عادت مراسلتنا مونيكا بريتو بشكل سري إلى سوريا، وهي تروي لنا قصة 66 جثة لا أسماء لأصحابها ترقد في أرض زراعية في منطقة حمص، كان قد تم تسيلمها من المستشفى العسكري إلى رجل دين محلي.
بدلاً من أسماء الضحايا، لا يوجد على الأكفان إلا أرقام مكونة من ثلاث خانات، بعضها يبدأ بـ 9.
“يريدون أن نعود إلى أجواء الخوف من النظام التي كانت سائدة في السابق. إنها طريقتهم في معاقبتنا” يقيم الوضع أحد الناشطين.
( موقع:بريوديسمواومانو)
*
10 – 05 – 2012 – مونيكا بريتو (ريف حِمص، سوريا)
الساحة، مزرعة مهجورة، توجد في وسط اللامكان. أربعة أكوام من التراب تبرز في المكان نفسه، يتناثر عليها ورق مقوى يصعب تخمين أن ما عليه هو أرقام باللغة العربية، رغم الوقت القليل الذي انقضى. الطريق القصير الذي يؤدي إلى الساحة يخلو من الاسفلت، مثل كل الطرق تقريباً التي تغطي محافظة حمص، لكن السكان يعتبرونها آمنة لأن الجيش يركز قواته منذ فترة على الطرق العامة السريعة والمناطق القريبة من المدينة: هكذا شرعوا باستخدام الساحة كمقبرة بديلة في أواخر تشرين الثاني| نوفمبر، عندما بدأ بعض المنشقين من القرية أو المدنيين الملتحقين بما يسمى الجيش السوري الحر، الفصيل الذي يقاتل النظام السوري، بالسقوط ضحايا.
اثنا عشر منهم دُفنوا في المكان. لكن الشيء الذي ما كان يمكن للسكان أن يتخيلوه هو أن تزداد سعة المقبرة المرتجلة، لتكتسب بذلك لقب مقبرة الشهداء. في أوائل شهر آذار| مارس تلقى شيخ في إحدى ضواحي حمص القريبة من بابا عمرو مكالمة من المستشفى العسكري. يروي السكان أنهم طلبوا منه تهيئة قبور لمائتي شخص في إحدى القرى المجاورة، وحددوا له زمان ومكان استلام الجثامين وفرضوا عليه شرطاً: لا مجال لنشر أي فيديو، أو أية صورة فوتوغرافية أو أية رواية عما سيجري. اتصل الشيخ بشيخ آخر من قرية قريبة – يطلب السكان عدم نشر اسمه خشية تعرضه للانتقام – وطلب منه المساعدة في البحث عن مكان للدفن.
وجَّه الشيخ بالحفر في المقبرة المرتجلة، على أن يجري الأمر بشكل سري، لكن الأسرار شيء يستحيل الحفاظ عليه في القرى. وخاصة عندما تكون البلدات المحيطة بحِمص ممتلئة بالنازحين وعندما يكون في كل أسرة واحد، إن لم يكن أكثر، من المفقودين.
عندما أسفر نهار الثامن عشر من آذار| مارس، حضرت القرية كلها إلى المزرعة المهجورة. ظهرت ثلاث شاحنات محملة بالجثث المغطاة بالأكفان البيضاء موجهة من قبل الشيخ: في المجمل، كان هناك 66 جثة. تزاحم النازحون حول السيارات، باحثين عن أسماء الضحايا. لكنها لم تكن موجودة: رقم مكتوب بقلم مؤشر (ماركر) على الأكفان كان المعرف الوحيد. كانت الأرقام مؤلفة من ثلاث خانات، العديد منها تبدأ بـ 9، الأمـر الذي يقدم فكـرة عن العـدد الكلـي للجثث التي دفنت وفـق ذات النهـج. تحوَّل الألـم إلـى غضب، و وُوجهت محاولات الشيخ للقيام بدفن الجثث بمعارضة جميع الحاضرين. خمسة عشر جثماناً فقط من أصل ستة وستين كانوا جاهزين تحت الأرض قبل أن يثور الحاضرون.
“لام السكانُ الشيخ على استعداده للدفن بدون الشعائر الدينية، وأيضاً على قبوله شروط الجيش بعدم الكشف عن الأكفان. الكثيرون منهم كانوا يبحثون عن أعزاء لهم، وبدأوا بتمزيق الأقمشة والبلاستيك التي كانت تغطي الجثث. لم يستطع الشيخ السيطرة على الموقف وتحول الأمر إلى فوضى. وفُتِحَ خمسة وأربعون كفناً”، كما يشرح لنا أبو فارس، أحد الناشطين. “كانت الجثث في حالة سيئة جداً، بعضها كانت أشلاء، وبعضها كانت مقطوعة الرأس، أومحروقة… وبالنظر إلى الأحجام فإن البعض منهم كانوا أطفالاً، لكن كان من المستحيل معرفة إن كان هناك نساء بينهم. أربعة أو خمسة فقط تم التعرف إليهم، وكانوا أشخاصاً من بابا عمرو”.
