مؤتمر اللويزة اللبناني لملاقاة “إعلان الأزهر الشريف حول المواطنة”
كلمة البروفسور الدكتور أنطوان قربان
أتى مؤتمر الأزهر حول “الحرّية والمواطنة … التنوع والتكامل” الذي صدر عنه في 01/03/2017 “إعلان الأزهر للمواطنة والعيش المشترك” كمتابعة بل كتتويج للجهود والوثائق والمبادرات المنفردة والمشتركة التي قام ويقوم بها منذ سنوات الأزهر ومؤسسات عدة دينية ومدنية في العالم العربي وخاصة في لبنان الذي هو سبّاق في أخذ المبادرة في كل ما يتعلّق بحوار الثقافات والأديان وإدارة التعدّد والعيش سويّاً كشعب واحد موحّد أو “كأمّة واحدة… في دولة وطنيّة دستوريّة” (état national constitutionnel ) [كما جاء في إعلان الأزهر – البند 1] يحكمها القانون الذي يؤمّن المساوات بين المواطنين دون تمييز أو تفرقة أو إقصاء وذلك من أجل حماية ما يسمّيه الإعلان المذكور “عقدا بين المواطنين”. (البند 2).
وكل لبناني شارك في مؤتمر الأزهر (وأنا منهم) سمع وقرأ كلاما مألوفا له وكأنّه صدى من رسالة لبنان انعكس في القاهرة.
سيداتي سادتي
كلامي ينطلق من كوني مجرّد مواطن لبناني يؤمن بمفهوم الفرد-المواطن كما تجلّى في ثقافة الحداثة والذي، حسب قراءتي، لا يتناقض ضمنيّا مع ما جاء في إعلان الأزهر الذي بدوره لا يرفض المبدأ المعاصر التالي: “الإنسانُ الحرُّ يتشرّف بمواطَنةٍ قائمةٍ على القانون وليس على الهوية” مهما كانت طبيعة هذه الهوية: دينيّة أو طائفية أو مذهبيّة أو عرقيّة أو ثقافيّة. وهنا أستشهد بما جاء في البند السادس من الإعلان عندما يدعو إلى استئناف عقد بين مواطنين الدول العربيّة كافة “مسلمين ومسيحيين وغيرهم من ذوي الانتماءات الأخرى” …. فمن هم هؤلاء المواطنون الآخرون الغير مسلمين والغير مسيحيين؟ هل بإمكانهم أن لا ينتمون إلى جماعة دينيّة ما؟
وكلبناني أفتخر برسالة وطني الحضاريّة في ما يتعلّق بالعيش المشترك (vivre-ensemble) الذي يختلف تماما عن التعايش (coexistence). التعايش هو أن تعيش جماعات مختلفة من البشر جنبا إلى جنب في فضاء واحد. أمّا العيش المشترك فهو أن يتشارك أفراد الوطن الواحد بتدبير الشأن العام ضمن العقد الاجتماعي وممارسة السلطة سويا وفقا للأحكام الدستوريّة والقوانين. وهذه هي القاعدة الثابتة للدولة اللبنانيّة حيث هناك شراكة في السلطة بين المسلمين والمسيحيين وداخل كل فئة بين مذاهب وكنائس مختلفة.
وتعترف مقدّمة الدستور اللبناني بأنّ “لا شرعيّة لأي السلطة تناقض ميثاق العيش المشترك”. وهذا النموذج يشكّل حالة فريدة من نوعها إذ أنّ “الدولة الوطنيّة” (état national) هي حكماً قائمة على عقد اجتماعي بين المواطنين ولكن في لبنان هناك أيضا ميثاق أخلاقي بين مكوّناته الجماعيّة. ومن المؤسف أن يفهم ويمارس هذا الميثاق الفريد من نوعه، كما هو حاصل اليوم، بأنّه مجرّد تقاسم حصص في السلطة بين أحزاب فئويّة تحتكر التمثيل الطائفي لصالحها وتتكلّم حصريّا بصوت زعيم لا يعلو عليه صوت آخر.
