مؤخرا تحولت سيبيريا التي نادرا ما يرد إسمها في وسائل الإعلام إلى مادة للجدل، وذلك في أعقاب تحذير مفتي وسط روسيا شيخ الإسلام “طالقات تاج الدين” من زحف الصين تدريجيا بإتجاه تلك المنطقة التي تشكل 10 بالمائة من مساحة كوكب الأرض، و77 بالمئة من المساحة الإجمالية لروسيا الإتحادية والبالغة 13.1 مليون كيلومتر مربع، رغم أنها تحتضن فقط 25 بالمئة من سكان البلاد البالغ تعدادهم 36 مليون نسمة.
والحقيقة أن التحذير في حد ذاته لم يكن هو الباعث على الجدل والدهشة، لأن تقارير ودراسات كثيرة تحدثت في السنوات الأخيرة عن وجود مخططات لدى بكين لتهجير الملايين من الأيدي العاملة الصينية إلى أراضي سيبيريا الشاسعة قليلة الكثافة سكانيا (3 أشخاص لكل كيلومتر مربع)، بالتزامن مع مخططات أخرى لإستغلال ثرواتها الطبيعية الكبيرة، وذلك عبر إستخدام وسائل تقليدية وغير تقليدية. إنما الذي تسبب في الجدل وأثار حفيظة الكثيرين هو ما إقترحه المفتي كحل للمعضلة، حيث نقل عنه دعوته للمسلمين الروس (من سكان جمهوريات تتارستان وبشكيريا وداغستان والشيشان وأنغوشيا وشركيسيا وقبردين بلغاريا وموردوفيا وأودمورت وأديغيا وأوسيتيا الشمالية وتشوفاش وماري إل وخلافهم ممن يتركزون حاليا في منطقة الفولغا في قلب روسيا ومنطقة القوقاز الشمالي في جنوب غرب روسيا، ويبلغ تعدادهم 28 مليون نسمة أو 20 بالمئة من إجمالي سكان روسيا أي أنهم يمثلون أكبر أقلية دينية في البلاد) أن يتولوا هم عملية مواجهة الغزو الصيني وتداعياته الديموغرافية الخطيرة، عبر ترك أوطانهم الأصلية والإستيطان في مناطق تبعد آلاف الأميال عن الأخيرة في أقاصي سيبيريا المعروفة بعزلتها وقسوة مناخها وتنوع أعراقها (روس ومغول وترك وتتار وبوريات وياقوتيون وطوفانيون) وتباين معتقدات أهلها (اسلام وبوذية ومسيحية ارثوذكسية ويهودية).
وإذا كان مصدر الإستهجان لإقتراح المفتي هو ما أعاده إلى الأذهان من ذكريات الحقبة السوفيتية التي تميزت بإختيار أراضي سيبيريا كمعسكرات للأعمال الشاقة الإجبارية أو كمكان لإعتقال ونفي الملايين من الروس وشعوب الأراضي المحتلة كالبولنديين (أدارت روسيا القيصرية ومن بعدها الإتحاد السوفيتي سلسلة من معسكرات العمل الشاقة المعروفة بإسم “غولاغ” والذي صار مرادفا للنفي والإعتقال. وفي ظل النظام السوفيتي، وتحديدا ما بين عامي 1929 و 1953 تم ترحيل 24 مليون نسمة من الروس ومن قوميات أخرى إلى آسيا الوسطى وسيبيريا ومناطق أخرى نائية كمنفيين، كان من بينهم مسلمو القرم الذين هجرهم “جوزيف ستالين” إلى سيبيريا، وسكان القوقاز الذين هجرهم الأخير أيضا إلى آسيا الوسطى)، فإن ما أعطى وقودا للجدل والتحفظ و الإستهجان من قبل الكثيرين، ولا سيما من قبل الأغلبية الأرثوذكسية، هو دعوة المفتي لمواطنيه المسلمين إلى إقران هجرتهم إلى سيبيريا بالزواج مثنى وثلاث ورباع هناك من فتيات صينيات، بل وإصراره على تلك الدعوة، علما بأن موضوع تعدد الزوجات في روسيا الإتحادية موضوع حساس ويدور حوله جدل صاخب.