أقيمت شعائر الدفن أخيراً أمام السكان الحزانى. صور البعضُ فيديوهات بهواتفهم الجوالة، وسجَّل الناشطون اليوم بكاميراتهم: تسجيلاتهم ترافق هذا التقرير (توجد التسجيلات في مصدر النص باللغة الإسبانية). لعلمهم ببنود الاتفاق مع الشيخ فضلوا عدم نشرها علناً: لكن رغم ذلك، تسرب شريط فيديو سيء النوعية وتم نشره على قناة سورية معارضة، مسبباً غضب السلطات. بقية الجثث التي كان يجب أن تكمل العدد إلى 200 لم تصل قط. يروي السكان، أنه عندما رجع الشيخ إلى المستشفى من أجل تولي أمرها، تم احتجازه انتقاماً لعدم قدرته على المحافظة على سرية الجنازة. القبور المتبقية مازالت مفتوحة حتى اليوم.
“إلى أن نعود إلى بابا عمرو لن يكون بمستطاعنا التحري عن الفظائع المرتكبة” يتأسف خالد، ناشط آخر. الدكتور محمد المحمد والدكتور على حزوري، كلاهما من المستشفى الميداني الذي تم تدميره في بابا عمرو، كانا شاهدين على الجنازة المذكورة، ويقولان إنهما سمعا بأن عمليتي دفن مشابهتين تمتا في كفرعايا وشنشار، الأولى كان فيها مائة جثة والثانية كان فيها أكثر من مائتين: وكما في المقبرة السرية المذكورة، كانت الأكفان تحمل أرقاماً بدلاً من الأسماء.
” الطريقة الوحيدة للتأكد من هوية الجثث كانت الحضور إلى المستشفى العسكري، حيث يعطون لكل رقم اسماً، لكن لا أحد ذهب إلى هناك خوفاً من الاعتقال”، يواصل هذا الشاب السوري كلامه. المراكز الطبية العامة في سوريا تستعمل كقواعد عسكرية، والناشطون مثلهم مثل المنظمات الدولية لحقوق الإنسان أبلغوا عن تحويلها من قِبَل النظام إلى مراكز للاعتقال، هذا إذا لم تكن للتعذيب. عندما سقط المستشفى الوطني في أوائل نيسان| أبريل بيد رجال الملازم عبد الرزاق طلاس وجدوا في داخله عدة مخازن مليئة بالجثث. “من المستحيل معرفة إن كان الأمر يتعلق بضحايا جدد لحصار حِمص، أو بالمصابين والمعتقلين الذين تم تصفيتهم أو أنها جثث قديمة لم تدفن قطّ”، يواصل خالد.
مقبرة الشهداء السرية هي رمز للمذابح والخوف اللذين تعرض لهما سكان حمص. هي أيضاً رمز للشك وعدم اليقين. “من المستحيل أن نعرف عدد الناس الذين ماتوا في بابا عمرو في شهر شباط| فبراير الماضي” يشرح أبو حنين، المسؤول عن المركز الإعلامي المدمر في الحي الشهيد بحِمص. “وثَّقنا 126 جثة في القصف، الأمر الذي يمكن تفسيره فقط بلجوء السكان الى البيوت الأكثر حماية، وأربعة أنفاق تحت الأرض، ولأن الله ساعدنا. كانت معجزة. لكن المذابح الحقيقية بدأت بعد ذلك، عندما دخل الجيش على الأرض. في يوم كانوا يقتلون عشرين شخصاً وفي يوم آخر أربعين وفي آخر ستين … ولدينا فكرة صغيرة فقط عن المذابح المرتكبة.” يواصل الناشط، الذي يقدِّر أنه لم يبق في الحي أكثر من ألف شخص. الباقون أخلوا الحي تدريجياً في الأيام الستة والعشرين التي استمرت فيها العملية العسكرية، بفضل الأنفاق التي هيأها الناشطون والجيش السوري الحر. كان سكان بابا عمرو يبلغون ثمانية وعشرين ألفا، انخفضوا إلى نصف هذا العدد في الخريف الماضي عندما اشتدت الهجمات العسكرية.
اليوم يحلم سكانه بالعودة إلى الأطلال من أجل إعادة بناء مساكنهم، رغم الخوف الذي يتملكهم عندما يتذكرون هجوم النظام. “ما زلنا نتساءل لماذا سلمونا الجثث بدون أسماء” يقول خالد بينما يتجول بين القبور، عاضاً على لسانه. “لا أستطيع أن أفسر ذلك إلا بطريقة واحدة: يريدون أن نعود إلى أجواء الخوف من النظام التي كنا نعيشها من قبل. إنها طريقتهم في معاقبتنا”.
ترجمة: الحدرامي الأميني
http://periodismohumano.com/en-conflicto/el-cementerio-secreto-de-homs.html