شاركت مع مئات من المراقبين الأجانب في أيام الديمقراطية في تركيا، حيث وصلت إلى اسطنبول في اليوم السابق لإجراء الانتخابات البرلمانية (21/7)، والتي تمت بنجاح منقطع النظير يوم الأحد 22/7، وشاركت في اليوم التالي في مائدة مستديرة، ضمت عشرة آخرين من الأساتذة والخبراء والسياسيين الأتراك، نظمتها المؤسسة التركية للدراسات الاقتصادية والاجتماعية، وجامعة صابنجي. وأدار النقاش الدكتور منصور أكوجن، رئيس قسم العلاقات الدولية.
ومن المفارقات المبكرة أنه لم يوجد بين المشاركين في الحوار أحد من الحزب الذي فاز في الانتخابات، وهو حزب “العدالة والتنمية”، والذي يختصر الجميع اسمه بالحروف اللاتينية الثلاث AKP. وقيل أن جميع أقطاب الحزب، إما مرهقين من الحملة الانتخابية التي استمرت شهرين مكثفين، أو أنهم مشغولين بتشكيل الحكومة الجديدة، أو يشاركون في احتفالات دوائرهم بالنصر الكبير.
أما لماذا دعيت أنا للمشاركة في مائدة مستديرة لا تضم إلا الأتراك، فقد كان لرغبتهم ورغبة الجمهور في التعرف على وجهة نظر مصرية ـ عربية لتداعيات هذا الحدث الكبير على المنطقة الشرق أوسطية عموماً، ومصر خصوصاً، التي تتمتع بين الأتراك بمكانة خاصة، ويتابعون ما يحدث فيها بشغف واهتمام.
أما لماذا اعتبر الأتراك هذه الانتخابات، تحديداً حدثاً حاسماً، فهو للأسباب التالية:
1ـ وقعت الانتخابات في تاريخ مبكر عدة شهور، عن موعدها الاعتيادي في أواخر الخريف، وهذا أمر يسمح به الدستور التركي ـ وهو التعديل أو التأجيل في حدود ستة شهور، بناء على قرار من الحكومة وموافقة البرلمان.
2ـ وجاء هذا التعجيل من حكومة حزب العدالة والتنمية، برئاسة رجب طيب أردوغان، كنوع من التحدي للمؤسسة العسكرية التركية، التي تدير معظم الشأن السياسي التركي من وراء الستار. فإذا لم يُستجب لرغباتها فإنها قد تتدخل مباشرة، بانقلاب عسكري، تستولي فيه على السلطة، لسنة أو أكثر إلى أن تعيد ترتيب الأوضاع الداخلية، أو الإقليمية، طبقاً لأولوياتها. وهو ما حدث عام 1960، و1980، وعام 1999.
3ـ ولكن المفارقة التي جعلت أردوغان وحزبه يُقبلان على هذه المغامرة، التي تنطوي على تحدي للجيش التركي، الذي يحظى بتأييد أكثر من 70% من الأتراك كأكثر مؤسساتهم مدعاة للثقة والاحترام. وكانت المعركة حول اختيار رئيس للجمهورية. فالجيش لا يريد رئيساً ترتدي زوجته حجاباً، وللحيلولة دون ذلك أوعز لما يكفي من أعضاء البرلمان المعارضين لحزب العدالة بالتخلف عن جلسات البرلمان، الذي يُنتخب فيها رئيس الجمهورية، حتى لا يتوفر النصاب المطلوب لشرعية انعقاد الجلسة، وهو ثلثي الأعضاء.