وإذا ما عدنا ونقّبنا في مسألة الغزو الصيني لأراضي سيبيريا والتي أحدثت الزوبعة، فإننا نجد أنها طفت على السطح منذ عدة سنوات حينما كتب البروفسور “كاتشانوفسكي”، من مركز أبحاث روسيا الشرق آسيوية والذي أسسه الرئيس الروسي السابق/ رئيس الحكومة الحالي “فيلاديمير بوتين” في مدينة “خاباروفيسك” القريبة من الحدود الصينية، مقالا في صحيفة ” سوفيتسكايا روسيا” اليسارية يتحدث فيها عن سريان دماء الفساد في أوصال روسيا بأكملها وخصوصا في أوصالها الشرقية، مضيفا أن إحدى صور الفساد تلك هي حرائق الغابات التي يشعلها سكان تلك المناطق من أجل إخفاء جرائمهم في تهريب الخشب الخام وبيعه للصينيين مقابل ثمن بخس (حوالي 10 -20 دولار لكل متر مكعب)، أو مقابل نوعية رديئة من المشروبات الكحولية. وهو الأمر الذي ربما دفع الصين إلى تشجيع تلك الجرائم والحث عليها.
وبدلا من أن تتخذ السلطات الروسية إجراءات حاسمة لمحاربة حرق الغابات وتهريب الخشب، اقترح بوتين في مقابلة متلفزة أن يتم تحرير تجارة الخشب، زاعما بأن ذلك وحده كفيل بحل المشكلة.
وهكذ، ففي ظل تراخي موسكو من جهة، وتزايد حاجة الصينيين إلى المواد الأولية وعلى رأسها الخشب للوفاء بمستلزمات نموهم الإقتصادي من جهة أخرى، نشطت الشركات الصينية في كل أرجاء سيبيريا، بل تمددت حتى حدود الأخيرة على شواطيء المحيط الباسفيكي، أي على بعد 1500 كيلومتر من الحدود الصينية، وراحت تنقل الأخشاب من هناك إلى بلادها بحرا.
وللإحاطة بهذا الموضوع أكثر، يستحسن الإطلاع على الإحصائيات الصينية الرسمية التي قالت أن البلاد استوردت في النصف الأول فقط من عام 2003 مثلا نحو 13 مليون متر مكعب من الخشب، ونحو 3 ملايين طن من لب الخشب المستخدم في صناعة الورق. ويشك الكثيرون أن الأرقام المذكورة تتضمن مئات الآلاف من الأمتار المكعبة من الخشب السيبيري المهرب.
ومن جهة أخرى، فإن أعين الصينيين لا تتطلع إلى أخشاب سيبيريا فقط وإنما أيضا إلى ثرواتها الطبيعية الأخرى الكثيرة وعلى رأسها النفط والغاز. فعلى الرغم من اتفاق بكين وموسكو أكثر من مرة على مد أنابيب النفط والغاز من سيبيريا إلى الأراضي الصينية، فإن أيا من تلك الإتفاقيات لم تنفذ، أو أنها تنفذ لكن مع تلكؤ روسي بسبب رغبة موسكو في إيصال خطوط نفطها وغازها المارة بسيبيريا إلى الصين واليابان في آن واحد، وهو ما لا يرغب فيه الصينيون بسبب علاقاتهم التاريخية المتأزمة مع اليابانيين. ويعتقد أنه بسبب هذا التلكؤ الروسي يعمد الصينيون إلى إستخدام وسائل وأدوات غير مشروعه للحصول على إمدادات النفط والبتروكيماويات الروسية.
