجارية اذا تحجبت.. هذا النوع من الحجاب هو من رواسب ثقافات ما قبل الإسلام .. وأنا أرفض فرضه على النساء باسم الإسلام. الحبيشي : ولكنك لم ترد على جوهر سؤالي .. هل معنى ذلك ان الله شرع إسلاماً للأحرار وإسلاماً للعبيد.. مع ان البشرية ــ منذ صدور الاعلان العالمي لميثاق حقوق الانسان ــ لم تعد تعترف بالعبودية والتشريعات والأحكام التي تحددها الشريعة الاسلامية وتميز العبيد عن البشر الاحرار؟ ألست معي في إنها تشريعات معطلة وغير ممكنة التحقيق في هذا العصر .. ولا يجوز إتهام من لا يطبقها بأنه ينتمي الى الطائفة الممتنعة عن تطبيق الشريعة ؟
البنا : اتفق معك في ذلك وأضيف اليه ان الحجاب لو أكان ركنا من اركان الاسلام وفريضة الهية للمرأة المسلمة لكان من واجب سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه فرضها على المرأة الجارية المسلمة .. لان الإسلام واحد في احكامه وفرائضه الشرعية التي يجب أن يلتزم بها كل مسلم ومسلمة .. ابن حزم هو فقيه كادت اراؤه ان تشكل مذهباً خامساً اضافة إلى مذاهب السنة الاربعة المعروضة.. وقد انتقد اراء الفقهاء حول الحجاب.. وقال انه من غير المعقول التمييز بين النساء المسلمات. الحبيشي : استاذ جمال، انت شاركت في نقد الحملة على الرئيس الفرنسي شيراك ، ووقفت إلى جانب شيخ الازهر وقلت بعبارة صريحة ان شيراك لم يخطئ بدعم قانون منع استخدام الرموز الدينية في المدارس الفرنسية.. لا اريد تبريرك لهذا الموقف بقدر ما أريد رأيك في الخطاب الذي تميزت به الحملة الرافضة لقرار شيراك.. ثمة مفارقة في موقف هذا الخطاب الذي تبنته قوى الإسلام السياسي ومشايخ وملالي أحزاب الإسلام السياسي.. فقد كان هؤلاء يحرضون ضحاياهم وتلاميذهم ضد العلمانية ويصفونها بمعادة الدين .. كانوا يشهرون تهمة العلمانية سلاحاً لتكفير خصومهم الذين يختلفون معهم سياسياً وفكريا طالما انهم يصرون على دخول حلبة السياسة برداء الإسلام. من المفارقات العجيبة والمدهشة أنهم اتهموا القانون الذي تبناه شيراك بانه معاد للعلمانية.. وقالوا ــ هذه المرة ــ ان العلمانية تعترف بالحرية الدينية وتضمنها ، على النقيض من التعبئة الخاطئة ضد العلمانية حين كانوا يتهمونها بمعاداة الدين ومصادرة حرية العقيدة.. بالامس كانوا يستخدمون العلمانية كتهمة وسلاح لتكفير مخالفيهم .. واليوم يلوذون بالعلمانية ويحتمون بها ضد القانون الفرنسي الجديد بشأن منع استخدام الرموز الدينية في الجامعات والمدارس .. ما هذا التناقض.. ما هو تعليقكم؟ البنا : هي الانتهازية بعينها .. نعم انها الانتهازية السياسية في اسوأ معانيها وصورها والتي ندعو إلى عدم خلطها بالإسلام .. لقد قلت رأيي ــ ولازلت عند هذا الرأي ــ ان الحجاب ليس فريضة دينية مطلقاً .. وانه نوع من الأعراف والآداب والتقاليد الاجتماعية.. صحيح ان الاسلام اعترف بالعرف .. لكن الاعراف والتقاليد الاجتماعية ليست مطلقة .. ليست ثابتة.. انها متغيرة ومتحولة .. ويمكن ان تزول تماماً بفعل قوانين التطور. الاهم من كل ذلك يا أخي وصديقي أحمد ان القرآن لا يفترض في المسلم الكمال .. لايفترض ان المسلم لا يخطئ ولايذنب.. القرآن على العكس