4ـ كان مرشح حزب العدالة والتنمية لرئاسة الجمهورية، هو عبد الله جول، وزير الخارجية، وكان يمكن أن تتخلى زوجته عن غطاء الرأس والذي لا ترتديه أغلبية التركيات. وحتى هي لم تبدأ في ارتدائه إلا منذ سنوات قليلة. ولكنها وزوجها ومعهما الحزب اعتبروا الأمر قضية مبدأ، وهي حرية المواطن أو المواطنة التركية في اختيار الزى الذي يريده ما دام ليس هناك قانون يمنع أو يفرض زياً بعينه (كقانون الشرطة أو القوات المسلحة، مثلاً). أما وجهة نظر الجيش والقوى العلمانية التركية فهي استنكاف أن ترتدي زوجة رئيس الجمهورية زياً إسلامياً محافظاً، يعتبرونه “متخلفاً”، ويمثل خروجاً على الإصلاحات الحداثية للأب الرمزي لتركيا (أتاتورك)، وهو مصطفى كمال، الذي قاد ثورة على سلاطين آل عثمان، وألغى نظام الأزياء العثمانية، بما فيها الطربوش واستبدلها بأزياء غربية، بما فيها القبعة. وتنص المادة 58 من قانون الجيش التركي على أنه حامي حمى النظام الجمهوري والعلمانية في تركيا.
5ـ يشعر الجيش التركي بالإحباط لعدم صدور أوامر من الحكومة له بالتحرك لقمع حزب العمال الكردي، جنوب شرق تركيا، في الشريط المحاذي لشمال العراق، وحيث يرى حزب العدالة والتنمية، أن الأفضل هو التوصل إلى حلول سياسية بالتفاوض مع الجيران (العراق وسوريا وإيران) وحيث يوجد أكراداً على جانبي الحدود. وهو اتجاه يؤيده الاتحاد الأوروبي، التي ترغب تركيا بالانضمام إليه، ويعتقد أردوغان أن إطلاق يد الجيش التركي في هذا الملف الكردي يمكن أن يؤدي إلى صراع مسلح ممتد، لا يُحمد عقباه، فضلاً عن تبديد فرص تركيا في الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي، والذي تبحث بعض دوله، وفي مقدمتها فرنسا عن أسباب للاعتراض على انضمام تركيا. وكانت “المسألة الكردية” هي أحد أهم المسائل التي احتدم الجدل حولها قبل وأثناء المعركة الانتخابية. وقد أراد أردوغان وحزبه حسم هذا الجدل بالحصول على تفويض واضح من أغلبية الناخبين الأتراك في هذه المسألة وغيرها من مسائل خلافية، يُعطي الجيش التركي نفسه حق الفيتو فيها.
6ـ يُضاعف من إحباط المؤسسة العسكرية التركية، إلى جانب مسألة الحجاب في القصر الجمهوري والكوابح الحكومية في المسألة الكردية، أن أحد شروط قبول تركيا في الاتحاد الأوروبي هو السيطرة المدنية على القوات المسلحة. وهذا يعني أن يكون وزير الدفاع (أو الحربية) مدنياً، وان يكون القائد الأعلى للقوات المسلحة مدنياً منتخباً ديمقراطياً، أي رئيس الجمهورية أو رئيس الوزراء. وكما هو الحال في معظم بلدان العالم الثالث، يصعب على العسكريين نفسياً واجتماعياً، أن يتلقوا أوامر من قيادة مدنية، حيث تعودوا هم أن يعطوا الأوامر للآخرين!