لقد سمعنا من قبل أصحاب النيافة والفضيلة والغبطة والسماحة والسيادة الأجلاّء كلاما جميلا وراقيا يصبّ كلّه، بالرغم من اختلاف المعتقدات ووجهات النظر، في خانة واحدة وهي كرامة الإنسان. ومن هنا، أي من مفهوم كرامة الفرد البشري (إبن آدم وحوّاء)، يبدأ المشروع السيّاسي الذي من واجبنا ان نضع له رؤية واضحة في كل وطن من أوطاننا العربيّة في هذا الشرق المستباح.
حوار الأديان هو مسألة حيويّة كي يتعرّف المرء على جاره المختلف. ولكنه لا يكفي لأنه لا يؤسّس للوحدة الوطنيّة (أو الوحدة السياسية / unité politique) فهو مجرّد عمليّة تبادل ثقافي وفكري فقط. ولكنّه يسهّل ربّما التداخل المتبادل بحيث يمكن للمواطنين المشاركة الفعّالة في بناء القوانين من أجل تحديد وتنظيم علاقة الفرد، مع هذه الدولة الدستوريّة أو تلك، القائمة “في الأوطان العربيّة كلّها” حسب ما جاء في البند 4 من إعلان الأزهر.
وهناك سؤلان أساسيّان نطرحهما:
- هل هذه العلاقة تتمّ مباشرة في كل مجالات الحياة العامة دون استثناء؟
- أم إنّها، في بعض الحالات من الحياة الخاصّة، عليها أن تتمّ بشكل غير مباشر وبواسطة الجماعة؟ وكيف ينظّم عندئذ دور الجماعة وفي أيّ إطار ومن أجل أيّ هدف؟
فلنسأل ذاتنا، مثلا، عن مرتبة مفهوم الجماعة التي نسمّيها الطائفة في لبنان. أنا كانسان ولدت وترعرعت في بيئة مسيحيّة أعتبر نفسي كمؤمن إبن كنيسة المسيح ولست إبن طائفة لأنّ الطوائف هي تدبير إداري عبر التاريخ في السلطنة العثمانيّة أنتجت في آخر المطاف نظام الملل سنة 1856 حيث كلّ “طائفة/ملّة” اكتسبت الشخصيّة المعنويّة في المجال العام (personnalité morale de droit public) وكأنها جسم كامل مكتمل لأمّة ما. لقد ظنننا أنّنا تخطّينا هذه المرحلة ولكن، يا للأسف، نلاحظ اليوم أنّنا تراجعنا إلى الوراء بشكل مخيف. يكفينا أن نسمع الخطاب السيّاسي المتدنّي أخلاقيّا والذي يستعمل الشأن العام كمنصّة لنشر الحقد الفئوي وتشريح المجتمع والقضاء على وحدته المتماسكة.
لذلك علينا التمعّن كلبنانيّين في البند 2 من إعلان الأزهر الذي يحذّر إلى خطرين أساسيّين يؤدّيان إلى فشل الدول والمؤسّسات الدينيّة والنخب الثقافيّة والسيّاسيّة في أوطاننا:
- أوّلا. استبعاد مفهوم المواطنة كعقد بين الأفراد المواطنين يؤدّي حكما إلى إضعاف شعور الإنتماء للدولة الوطنيّة ويضعفها أمام كل المتربصون بمصيرها.
- ثانيا. ممّا يؤدّي حتما إلى التقوقع في الجماعة والمربّع الطائفي والحديث عن الأقليّات وحقوقها.