من ذلك يتحدث لنا عن ” الذين يجتنبون كبائر الاثم والفواحش إلا اللمم ” .. في بعض الاحاديث عن ابي هريرة تعريف لكلمة ” اللمم ” انه كل ماهو دون الجماع مثل : القبلة والنظرة والاحتضان والعناق وحتى المفاخذة .. القرآن افترض الضعف الانساني عند البشر.. افترض ان المسلمين جميعاً سيقعون في ذنوب.. ووعد بالمغفرة والرحمة .. واعتبر انها ” اللمم “.. حتى المرأة المتبرجة التي تكشف صدرها وتخالف النص القرآني لايعتبر القرآن انها تنتهك اصول العقيدة والشريعة .. فهي ترتكب ذنباً يمكن ان تكفر عنه بحسنات كثيرة. الحبيشي : حديث الحجاب يا أستاذي سيقودنا إلى حديث الفصل بين الرجل والمرأة .. بين تعليم الطلبة وتعليم الطالبات .. بين مجالس النساء ومجالس الرجال.. بين مواقع عمل النساء ومواقع عمل الرجال .. الأمر الذي ينذر بمخاطر العودة الى حيز للحريم .. وآخر للرجال !!
في كتب السيرة النبوية نطالع وقائع تاريخية جديرة بالتأمل .. كانت النساء يجلسن في مجالس الرجال .. ثمة امرأة ــ كمثال وما أكثر هذه الامثلة والوقائع ــ تأتي إلى مجلس الرسول صلى الله عليه وسلم وتسأله امام الرجال عن أمور خاصة وتفاصيل دقيقة .. تتعلق ليس فقط بحياتها الخاصة .. بل وبحياتها الجنسية مع زوجها .. وهو ما لايمكن حدوثه اليوم .. بل ولا نطالب به.. ماهو تعليقك؟ البنا : كانت المرأة في العهد النبوي تمتلك حرية كاملة وواسعة في الاختلاط بالرجال في الحرب أو السلم .. كانت المرأة تحارب بالسيف الى جانب الرسول عندما هرب الرجال من أمامه وقال عنها : هي خير من فلان وفلان اينما انظر اجدها أمامي . لنأخذ مثلاً أخر زينب بنت الرسول التي قررت ان تجير زوجها أبا العاص وكان مشركاً فتبدأ عند صلاة الفجر إجارة زوجها وتقول للناس بمجرد ان يقول الرسول “الله أكبر” : ايها الناس اسمعوا.. لقد اجرت زوجي ابا العاص .. نعم كانت تقول ذلك بأعلى صوتها أمام الملأ أمام الرجال في المسجد .. كان الرسول يقول لها : ” قبلنا إجارتك زوجك المشرك ولكن لاتقربيه فإنه لايحل لك ” .. فانت مسلمة وهو مشرك. كيف يكون ذلك .. امرأة مسلمة بل وبنت الرسول تأتي لتجير زوجها في المسجد امام الرجال .. بينما يأتي اليوم من يطالب بفصل المرأة المسلمة عن الرجل المسلم في العمل والدراسة والسوق والمزرعة والمصنع .. بل ويصف صوتها بانه عورة!. في حرب صفين كان للامام علي بن ابي طالب نساء نصيرات وخطيبات في أعلى درجة من الخطابة .. كن يقفن بين صفوف الرجال المقاتلين ويثرن حماسة جند علي بن ابي طالب بشن حملات شعواء ضد معاوية وانصاره. بعد الحرب .. عندما آل الأمر لمعاوية استدعى احدى اولئك النساء المعارضات وقال لهــا:هل تتذكرين الكلام الذي قلته ضدي .. فردت عليه اجل .. قال لها لقد شاركتِ عليا في كل دم سفكه!! تصور مدى نفوذ وتأثير مثل هذه الخطيبة في إلهاب مشاعر الجند واثارة حماسهم الى الحد الذي يجعل معاوية يقول لها “انت شريك لعلي في كل دم سفكه”!!! هناك وقائع كثيرة تنقلها لنا كتب التاريخ عن سيرة المرأة في عهد الرسول وفي عهد ابي بكر و عهد عمر ابن الخطاب .. ما يدل على حضور النساء في الحياة العامة.. معاوية استنجد بموروث الثقافة الرومانية في الشام لقمع وتهميش النساء المعارضات فانسحب الامر على كل النساء في عهده باستثناء حريم يزيد ابنه والخلفاء من بعده ؟!!!!؟ صحيح ان الإسلام ورث عن ثقافات ما قبل الإسلام رواسب معادية للمرأة . لكن الاسلام عمل على إزالة هذه الرواسب التي تتعارض مع قيم الاسلام ومقاصده.. كانت الثقافات الاغريقية والفارسية والرومانية تحقر المرأة.. لم يكن في بداية الاسلام نصير للمرأة غير محمد.. تقول لنا كتب التاريخ ان ابا بكر صفع ابنته عائشة فلاذت بالرسول.. وبعد وفاة الرسول رمى عمر بن الخطاب عرض الحائط بالمفاهيم التي تهين المرأة وقال قولته الشهيرة : ” اخطأ عمر واصابت امرأة “.. ثم يأتينا أبو حامد الغزالي بعد حوالي 480 سنة من هذه الواقعة ليحذر الرجل من الأخذ برأي المرأة .. ويفتي بضرورة مخالفة رأيها لأن في خلافها بركة بحسب زعمــه !!
ثمة مثال اخر في قول الرسول :” لاتمنعوا إماء الله من مساجد الله ” رداً على احتجاج الرجال على مشاركة النساء المسلمات للرجال المسلمين في أداء الوضوء والصلاة في المسجد حيث لم يكن هناك فصل بين النساء والرجال كما هو الآن.. كان قول الرسول الذي أوردناه هو رد على محاولة عمر بن الخطاب منع امرأة من أداء الوضوء لانها كانت تمسح بالماء رجليها حتى الركبة وذراعيها حتى المفاصل أمام الرجال!!. تقول لنا كتب التاريخ ان عمر بن الخطاب حاول منع امرأة من الاستنجاء .. وقال لها انه لا داعي لاستنجاء المرأة فردت عليه : يابن الخطاب اتمنعني من الصلاة؟ .. ثم تضيف : ” لقد صليتها مع رسول الله وانت تنهاني عنها ” .. فقال لها عمر بن الخطاب : انا لا انهاك ولا استطيع ذلك ولكني لا أقبل ان اشاهد ذلك . ايضاً تقول لنا الكتب ان الزبير هاج لان رجلاً ترصد امرأة في الغسق بينما كانت تتجه إلى المسجد لاداء الصلاة.. وبعد ذلك اضطرت هذه المرأة إلى عدم اداء الصلاة في ذلك الوقت .. فلما سألها عن السبب اجابته : لقد فسد الناس يا بن الخطاب .. فقام الزبير يخطب في الرجال عن ذلك الشخص الذي يحول بين امرأة والمسجد ليمنعها واجباً فرضه الله عليها وحقاً منحها إياها الرسول. هذا يدل على ان ثمة رواسب جاهلية كانت موجودة في عهد الرسول وعهد الخلفاء الراشدين .. وكان يتأثر بها بعض الصحابة.. كان لفعل رواسب الجاهلية تأثير على بعض المفاهيم الممارسات ضد المرأة. الحبيشي : ثمة من يرى ان التشدد في فرض الحجاب على المرأة ، وإجبارها على فعل ذلك تحت دعوى ان الحجاب فريضة إسلامية ، لايختلف عن التشدد في التمييز ضد المرأة داخل العالم الإسلامي! البنا ( مقاطعا ) : كويس انك قلت داخل العالم الإسلامي ولم تقل في الإسلام . الحبيشي ( يواصل السؤال ) : انت تؤكد ايضاً على ان لهذا التشدد جذورا في حضارات وثقافات ما قبل الإسلام حينما كانت المرأة تتعرض للإهانات والاضطهاد .. هل يمكن اعطاء مزيد من التوضيح ؟ البنا : اولا يجب ان يكون مفهوما الموقف المعادي للمرأة في حضارات وثقافات الهند والصين والاشوريين واليونان والرومان وفارس وبيزنطا .. كلها عملت على إهانة المرأة وتحقيرها وتغييبها عن المجتمع وقصر دورها على البيت وكانت اداة ذلك هي الحجاب وفرض وصاية الذكر عليها .