في كل الأحوال، شعر الجميع هنا في تركيا، من سائق التاكسي من المطار، إلى العاملين في الفندق، إلى المثقفين ورجال الأعمال، أن انتخابات الأحد 22 يوليو 2007، ستحسم كثيراً من المسائل الحيوية المعلقة في حياتهم، ولو إلى حين. لذلك عاد المصطافين خارج تركيا من مدنها الشاطئية إلى مقار دوائرهم الانتخابية، واستيقظ الجميع مبكرين، كما لو كان يوم عيد، واصطفوا أمام المدارس، حيث توجد، كما هو الحال عندنا، مراكز الاقتراع. ولم ألمس أنا في خمس من مقار الاقتراع التي طفت عليها بالتاكسي مع مرافق تركي، أي مشكلات أو حتى مظاهر توتر أو صياح أو هتاف، ولم أرى أي لافتات انتخابية، حيث تم منع وإزالة أي دعايات قبل الانتخابات بأربع وعشرين ساعة. وقد ذكر مراقبون آخرون ممن راقبوا في مدن أخرى، ورأيتهم في الفندق مساء يوم الانتخابات وفي اليوم التالي، نفس الشيء: الهدوء والنظام، ومظاهر الفرح والبهجة من الأطفال خارج مراكز الاقتراع. كما كان إقبال النساء والشباب ملحوظاً. وضمن ما رأيته من مشاهد مؤثرة أحد المواطنين، يحجل على عكازين وأحد ساقيه في الجبس، وهو يسعى إلى مركز للاقتراع في حي السلطان أحمد، قرب مسجد أيا صوفيا، وآخر عجوز في كرسي متحرك تدفعه ابنته، أو ربما حفيدته إلى مركز آخر، قرب المسجد الأزرق. وسهر الأتراك إلى الحادية عشر مساء، إلى أن أعلنت آخر النتائج، واستمعوا إلى خطاب قصير من رجب طيب أردوغان، الذي فاز حزبه بأكثرية مقاعد البرلمان الجديد، بنسبة 47% من جملة من أدلوا بأصواتهم. وفي كلمته، شكر أردوغان من منحوه ومن لم يمنحوه أصواتهم، وذكر أن الأتراك كانوا تحت أنظار العالم بأسره في ذلك اليوم، وقد شرّفوا تركيا، وبهروا العالم بسلوكهم الحضاري المسئول، وبإقبالهم غير المسبوق على التصويت، بنسبة 82%، والذي هو أعلى من المعدلات المقارنة في بلدان الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة. كما أكد التزامه بأن يكون رئيس وزراء لكل الأتراك، بأن يلتزم حزبه (العدالة والتنمية AKP) بحماية الجمهورية واحترام علمانية تركيا، والاستمرار في تنمية تركيا بنفس المعدلات التي تحققت في السنوات الخمس الأخيرة (6% سنوياً) أو أعلى، والمثابرة في طلب عضوية الاتحاد الأوروبي.
تكررت عبارة “الاكتساح” (landslide) في وصف نتيجة الانتخابات، رغم أن حزب العدالة والتنمية لم يحصل إلا على 47% من جملة الأصوات، أي أقل من الأغلبية، التي هي أكثر من 50%. وجاءت الإجابة خلال محاورات المائدة المستديرة في اليوم التالي، وهي:
1ـ أن كثرة عدد الأحزاب في تركيا تؤدي إلى تفتيت الأصوات، ولم يحصل أي حزب في أي انتخابات سابقة على 50% منذ عام 1950 والمرة الوحيدة التي تحقق فيها ذلك كانت في أول انتخابات بعد الأخذ بنظام التعددية الحزبية عام 1946. وبهذا المعنى فإن ما حصل عليه حزب العدالة والتنمية (47%) هو الأقرب إلى 50% خلال النصف قرن الأخير.
2ـ أن هذه هي المرة الأولى في تاريخ الديمقراطية التعددية التركية التي يفوز فيها نفس الحزب مرتين متتاليتين.
3ـ أن الحزب لم يفز فقط للمرة الثانية على التوالي، ولكنه أيضاً رفع هامش فوزه، أكثر من عشرة نقاط مئوية، من 34 إلى 47%. هذا رغم المظاهرات المضادة التي كانت قد نظمتها الأحزاب القومية العلمانية في كبريات المدن التركية، ضد حزب العدالة والتنمية، تعبيراً عن الخوف على جمهورية “تركيا العلمانية” من زحف إسلامي.
رغم أن أعضاء المائدة المستديرة من الأتراك لم يكونوا من أنصار حزب العدالة والتنمية، إلا أنهم جميعاً عبّروا عن إعجابهم الشديد بزعيم الحزب، والطريقة التي أدار بها الأزمات والاستفزازات التي اختلقها الجيش والعلمانيون المتشددون، كذلك أشادوا بمهارته في كسب رجال الأعمال، وعدم التعرض للحريات الشخصية وأسلوب حياة المواطنين الأتراك. وإلى أن تتاح فرصة تلخيص وجهة النظر المصرية والعربية التي شاركت بها في المائدة المستديرة، أقول هنيئاً للأتراك بأخر أعراسهم الديمقراطية، وعقبال للمصريين والعرب، آمين.