لذلك علينا أن نختار: أو المواطنة كأفراد أحرار أو أن نذوب في الجماعة ونستبدل ديموقراطيّة العقد الاجتماعي بصفقات تفاهم تعقد في كواليس النظام الفئوي بين زعماء كتل تدّعي أنّها تحتكر هي تمثيل الشعب اللبناني. ألا يشكل هذا خلل أخلاقي إذ لا يريد أن يحتكم إلى الدستور والمؤسّسات ضارباً بعرض الحائط كرامة كل فرد منّا؟
لذلك نسأل أيضاً ما معنى عبارة “حقوق المسيحيين” أو غير المسيحيين التي يتغنّى بها البعض؟ نحن نتفهم أن يجري تقاسم السلطة والمراكز، في ظلّ نظام طائفي، بأنصاف بين مكوّنات المجتمع المتعدّد ولكن هذا لا يشكل حقّا لي أنا كمسيحي ولا يشكّل أي ضمانة لطائفة الروم الأرثوذكس التي ولدت في وسطها. هذه كلّها تدابير مؤقّتة بانتظار زوال هذا النظام المؤسف. لقد قرّرنا في الطائف أنّنا أوقفنا العدّ وأوقفنا إعتبار معيار الوزن الديموغرافي وها نحن اليوم نشرّح ونميّز أكثر فأكثر شعبنا بكلام عن القوانين الانتخابية تشبه كثيرا نظام التمييز العرقي الذي كان سائرا في إفريقيا الجنوبية.
كما أنّنا نتسأل عن مغزى استعمال مفهوم “تحالف أقليات” في لبنان حيث جميعنا أقليّات. تحالف ضدّ من بالتحديد؟
والسؤال الأكبر هنا هو هل نستطيع الحفاظ على رسالتنا طالما أنّ هناك دولة ضعيفة السيادة وخاصة في مسألة إرادة استعمال العنف المسلّح وشنّ الحروب على شعوب مجاورة.
الخاتمة:
نأمل أن يشكّل مؤتمر اللويزة هذا نقطة انطلاق جديدة للبنان كرسالة سلام للعالم لأن بلدنا مهما عان من الشدائد سيظل رسالة سلام طالما فهمنا العيش المشترك كعقد اجتماعي بين المواطنين وليس كآليّة لتقاسم السلطة بين أفرقاء السلطة.
ولصيانة هذه الرسالة علينا متابعة العمل ليس فقط بالمؤتمرات والوثائق تنظّمها لجان متابعة وهيئات حوار ولكن بالعمل على الأرض للحفاظ على سلام لبنان كما كان يوصي به دائما المرحوم سمير فرنجيّة.
مهما اشتدّ العنف في الجوار فمسؤوليّتنا الأولى هي أن نحافظ على هذا الوطن كواحة سلام ومساحة للحوار ونموذج للعيش المشترك وليس كممرّ للمقاتلين من المشارق والمغارب. هذا هو النأي بالنفس الصادق والحقيقي.
وهنا تقع مسؤوليّة كبيرة على المؤسّسات العامة والدينيّة والتربويّة كما الهيئات الثقافيّة من أجل تطوير مناهجها لتنقيتها من كل ما يشبه الكلام الفئوي الذي يقصي الآخر. لذلك:
- نقترح على الدولة اللبنانية إقامة هيئة رسميّة مؤلّفة من مواطنين مدنيين تكمّل وتطوّر هيئة الحوار الوطني الحليّة يكون لها صفة المرصد الدائم للمواطنة والعيش المشترك.
- كما نقترح على السلطات اللبنانيّة أن تبذل أقسى جهودها .أمام الهيئات الدوليّة والجامعة العربيّة كي يعترف المجتمع الدولي بوطننا لبنان كمركز دائم للحوار بين الثقافات والأديان.
وفي الختام أريد أن أذكّر المثقّفين في لبنان أن لهم دوراً بفائق الأهمية. فأنّ المثقّف ليس ناشطاً سيّاسيّاً لأنّ دوره الأساسي هو أن ينصهر في الحياة العامّة لكونه حارساّ للقيم وبدون الأخلاقيّات وقيمها لا مكان لشيء اسمه حضارة وشأن عام. وهذا ما كان يردّده دائما المؤرّخ الكبير أرنولد توينبي (Arnold Toynbee) قائلا:
“الحضارات لا تموت قتلا بل تنتحر”
وشكراً لإصغائكم
*
إقرأ أيضاً على “الشفاف”:
مؤتمر الأزهر في القاهرة: “الرائحة اللبنانية”
في مؤتمر الأزهر: الحرية والمواطَنة- التنوُّع والتكامل