منذ حوالي الاسبوع هاجم راكبوا دراجات نارية في قندهار بالأسيد فتيات أفغانيات مع معلماتهن في طريق عودتهن من المدرسة، نقلن إثرها للمستشفيات لعلاج الحروق التي شوهت وجوههن. اعتقلت السلطات المهاجمين الذين اعترفوا بانهم من مؤيدي طالبان وعملهم هو لمعاقبة الفتيات والمدرسات لذهابهن إلى المدارس، المتعارض باعتقادهم مع الشريعة الإسلامية.
والسؤال موجه لمن لا يزال يعتقد بأن الطالبان حركة “مقاومة إسلامية”، هل هذا العمل الوحشي مقاومة للاحتلال، أم أنه مقاومة للحضارة الإنسانية؟، علماً أنه ليس عملاً فردياً شاذاً أو نادراً، بل جزء من سياسة اتبعها الطالبان أثناء حكمهم لأفغانستان ابتداءاً من العام 1996.
أفضل من يتحدث عن الحكم الظلامي للطالبان الذي دام خمس سنوات هي إحدى ضحاياه، لطيفة، الفتاة الأفغانية التي بلغت الستة عشر ربيعاً عندما رفرفت رايات الطالبان فوق كابول بعد الانتصار على “مجاهدين” و”مقاومين” آخرين كانوا يتقاتلون على أنقاض المدينة المنكوبة.
لطيفة كانت خططت لإنهاء دراستها الثانوية والتقدم لدراسة الصحافة في الجامعة قبل مجيء كابوس الطالبان ليقطع عليها أحلامها، إذ لم تمض أيام حتى أوقف البث التلفزيوني وأغلقت الصحف وتحولت الإذاعة الافغانية لإذاعة “الشريعة” التي يقتصر برنامجها على تلاوة للقرآن وأناشيد دينية متبوعة بمراسيم “فتاوى” الطالبان المؤكدة لحكم البلاد وفق نظام إسلامي معتمد على الشريعة:
النساءغير مسموح لهن بالذهاب للمدارس أو العمل خارج البيت، وغير مسموح لهن بالخروج من البيت إلا مع محرم، وخصصت لهن باصات نقل عام إلى جانب أخرى مخصصة للرجال. ولم تكتف المراسيم بإجبارهن على ارتداء النقاب “الشادري”، بل تدخلت بلباسهن فيما تحت النقاب إذ منعتهن من ارتداء ثياب ملونة، وحرمت أحمر الشفاه وطلاء الأظافر وأي نوع من مواد تجميل المرأة، رغم أن كل ذلك لا يظهر خلف النقاب. ومنعت المرأة من مخاطبة الرجال، فإذا حدث ذلك العمل “المخالف للمراسيم”، فإنه يقود لإجبارها على زواج فوري من الرجل…
كما منع أي طبيب من لمس النساء وكذلك ذهاب أية إمرأة لخياط (رجل)، ومنع التجار من بيع ملابس نسائية داخلية ومنع الطاليب –مفرد طالبان- من تفتيش النساء على الحواجز أو عند الحدود، وبما أن المرأة ممنوعة من العمل ومكانها البيت ولا يوجد حرس نسائي، أوكل تفتيش النساء وحقائبهن على الحواجز وعند الحدود لأطفال دون التاسعة من العمر، إذ أن الرجال ممنوعون أيضاً من لمس الملابس النسائية حتى لو كانت ضمن حقائب.
لم تسجن المرأة وحدها في بيتها كعقوبة لها لأنها امرأة، فالرجل أيضاً صدرت مراسيم تحدد له كيف يكون ملائماً للشريعة كما يفهمها الطالبان، فهو ممنوع من لبس البدلة وربطة العنق الشائعة عالمياً، بل اللباس الأفغاني التقليدي الإلزامي، بالإضافة لإطالة ذقنه بطول الكف وحلق شاربه حسب الشريعة، وحضور أوقات الصلوات الخمس في أي مكان تواجد فيه، كما منع من إعطاء أولاده أسماء غير إسلامية… ولم توفر المراسيم غير المسلمين من يهود وهندوس ومسيحيين، إذ فرضت عليهم ارتداء ملابس صفراء أو وضع قطعة قماش صفراء على ملابسهم وراية صفراء فوق بيوتهم ليتم التعرف عليهم..
ومنع الطالبان صور الإنسان والحيوان، والموسيقى والأغاني والرقص والشعر والمشروبات الكحولية، والاحتفال برأس السنة ومهرجان الربيع وأي احتفال آخر، فيما عدا عيدي الفطر والأضحى، على أساس انها طقوس وثنية (جاهلية). ومنعوا تربية الطيور والكلاب والقطط واستعمال الصفارة أو حيازة إبريق يصفر عندما يغلي الماء، والطائرة الورقية.. وأعتذر من القارئ لأنني لم أتمكن من معرفة سبب منعهم الصفير والطائرة الورقية!!
وأنشأت وزارة “للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر” لتطبيق هذه القوانين، وأطلقت شرطة طالبان الدينية في الشوارع لجلد المخالفين أو اعتقالهم، مع عدم قبول أي اعتراض أو تذمر أو شكوى. وتقول لطيفة في كتابها “وجهي المحرم” الذي صدر بعدة لغات ونشرته بعد فرارها خارج أفغانستان، أنها شاهدت نساء جلدن في الشارع للبسهن أحذية بيضاء من نفس لون راية الطالبان، ونساء قطعت أصابعهن لوجود طلاء أظافر عليها، كما رأت من نافذة بيتها فتى لم يتجاوز الخامسة عشر، ضبط وهو يشاهد شريط فيديو مع أصدقائه، يضرب بأعقاب البنادق حتى الموت أمام أعين أمه التي حاولت أن تحميه بجسدها فضربت لإبعادها، وجلدت بعد ذلك مرات عديدة لأنها داومت على إلقاء الحجارة على سيارات الطالبان دون أن ترعوي حيث لم يعد يهمها شيء بعد فقد إبنها..
