يتهدد العاملين في الحقل الثقافي العربي ضغط مزدوج: من أعلى ومن أسفل. يتجلى الهابط من أعلى في القوانين المكبلة للحريات، وضيق صدر الحكومات بالنقد. أما الصاعد من أسفل فيتمثل في المجتمع نفسه: “الناس”، “الشعب”، وما أنجبته هيمنة الحقل الديني، على مدار قرون، على الحياة العامة والخاصة من قيود، على حرية العقل والخيال، تصاعدت في العقود الأخيرة بشكل غير مسبوق في تاريخ العالم المعاصر.
وقد أفرز هذا الضغط نتائج مأساوية، تماماً، في العالم العربي، فعطّل إمكانية التفاوض السلمي لحل الخلافات بين الأنظمة والمجتمعات، وبين الطبقات الاجتماعية نفسها، وعطّل إمكانية التفاعل السلمي والإيجابي بين مختلف الحقول السياسية والاقتصادية والدينية والثقافية، فالحقل الثقافي (في كل مكان من العالم) هو البيئة المثالية لسجال الفاعلين الاجتماعيين، وتفاعل وتوليد القيم، والرقابة على الشأن العام.
وليس ثمة من شاهد على تضافر الضغط الهابط من أعلى، والصاعد من أسفل، أكثر بلاغة من أضلاع ما أسماه بوعلي ياسين، بالثالوث المُحرّم: الجنس، والسياسة، والدين. فالاقتراب أكثر مما يجب من أحد الأضلاع مجازفة محفوفة بمخاطر تهبط من أعلى، وتصعد من أسفل، ولا يندر أن تكون متزامنة، ومن الجهتين.
لذا، يمارس كافة الفاعلين في الحقل الثقافي العربي نوعاً من الرقابة الذاتية، الدائمة، لتفادي مجازفة كهذه. وغالباً ما يكون ضغط الحكومات “أرحم” من الضغط “الشعبي” الصاعد من أسفل. ففي مصر فرّق القضاء بين نصر حامد أبو زيد وزوجته، ولكن فرج فودة قُتل نتيجة ضغط من أسفل. ومحاولة قتل نجيب محفوظ، العربي الوحيد الفائز بنوبل للآداب جاءت من أسفل، وفي لبنان قُتل حسين مروّة ومهدي عامل نتيجة ضغط من أسفل.
الضغط الصاعد من أسفل، وتضافره مع، وتحريضه على، ضغط من أعلى، ليس جديداً، فمحاكمة طه حسين، وطرد على عبد الرازق من الأزهر، أحداث وقعت في “الحقبة الليبرالية” (التسمية لألبرت حوراني) العربية، وسبقت حكومات العسكر، والصراع العربي ـ الإسرائيلي، والحرب الباردة، والطفرة النفطية، والزواج الوهابي ـ الإخواني. وربما يتجلى أحد المعاني المُحتملة لليبرالية ذلك الزمن في حقيقة أن “الإسلام وأصول الحكم” “وفي الشعر الجاهلي” قد سبقا زمن الدواعش بعقود طويلة، فلو تأخر بهما المقام إلى يوم الناس هذا لكان فيهما ما يبرر الخوف على صاحبيهما.
ولكن الفرق بين الزمنين يستدعي تأويلاً إضافياً، فشروط العلاقة بين الحقلين السياسي والديني قد اختلفت. نشوء الدولة الحديثة زعزع العلاقة التقليدية بين الحاكم والفقيه، ومع ظهور البرلمانات، والأحزاب، والدستور، و”الشعب”، وصندوق الاقتراع، فقد الحقل الديني ما استقر عليه من مركزية، في الحياة العامة، على مدار قرون خلت في ظل أنظمة مملوكية، وسلطانية، وعثمانية، تنتمي إلى ما قبل الدولة الحديثة.
لذا، أصبح لزاماً على الحاكم والفقيه إعادة التفاوض، في ظل ظروف اقتصادية، وسياسية، واجتماعية جديدة، وكان في وسع الأخير، بوصفه أحد مصادر الشرعية، العمل على تحسين شروط الشراكة بالرهان على رأسماله الرمزي لدى “العامة”، والتلويح بإمكانية التحريض، أو التمرّد، أو الانحياز إلى طرف ضد آخر في توازنات السلطة، إذا استدعي الأمر. وبهذا المعنى يصلح حسين وعبد الرازق كوسيلتي إيضاح لآليات التفاوض بين الحقلين السياسي والديني.
وما لا ينبغي ألا يغيب في المقارنة بين زمنين أن شروط التفاوض قد اختلفت الآن، بعد الطفرة النفطية، وإفلاس مشاريع التحديث والتنمية في الجمهوريات الراديكالية، فالفقيه، الذي لم يعد معنياً حتى بامتلاك معرفة عميقة بالعلوم الدينية، لا يريد تحسين شروط الشراكة، بل مصادرة الحقل الثقافي، والاستيلاء على الحقل السياسي نفسه، وإلحاقه بالحقل الديني، بعدما تعاظمت قدرته على التهديد باستثمار ما لديه من رأس المال الرمزي لدى “العامة” (للحقل الديني في العالم العربي وإيران مكانة لا يحظى بها في أي مكان آخر في العالم)، وغير الرمزي (في زمن السلفيات الجهادية).
وقد يجادل البعض في حقيقة أن الحقل الديني يتسم بالتعدد والتنوّع، والتنافر، وتكثر فيه الانقسامات، والتحيّزات، والصراعات، وهذا صحيح. ولكن كل هذا التعدد والتنوّع والانقسام والتنافر محكوم بما يشبه قانون الأواني المستطرقة، فالماء الذي يفيض من جانب يصب في جانب آخر، وخسارة جماعة متطرفة هنا، قد تكون مكسباً لجماعة “معتدلة” هناك، وقد يمارس “معتدل” الابتزاز، والتهديد المُبطّن، بالقول إن عدم حصوله على تنازلات معيّنة من جانب النظام القائم، في هذا البلد أو ذلك، يدفع أنصاره إلى التطرّف (كما فعل التنظيم الدولي للإخوان في بريطانيا محذراً حكومتها من مخاطر حظر فرعه في تلك البلاد). وقد تكون هذه الجماعة أو تلك متطرفة في مكان، و”معتدلة” في مكان آخر.
أسهمت استراتيجية النخب السائدة في التفاوض مع الفاعلين في الحقل الديني، على شروط جديدة للشراكة، ولا تزال، في تعزيز قانون الأواني المستطرقة، فهي تقوم على أولوية احتواء “المعتدلين”، بالاسترضاء، وتقديم التنازلات إذا استدعى الأمر، وعلى الاستثمار في الحقل الديني نفسه، كمقدمة لعزل وتهميش المتطرفين بالحلول الأمنية، وأحياناً بالمراجعات “الفكرية”. والمفارقة أن أكثر المجالات، التي تبدي فيها الحكومات ميلاً متزايداً لتقديم التنازلات هي الحقل الثقافي.
وقد ألمحنا، فيما تقدّم، إلى حقيقة أن الحقل الثقافي يمثل البيئة المثالية لسجال الفاعلين الاجتماعيين، وتفاعل وتوليد القيم، والرقابة على الشأن العام، وإذا ما صودر هذا الحقل بتضافر الضغط من أعلى ومن أسفل، فلن يبقى في الساحة سوى الحلول الأمنية، وإرهاب التكفيريين، أي الانتحار الجمعي، وخروج العرب من التاريخ.
khaderhas1@hotmail.com