أخبار المقْتلة الدارفورية كانت تصلنا. لم نكن غافلين عن ارتكابات «الجنجاويد»؛ تلك المليشيات الرسمية الخيّالة التي قتلت رجال دارفور واغتصبت نسائها وحرقت بيوتهم وارزاقهم. لكن الابليس الاسرائيلي والايقونة الفلسطينية حرمانا من الانكباب على غيرهما. وهناك العادة الذهنية التي جعلت اي استشهاد، أي موت نبيل، لا يتم إلا بالأيادي الصهيوينة. ثم ماذا عساها ان تفعل اصوات لا تتعدّى اصابع اليد الواحدة امام جحافل الاعلام المقاوم وجماهيره التي باتت منظمة، غير انتظار قرار من مؤسسة دولية غربية نفذ صبرها بعد عامين من التهرّب والتسويف، عامين على طلبها تسليم متّهَمين رسميَين لارتكابهما جرائم حرب واخرى ضد الانسانية؟ الاول، أحمد هارون، ويا للسخرية، وزير الشؤون الانسانية في حكومة البشير. والثاني، علي عبد الرحمن، قائد «قوات الدافع الشعبي» في دارفور، والملقب بـ «علي كشيب» (على شبه بعلي الكيماوي. هل نتذّكر؟).
صدام نتذكره اليوم. يحييه البشير ويحيي روحه «النضالية» ويكرره، لكن بشيء من التبلور. صحيح ان ما تمكّن إستخلاصه من تجربة نظيره العراقي ان الرد الوحيد هو المزيد من التبجّح الاستبدادي. لكن أُضيف الى سجل ذريعته، أميركا واسرائيل، مزيد من الجرائم في العراق وغزة. حظ سياسي خارق! تدعمه آلة تكرار المعاني بالجملة، وتصيغها محتلف طبقات «الامة» من «ابسطها» الى اعقدها. «الجماهير» اولا؛ ليس المنظمة فحسب، المدفوعة الاجر والمعفاة من العمل (القليل) كي تنزل الى الشارع تأييدا لزعيمها. فالمثقف «العضوي»، التلفزيوني غالباً، يليها. ومهما علت رتبته الى «مفكر» ، أو ما يوازيه ، فانه محكوم ذهنيا بالصيغة اياها. لا يبتعد عنها شبرا واحدا. وقوام هذه الصيغة: جرائم البشير؟ وماذا عن جرائم الامبريالية والصهيونية وجرائم حكومات غربية أخرى؟ ولا يخرج منطق السياسيين الرسميين وغير الرسميين عن هذه المعادلة، وإن بطرف شفاهم. يؤيدون مبدئيا القرار الصادر عن المحكمة الدولية لكنهم «يتساءلون» حول «غياب الحماسة الدولية لمحاسبة اميركا واسرائيل». كأنهم، وهُم على ما هم عليه من معرفة بموازين القوى، لا يعرفون الجواب. ولكنهم على التباسهم وافتعالهم الاسئلة، ادنى حماسا من قادة دول ومنظمات «مقاومة» لأميركا واسرائيل وقد هرع ممثلوهم الرسميون في اليوم التالي للقرار ليساندوا سلطان السودان فأحيوا فيه فكرة «تشكيل جبهة مناهضة من الدول الصديقة والحلفاء» قد ينضم اليها شافيز. من يدري!؟
اذاً نحن الآن امام تخنْدق جديد ضد الاتهامات الموجهة للبشير. جماهير واحزاب ومثقفون وسياسون وزعماء وقادة ضد إحقاق الحق الممكن، وبمنظومة من الحجج تجد آذانا متشوقة لسماعها.
أولا ذريعة جرائم اميركا واسرائيل: العدالة الدولية ليست فعلا عادلة بالمطلق، وهي قادرة فقط على «التحرش» بالدول الضعيفة «الواقفة في وجهها». والدول المقصودة متداعية فقيرة منكوبة، تقود المجازر ضد اهلها في حرب اهلية هي طرف فيها. والمطلوب عدالة نسبية لم يعرف التاريخ غيرها. والذين يطالبون بإلغاء قرار المحكمة بذريعة التمييز هذا، وباسم عدالة مطلقة يعلمون انها لن تتحقق، بل ليس من مصلحتهم تحققها، انما هم لاعبون غير اخلاقيين فوق انهم خاسرون. فالبشير عندما يطالب باعفائه باسم مجازر غزة، لا يفعل غير الكشف عن حقيقة التهمة بتماهيه مع جرائم الاقوى. كأنه يقول: «أوكي انا مجرم، لكن هناك من اصحاب الحصانة من هو مثلي».