ثانيا : تحالفت النظم الاجتماعية والقوانين والتقاليد السابقة للإسلام كلها منذ فجر البشرية وحتى مشارف هذا العصر على تأخير المرأة واعطائها صفة دونية ، ومكانة منحطة .. وحرمتها الحقوق والاستقلال بشؤونها كاملة .. وفرضت عليها الحجاب الى جانب وصاية الذكر .. حدث هذا قبل ظهور الإسلام بوقت طويل بحيث يمكن القول ان الإعتقاد بضرورة الحجاب ووصاية الذكر ( ولي الأمر ) على المرأة ، فرض نفسه باسم الاسلام المفترى عليه .. بدلاً من القول ا ن الاسلام هو الذي انفرد بفرض الحجاب ووصاية ولي الأمر الذكر على المرأة. الحبيشي : وماذا عن علاقة الحجاب بالشرف والفضيلة ودرء الفاحشة؟ البنا : التبست هذه القضية في الاذهان بالشرف.. وفي تقديري فإن الشرف ليس عنصرا اساسيا في قضية الحجاب بل النزعة الذكورية لانه بقدر تشديد الحجاب على الحرائر، كان الانكار على الاماء اذا تحجبن .. لوحظ هذا في كل الحضارات القديمة كالحضارة الاشورية حيث كان يتم جلد الاماء اذا تحجبن .. وفي بيزنطا كان الحجاب هو الذي يميز المرأة الشريفة عن العاهرة حتى وصل إلى العرب في عهد الرسالة عندما كان عمر بن الخطاب يزجر الاماء المسلمات اذا تحجبن لأنهن يتشبهن بالحرائر المسلمات .. فالنزعة الذكورية هي السبب الرئيس وراء الحجاب وليس الاحتشام والشرف للنساء المسلمات جميعا .. الرجل كان يحرص على حجاب زوجاته وبناته .. إما الاماء والجواري المسلمات فقد كان يحرص على الا يتحجبن فكيف يكون لهن ذلك إذا كان الحجاب فريضة شرعية وركنا من أركان الدين بحسب مزاعم شيوخ الفقه البدوي ؟؟! الحبيشي : حسناً .. وماذا عن النقاب؟ البنا : هو اسوأ وابشع من الحجاب ويرتبط عادة بالمجتمعات البدوية والصحراوية.. وانتشاره في المدن العربية جاء بفعل تدخل قوى النفط والريع النفطي لفرض عادات وتقاليد البداوة على المدن.. وكانت النتيجة سلبية بكل المقاييس.. تشوه الحداثة في المدن وعجز الصحراء عن الالتحاق بقطار الحداثة ، الأمر الذي أفرز ظواهر مدمرة لن تقف فقط في حدود التطرف والإرهاب والعنف .. بل يمكن أن تتجاوز ذلك إلى ما هو أخطر إذا لا يتم تجديد الفقه الاسلامي وإصلاح الفكر الديني وإعادة بنائهما كشرط لتجنب المزيد من الكوارث والمخاطر .
