تحقيق وتصوير دلع المفتي
منذ انطلاقة الثورة السورية، الكثير منا شارك فيها «إلكترونيا»، ومن ثم انتقل لتنفيذ الدعم اللوجستي والإنساني والتبرعات وتحشيد كل الطاقات من أجل مساعدة «ضحايا» الأحداث، الذين وجدوا أنفسهم محاصرين داخل وطنهم، أو مشرّدين على مشارفه.
وكما نسقت ثورات «الربيع العربي» ومثلت مجالس حرة لقيادة الثورات، كانت مواقع التواصل الاجتماعي أهم طريقة لتنسيق الجهد الميداني والسياسي والاعلامي، لتجيء دعوة لم تتجاوز الـ 140 حرفا التويترية تخاطبني «نحن مجموعة شباب خليجيين مهتمين بشأن إغاثة اللاجئين السوريين، ويهمنا أن نتكلم معك». ومع قراءة هذه الرسالة، أدركت أن جروحي ستندمل، وأن بإمكاني أن أفعل شيئا ذا قيمة لمساعدة أبطال الجانب الآخر من المأساة السورية.
جرت الاتصالات بسرعة كما تتطلبه التقاليد الإلكترونية ودماء الشباب الفائرة في الطرف المقابل، التي لا تعرف التأجيل، شرح أحدهم باختصار وتركيز هدفه وأساس فكرته كحملة شباب خليجية من أجل التوعية والدعم للاجئي سوريا في لبنان. ودعاني لحضور اجتماع بخصوص الحملة لأكوّن فكرة عنها.
هاجس مؤرق
في طريقي الى الاجتماع، كنت أحمل خشية واحدة وهاجسا مؤرقا، أن تكون حملة هؤلاء الشباب ذات أبعاد «طائفية» ووصلت مخاوفي إلى أقصاها حينما خطر في ذهني التساؤل المزعج: ماذا لو كانوا جماعة متطرفة؟!
لكن ما ان وصلت الى الاجتماع ورأيت تلك الوجوه الشابة، وسمعت ما يودون ان يفعلوه، حتى تبددت كل مخاوفي، وتحولت خشيتي إلى فرح وفخر بهذه الأرواح الجميلة.
الأهداف الإنسانية
بدأ عبدالكريم الشطي وهو مؤسس مجموعة «ليان.. اللاجئ السوري إنسان»، يشرح اهدافها الإنسانية، بعيدا عن السياسة، وأبعد عن الطائفية والعنصرية، وشدد على خلو اهدافهم من أي نوع من التطرف، مؤكدا أهداف الحملة الإنسانية الخالصة. ومثل هدفهم الجليل، كانوا منظمين بطريقة محترفة ولم تفُتْهم أدق التفاصيل: الترتيب لرحلة إعلامية لتوجيه الرأي العام لمصاعب اللاجئين السوريين ومشاكلهم عند الحدود اللبنانية -السورية.
عند الحدود
وصلت المجموعات بطرق مختلفة إلى لبنان، وهناك توحدنا، نحن متطوعين واعلاميين، ونائباً كويتياً مع أطباء ومتطوعين وفنانين من البحرين والسعودية، واشتركت معنا مجموعة من هيئة اغاثة تركية. أجمل ما ظهر لنا هو اختلافاتنا الفكرية، المذهبية، العقائدية، والاجتماعية… وتوحدنا على فكرة الإنسانية فحسب. كان كل شيء مرتبا ومنظما على الأرض كما خطط له، والاستعدادات اللوجستية كاملة والتنظيم دقيقاً والبرنامج مزدحماً، وما علينا إلا الشروع بتنفيذ الهدف الرئيسي: مساعدة الناس وشد أزرهم وبعث الطمأنينة في نفوسهم وبثّ الشعور لديهم بأنهم ليسوا وحيدين.
ردود الفعل
ولكونها تجربة جديدة بالنسبة لي ولمعظم أعضاء الفريق، كنا نخشى ما سنراه ونشعره، وكانت مخاوفنا اكبر من ردة فعل الناس تجاهنا، وان كانوا سيتقبلون التفاعل معنا.