يقّسِّم احد «العقلانيين» المتناقشين حول المحاكمة الى فئتين. واحدة «طهرانية» لم تعد قادرة على تحمل القتل في دارفور، ولا تعير أي اهتمام لردود فعل البشير التدميرية على الاتهام. ثم فئة «البراغماتيين» الذين يتساءلون عن جدوى العدالة ان كانت سوف تؤدي الى اشعال الحروب والجرائم. ليس من السهل التعامل مع هذه المفاضلة بما تنطوي عليه من ابتزاز ضمني يحاكي الوقائع من زاوية نظر الأقوى على «أرض الواقع» والممْسك بحيوات الناس فيها. اما هذا الاقوى، أي الرئيس السوداني، فرده ليس اقل افصاحا عما فهمه وهضمه من قرار الاتهام الدولي. الارقام لا تهم حقيقة هنا. الحكومة السودانية تعترف بـ10.000 قتيل فقط! فقطّ! وما اهمية العدد هنا؟ حتى لو نقص الفين او ثلاثة: 8000 او 7000… فقط ايضا!؟ والرئيس السابق للدولة الصهيوينة العدو التي أغراها هلاك المواطن في «دولة» السودان ، موشيه كتزيف ، يستجوبه قضاء بلاده بتهم التحرش والاغتصاب لعدد من النساء لا يتجاوز العشرين! فقط عشرين!
ماذا يكون الرد على تهم القتل؟ التسبّب بالمزيد منه. بطرد أهم منظمات الإغاثة، لتخلو المناطق المنكوبة الا من لاجئين عطشى، جياع وتائهين في الصحارى المستباحة. المعادلة بسيطة: إن حاسبتموني على القتل، تسبّبت بموت المزيد تجويعاً وتشريداً.
إبتزاز آخر، معروف ايضاً: أنا السودان والسودان أنا. فلا سودان من غير البشير الا مضرّج بالدم. قاعدة اثبتت ايضاً فشلها: ليس لأنها جذبت مزيدا من الاستعمار فحسب. بل لأنها ايضاً فجرت مجتمعا أقعدته التسلطية وتخثّر جراحه وعصبياته. مع ذلك يطل البشير على «شعبه» اثر صدور القرار بكلمات واشارات تحيلك الى مناخات بدائية وساذجة، ودموية وتسلطية في آن. بغرور وثقة، يكرر دعوة المحكمة الدولية الى بلّ قرارها في الماء وشرب الماء. وكأنه بصدد شجار مع احد جيرانه في حارة يغطّيها الغبار. سيما واننا لا نعرف على ماذا ينهض البشير عندما يخاطب «جماهيره» التي تفتديه بروحها؟. هل هو يعتلي شاحنة؟ ام شجرة؟ ام صخرة؟ ام كومة مخلّفات؟ لكن الذي يبدو واضحا تلك العصا المرفوعة فوق رؤوس «الجماهير»، كأنها سيف داموكليتس: الخضوع للإستبداد الدموي بالخضوع للتهديد الرمزي. لكن ما ليس رمزيا في رقصة العصا التهديدية هذه، هو تلك الكلمات المصاحبة للاغنية. اغان من التراث السوداني تصف القتل المروع للاعداء، وتفرح بالقاء اجسادهم نهبا للجوارح التي تمزقهم ارباً. ورجال البشير يتابعون المهمة عبر التهديدات بقطع الالسن والاطراف وبـ «العودة الى التطرف»… «في حال…».
والأكثر بدائية، تبنّي النضال «الحذائي» ضد الامبريالية والصهيونية. فعن قرار المحكمة الدولية وقضاتها، و «مَن وارءهم» يقول البشير: «كلهم تحت حذائي!». والشيء بالشيء يذكر: فمن ينسى «القطب» اللبناني «المقاوم»، الذي رفع العزة والكرامة الى مرتبة جديدة عندما قال عن المحكمة الدولية لمحاكمة قتلة رفيق الحريري: «المحكمة على صباطي» (أي حذائي)…
dalal.elbizri@gmail.com
كاتبة لبنانية- القاهرة