كما تحدثت لطيفة عن اعتقال عشرات الحلاقين الذين قاموا بحلاقة (قصة) للرجال منقولة من الغرب، وعن تدمير تماثيل بوذا في باميان المعلم الأثري الأهم في أفغانستان وذو القيمة التاريخية العالمية، بعد تدمير مقتنيات متحف كابول بأمر من “أمير المؤمنين” الملا عمر لانها تمثل آلهة وثنية، وإيقاف جميع أنواع الرياضة وتحويل استاد كابول إلى ساحة لرياضة جديدة : قطع الأعناق والايدي والارجل وإطلاق رصاصة من الخلف على رأس المرأة “الزانية”، مع جلب الناس بعشرات الآلاف لمشاهدة هذه الرياضة تحت وطأة الجلد بالسياط…
لكن لطيفة لم ترضخ لحكم الطالبان؟ فرغم ضعفها وبنات جنسها، تحدت الطالبان بمقاومتها، مقاومة إنسانية لا تمت بصلة “للمقاومة” كما يفهمها “ثوريو” منطقتنا المبتلاة بأنواع مختلفة من المقاومات المدعاة. خبأت لطيفة كتبها وثيابها الملونة والصور المعلقة على جدران غرفتها وأشرطتها الموسيقية وطلاء أظافرها وأحمر شفافها وألبومات صورعائلتها والروزنامات المصورة…، وأطلقت الكناري من قفصه لتشعر أن شيء ما حر في بلاد الطالبان، بعد أن عانت من سجنها في بيتها ونقابها الذي لم تعتد عليه فقد ضيق تنفسها وحد من رؤيتها وعرقل حركتها فشبهته بسجن متحرك. كما ارسلت كلبها إلى بيت أحد أقاربها ليخبأه في حديقته الواسعة، وطلت نوافذ بيتها بدهان أزرق لكي لا يشاهد أحد لمعة التلفزيون المدار ليلاً.. وألصقت أذنها بالمذياع ذو الصوت المنخفض لتستمع لإذاعات ممنوعة، وحررت مع صديقاتها بخط اليد “مجلة” أسمتها “الفجر” من نسخة واحدة مع صور ملصقة تتناقلها الأيدي سراً.
وطورت مقاومتها مثل عدد من صديقاتها لإنشاء مدرسة سرية متواضعة في بيتها من صف واحد لتعليم أولاد وبنات الجيران دروس أخرى غير ما ساد من تدريس مقتصر على كتاتيب الجوامع لحفظ القرآن، وساعدها أهلها بتوفير قرطاسية وكتب وبتنظيم الدخول والخروج من بيتها للأولاد بطريقة لا تلفت أنظار الشرطة الدينية.
وتحدثت في كتابها عن أمها الطبيبة النسائية التي منعت من العمل حسب شريعة الطالبان، ورغم الأخطار التي تتهدد حياتها إذا عادت للعمل، استقبلت في بيتها سراً نساء مريضات قامت بعلاجهن ضمن حدود الإمكانيات المتوفرة، إذ أن منع الطبيب من معالجة المرأة ومنع الطبيبة أو الممرضة من العمل ترك النساء بلا رعاية صحية من أي نوع.
ولم تكن لطيفة وأمها الوحيدتين، فقد انتشرت المدارس والعيادات السرية رغم الجزع من عقوبات الطالبان، وعملت نساء أرامل لا دخل لهن في بيوتهن، صنعن خبزاً ومأكولات ومطرزات… وأطلقن أولادهن في الشوارع لبيع منتجاتهن، واضطرت أخريات للتسول. وشاركت لطيفة عدد من النساء في خلع غطاء رأسهن أمام موظفي الطالبان في دائرة حكومية احتجاجاً على معاملتهن السيئة، متحملات للجلد والضرب.
انتقلت مقاومة لطيفة وأمها وأخريات لقبول دعوة مجلة “ايل” Elle للقدوم لفرنسا للحديث للصحافة ومنظمات حقوق الإنسان والبرلمان الأوروبي عن اضطهاد المرأة الأفغانية. ومنذ وصولها لفرنسا عن طريق باكستان ثم الإمارات، بدأت استعمال إسم “لطيفة” وهو ليس إسمها الحقيقي منعاً لانتقام طالبان من أسرتها وأصدقائها، وهو الاسم الذي استعملته بعد ذلك لإصدار كتابها الذي لقيت مساعدة متعاطفة في كتابته وترجمته ونشره . ولم يمض عليها وقت طويل في منفاها حتى فر الطالبان من كابول في نوفمبر 2001 أي منذ سبع سنوات من مثل هذا الشهر.
طوال هذا الوقت يحاول الطالبان استرجاع السلطة لإعادة تطبيق شريعتهم، فهل تنجح “مقاومتهم” للحداثة والحضارة والمرأة، هل يسود الظلام كابول من جديد؟ أم تنجح مقاومة لطيفة وبنات جنسها في الدفاع عن حقوقهن؟
هل يقف العالم متفرجاً أم يمد يده لأفغانستان لينتصر التنوير على بربرية الطالبان وأمثالهم في أي مكان من العالم؟
ahmarw6@gmail.com
* كاتب من سوريا