ويمكن القول أن ما شجع سكان سيبيريا خلال سنوات العقد المنصرم على الفساد والتهريب اللذين تحدث عنهما البروفسور “كاتشانوفسكي”، واللذين بدورهما ساهما في تمدد الصينيين إقتصاديا وديموغرافيا في أراضي سيبيريا وتأكيد حضورهم الجيوبوليتيكي هناك، هو إهمال الروس للمنطقة وعدم تحصينها ضد الغزو الآتي من الصين أو دول أخرى مثل كوريا، ناهيك عن شفط خيراتها لصالح مناطق روسيا الأوروبية، وهو العامل الذي ولد لدى السيبيريين شعورا بالغبن والظلم، بل العامل الذي جعلهم يجاهرون بالقول “إن موسكو تشفط خيراتنا الآن، وربما تبيعنا غدا للصينيين”.
ودليلنا على هذا نستقيه من تقارير الصحافة الروسية المنشورة والتي تحدثت مثلا عن معاناة سكان مدينة “فلاديفستوك” السيبيرية وضواحيها البالغ تعدادهم نحو 800 ألف نسمة من إنعدام امدادات المياه الساخنة والباردة على حد سواء، هذا ناهيك عن إنعدام سلطة القانون والنظام والذي بسببه إنتشر السلاح وإزدادت حوادث الإغتيالات والسرقات وأعمال السطو المسلحة.
وبطبيعة الحال فإن ما إنطوت عليه تلك التقارير الصحافية لا يثير الإستغراب والدهشة إذا ما علمنا أن الموازنة الفيدرالية للإتحاد الروسي والتي يقررها البرلمان (الدوما) في منتصف سبتمبر من كل عام، تعطي الأفضلية لجهة الإنفاق وتخصيص المشاريع وتجديد البنى التحتية لمدينتي موسكو وبطرسبورغ (لينينغراد سابقا) وعدد من المدن الكبيرة الأخرى في روسيا الأوروبية و منطقة الأورال وغرب سيبيريا (حيث تقع حقول النفط والغاز الرئيسية)، مع إهمال تام أو شبه تام لمناطق شرق سيبيريا النائية، وكأنما الأخيرة ليست جزءا من البلاد أو لا تستحق إهتماما.
ويمكن القول أيضا أن من بين العوامل الأخرى التي سهلت تسرب الصينيين إلى سيبيريا وبقائهم فيها، هو حاجة السيبيريين المتزايدة إلى السلع الغذائية والإستهلاكية، وهي حاجة أدركتها بكين مبكرا وعملت على تلبيتها مقابل الدفع بالدولار، قبل أن تشترط لاحقا المقايضة بالمواد الأولية من خيرات روسيا الآسيوية.
وطبقا لبعض المراقبين، فإن الأوضاع في سيبيريا تمضي قدما لصالح الصينيين، بل هناك بينهم من يتوقع أن تتحول سيبيريا إلى “معطف يرتديه الروس لكن مضمونه ومحتواه صيني مائة بالمائة”، بحسب وصف أحد المحللين.
ومن بين الدول التي تراقب الأنشطة والتحركات الصينية في سيبيريا بقلق شديد، الولايات المتحدة الأمريكية التي لئن نجحت شركاتها النفطية العملاقة حتى الآن في الحيلولة دون تنفيذ اتفاقيات روسية – صينية كبيرة حول النفط والغاز المستخرجين من الحقول السيبيرية، فإنها – أي واشنطون – لا تزال خائفة من إحتمالات تزايد نفوذ بكين في روسيا الآسيوية وبالتالي تحكمها في موارد الأخيرة الطبيعية التي تشمل ، إضافة إلى الخشب والنفط والغاز، الألماس والذهب والحديد والمغنيزيوم والزنك والنيكل، وكلها موجودة بكميات ضخمة ولم تستغل حتى الآن تجاريا بسبب ما يقال عن التكلفة العالية لإستخراجها.
elmadani@batelco.com.bh
*باحث ومحاضر أكاديمي في الشئون الآسيوية من البحرين