لأنّ الأحوال بين اليهود والعرب، بين إسرائيل وفلسطين، غير طبيعية، فكلّ ما يبدر من مطلب من أحد الطرفين يثير حالاً كثير التوجّسات والشكوك لدى الطرف الآخر. هذا ما يظهر في الآونة الأخيرة على خلفية ما يتعلّق بمحاولة الحكومة الإسرائيلية دفع المصادقة على اقتراح قانون بخفض الأصوات الخارجة من مكبّرات الصوت المثبتة في المساجد، وذلك لما تشكّله مما قد يزعج قاطنين على مقربة من هذه المكبّرات الصوتية.
ولأنّ طبيعة هذه الحكومة الإسرائيلية، بتشكيلتها الائتلافية اليمينية وبممارساتها العنصرية في الكثير من الأحيان، لا تخفى على كلّ ذي بصر وبصيرة، فإنّ اقتراح قانون يُلزم بخفض الأصوات الصادرة من مكبّرات الصوت في المساجد يثير شكوك الطرف الآخر، أي المواطنين المسلمين. حيث يخرج كثر من هؤلاء بدعاوى مثل كون هذه القوانين عنصرية وما شابه ذلك. غير أنّ أحداً من هؤلاء لم يكلّف نفسه بالنظر إلى هذه القضية من ناحية واقعية وما تشكّله ظاهرة هذه المكبّرات، ليس في الوسط اليهودي فحسب، بل في المدن والقرى العربية على وجه التحديد.
تعاني المدن والقرى العربية داخل إسرائيل، من ظاهرة مكبّرات الصوت ليس فقط تلك المثبتة في المساجد، بل مكبّرات الصوت التي تجوب المدن والقرى طوال ساعات النهار زاعقة بحملات تجارية، بدءاً ببائعي الخضار وانتهاء ببائعي القباقيب والكنادر، والتي لها أول وليس لها آخر. وفي الحقيقة، لا ندري ما هي الأصول الحضارية التي يستند إليها كلّ هؤلاء المزعجين الذين يملأون البيئة ليل نهار بكلّ هذه الضوضاء التي تصمّ الآذان. إنّهم، وفي كلّ هذه السلوكيات، يضربون عرض الحائط بحاجة المرضى والعجزة والأطفال، وسائر البشر إلى الهدوء والراحة في بيوتهم وحاراتهم. إنّه لمن السهل، على خلفية الصراع الإسرائيلي – الفلسطيني، توجيه تهمة العنصرية الى الخصم الإسرائيلي المتمثّل في هذه الحكومة البغيضة في كلّ شاردة وواردة. غير أنّ مسألة الضوضاء في الفضاء العام والحفاظ على بيئة نقيّة من الضجيج لا علاقة لها بالصراع في هذا الوطن. فمكبّرات الصوت في المساجد وما تثيره للمواطن هي مسألة تتخبّط فيها كلّ المجتمعات العربية وفي عقر دار العرب في دولهم العربية بعيداً من إسرائيل وفلسطين ومن الصراع القائم هنا.
وللتدليل على ما نقول، نورد هنا بعض التطرّقات الى هذه القضيّة من أقطار عربية لا يشكّ أحد في مدى إيمان المواطنين فيها بالإسلام وبتراثه. ليس هذا فحسب، بل إنّ كثراً من أصحاب العلم في هذه القضايا الدينية قد تطرّقوا الى هذا الموضوع الإشكالي. ففي سنوات السبعينات، صرّح الداعية الشهير محمد متولي الشعراوي، بأنه «لو كان الأمر بيدي لمنعت استخدام الميكروفونات من المساجد في أذان الفجر». والسبب وراء ذلك واضح للعيان، فساعات الفجر هذه هي أكثر الساعات هدوءاً، حيث يرقد البشر في نوم عميق قبل الاستيقاظ للكدّ بحثًا عن الرزق، فانطلاق مكبرات الصوت هذه هو المثل الأبرز على هذه الحال.
المواطنون في العالم العربي يعانون كثيراً من هذه الظاهرة المقلقة، وكثيراً ما يبحثون عن حلّ لها، كما يستجدون فقهاء المسلمين لوضع حدّ لها. ولهذا يتم التطرّق الى هذه القضية وتنشر فتاوى في هذا الشأن. فها هي الشبكة الإسلامية تعرض فتاوى اللجنة الدائمة ذاكرةً أنّ «ضع جهاز راديو أو نحوه لإذاعة القرآن بصوت مرتفع في المسجد يوم الجمعة قبل مجيء الإمام، لا يجوز… وكذا إذا اشتمل تشغيلُ المذياع على التشويش على الناس، خصوصاً المرضى ونحوهم وأذيتهم فهو ممنوع…». كما أنّ استخدام مكبرات الصوت والميكروفونات يجب «أن يُقتصر في ذلك على المكبرات الداخلية لئلا يتأذى من في خارج المسجد، وأما إذا كان صوت الإمام يبلغ المصلين فلا مُسوّغَ لاستعمال مكبر الصوت في هذه الحال». (أنظر: ”مسائل حول استخدام مكبرات الصوت بالمساجد“، مركز الفتوى، الشبكة الإسلامية). من هنا، نلاحظ أنّ هذه المسألة هي مثار للجدل في العالم العربي والإسلامي لما تتضمّنه من قضايا بدأت تؤثّر سلباً في حياة المواطنين في هذا العصر. لذا، فلزام على النوّاب العرب من القائمة المشتركة في الكنيست الإسرائيلي حينما يتطرّقون إلى هذه القضيّة، أن يبتعدوا من إطلاق الشعارات الشعبوية جانحين إلى المكابرات الصوتية، وأن ينظروا في المسألة بعيداً من الحساسيات النابعة من خلفية الصراع في هذا الوطن. إذ إنّ الدعوة إلى الحفاظ على البيئة هي مصلحة المواطنين أجمعين في معزل عن الخلافات والخلفيات السياسية. ليست مصادفة أن يجد النواب العرب الشعبويون دعماً لهم في رفض هذا القانون من طرف الأحزاب الدينية الحريديّة اليهودية الأكثر تشدّداً من ناحية دينية، إذ إنّ هؤلاء أيضاً يخشون أن يتمّ تقييد إزعاجاتهم الدينية اليهودية.لكن، وكما أسلفنا، لأنّ الأوضاع القومية والوطنية في ربوعنا غير طبيعية، نرى الجميع يجنح إلى الشعبويّة حتّى في القضايا التي يجب أن يكون ثمّة إجماع عليها لمصلحة المواطنين. وعلى رغم ذلك كله، جدير بنا أن نؤكّد أنّ الموقف الأمثل في مثل هذه القضايا هو وضع حدّ للإزعاج مهما كان مصدره، ومهما كانت خلفيات المزعجين، أكانت يهودية أو إسلامية أو مسيحية أو من أيّ طائفة أخرى من الناس. أليس كذلك؟
* كاتب فلسطيني