الحبيشي : في كتابكم ” الحجاب ” قلتم ان الكاتب التونسي القديم فضيلة الشيخ الطاهر حداد شبه النقاب بالكمامة التي توضع على فم الكلاب حتى لا تعض المارة.. لماذا اعجبتم بهذا الوصف؟ البنا ( مبتسما ً) : لابد قبل كل شيء من القول ان الحديث عن الوجه والكفين شاع في المئة سنة الأخيرة من عمر المرأة المسلمة وبالذات في بلد متقدم نسبيا مثل مصر .. ولكنه لم يكن كذلك طوال 1300 سنة فرض فيها الفقهاء على المرأة المسلمة حجابا كثيفاً يغطي وجهها والزموها قعر بيتها وحرّموا عليها القراءة والكتابة والعمل.. وقد تخلصت مصر من هذا الوضع بفضل دعاة الاصلاح الاجتماعي، وتحرير المرأة ابتداءً بالشيخ رفاعة الطهطاوي حتى قاسم أمين. اما النقاب فانا ارفضه تماما واعتبره جريمة لا تغتفر في حق المجتمع وفي حق المرأة .. لانه قناع للجبناء ومرتكبي جرائم السرقة والقتل .. ووسيلة مثالية لاخفاء وجوه الخونة والخائنات عند ارتكاب الآثام والمعاصي .. ومن هذه الزاوية استشهدت في الكتاب الذي ذكرته بذلك الكاتب التونسي القديم . الحبيشي : حسناً ما هو الآثر السلبي للحجاب على المرأة؟ البنا : الآثر الاعظم للحجاب على المرأة هو تغييبها عن المجتمع .. فمع ان الحجاب قد لا يمنع الاختلاط .. وقد يكون ستاراً أو باباً يمنع اقتحام السبيل الى المرأة كما هو الحال في المضمون القرآني لكلمة حجاب التي خص بها زوجات الرسول فقط وهن لسن كأحد من النساء.. بيد ان المعنى اللغوي العام لكلمة حجاب سيطر على نفسية الذين تعاملوا معه رجالا ونساء بحيث اخذ شكل النقاب الكثيف الذي يغطي الرأس والوجه ولا يسمح الا بفتحة ضيقة ومحدودة لعين وحدة او لعينين كما ارتأى ذلك بن عباس .. وكان في الوقت نفسه متفقا مع إرث التاريخ وميول المجتمع الذكوري بحيث كانت النتيجة حجب النساء عن الرجل وتغييب المرأة عن المجتمع وعزلها في البيوت.. وإذا تطلبت الضرورات خروجها فيجب ان يتم ذلك باذن وليها ومع محرم أو في هيئة رثة وقذرة كما قال ابو حامد الغزالي .. اما شمس الدين الذهبي فقد ذهب إلى ابعد من ذلك بقوله ان صوت المرأة ايضاً عورة بل كلها عورة ويجب حبسها في البيت مطلقاً . الحبيشي : والنتيجة النهائية ما هي في تقديركم .. كيف كانت؟ البنا : ادى تغييب المرأة عن المجتمع بسبب الحجاب الى ان يحصر عالم المرأة ما بين المطبخ وغرفة النوم .. واذا كانت اماَ يضاف اليها عمل آخر يخرج عن هاتين الغرفتين لارضاع ورعاية الاطفال .. ولكن كل ذلك يتم داخل جدران البيت.. وجميع هذه المهام تستنزف طاقة المرأة وتمارس عليها نوعا من الظلم اذ ْ لا يتم احتساب قيمة هذا العمل الذي تؤديه وتجعله ضمن واجباتها .. انه ظلم.. ظلم كبير لايجوز ان نرهق كاهل المرأة به. الحبيشي : أستاذ جمال الاحظ ان الارهاق بدا عليك.. وأعرف أنك ستسافر على الطائرة فجر الغد .. أي بعد ساعات قليلة .. اشكرك كثيرا واتمنى لك مزيدا من الصحة والحيوية.. وأدعو الله ان يطيل في عمرك .. وأتمنى لك سلامة الوصول الى مصر الحبيبة ..
البنا : اشكرك .. أشكرك كثيراً.. وأنا سعيد بهذا اللقاء وبكل لقاء يجمعني بك .. أنا أحبك في الله كثيرا ً يا أحمد .. يا صديقي المشاغب .. واتمنى لك ايضا الصحة والنجاح في عملك .. وأتمنى أن أراك في القاهرة.
من (الإمام الشيخ ) حسن البنا .. الى (المفكرالمجدد) جمال البنا 1
من (الإمام الشيخ ) حسن البنا .. الى (المفكرالمجدد) جمال البنا 2
من (الإمام الشيخ ) حسن البنا .. الى (المفكرالمجدد) جمال البنا 3