في الأغلب، وجدناهم ذوي بأس وشكيمة، مصرّين على النصر والعودة لوطن حر. البعض كان منكسرا لاسيما الامهات، وهذا منطقي، فلا يوجد شخص شرّدته الظروف من بيته ووطنه، لا يتجرع المرارة وينوء من ثقل العيش على أرض غريبة مهما كانت رحبة وجميلة كالتي رأيناها. لكن جمال الطبيعة لا يمسح الذل في النفوس وأسى الرحيل وعذاب الانتزاع من الجذور، ورغم ظروفهم القاسية، أجمع كل الذين قابلناهم على محصلة رئيسية وهتاف كرروه: لا يكفي أن تساعدونا.. أنقذوا بلدنا.. سوريا!
لقد توقعنا لقاءات غاضبة، وحصل أن جوبهنا بنداءات على شاكلة: وينكم .. ماذا فعلتم.. لماذا تأخرتم؟ وهكذا. حسبنا ردود فعل أكثر شراسة، فاللاجئ يحمل من المنغصات والغصّات والأهوال، بحيث يرغب في إلقائها عن كاهله عند أقرب متنفس إنساني.. وعلينا امتصاص ذلك، بل نزع هذه الآهات التي أثقلت أجسادهم وآذت أرواحهم.
كلمة السر: أولاد الحلال!
ان الخير يطغى على الشر، لاسيما في اللحظات المصيرية، ويبرز معدن الإنسان الحقيقي في الشدائد والملمات، وهذا ما كان عليه أهالي الشمال اللبناني. فأغلب اللاجئين الذين رأيناهم كانو يحمدون بجزيل عطاء طرف مجهول يطلقون عليه: أولاد الحلال! فالذي يساعدهم ويؤجر لهم ويعتني بهم هم أولاد الحلال، وفق تعريفهم.
هي الدنيا إذا، لا تأخذ حتى تمنحك ما يعوضك، لترزقك بيوم آخر تستند فيه على شقيقك الإنسان، كي تكملوا أنفاس بعضكم الآخر.
بيت الجرحى: الأكثر ألماً!
مقابل كل شهيد في سوريا هناك 60 جريحا، والجرحى ليس لهم مكان في المستشفيات السورية، لذا يتم تهريبهم للحدود اللبنانية للعلاج والغالبية لا يملكون تكاليف العلاج، مما يؤدي للوفاة او العاهة المستديمة.
من بين الزيارات العديدة التي قمنا بها، استوقفتنا الأكثر ألما حينما التقينا بعدد من الجرحى يسكنون في منزل واحد في عكار. لقد كان عددهم كبيرا واصاباتهم مختلفة.
بادرنا أحمد (25 سنة) الذي يسكن هذه الغرفة برفقة زملائه الجرحى فيها بالحديث: أصبت بقذيفة ولم اشعر بمداها أو خطورتها، إلا عندما رأيت ذراعي معلقة بكتفي بما تبقى عليها من لحم. رميتها على كتفي واتجهت الى الحدود. اغمى علي أربع مرات أثناء الفرار، (صفي دمي)، لكني تابعت المسير الى ان وصلت الى الحدود. ذراعي لم يبق فيها لا عظم ولا اعصاب.. تحتاج الى الكثير من العمليات الجراحية، وعندما أشفى وتستطيع ذراعي حمل البندقية مجددا، سأعود لأحارب من اجل حرية بلادي.
حزن الدنيا
في زاوية الغرفة يقبع صامتا شاب آخر وجهه حزين، توجهت اليه وسألته عن إصابته، فأخرج لي ما تبقى من ذراعه المبتورة، قال سليم انه اصيب بقذيفة في بابا عمرو وتم تهريبه إلى لبنان، ومن ثم تكفل الصليب الاحمر بنقله الى المستشفى. حيث تمت معالجته، ومن ثم تركوه.
طلبت أن أصوره، فخاف على اهله في الداخل، قال سيذبحونهم. وعدته ان اخفي وجهه.. وهو لا يعلم ان وجهه الذي أخفيته حفر صورته عميقا في قلبي… لقد كان يشبه ابني.
محمد حمدان
محمد حمدان من «تلكلخ» أصيب بعدة طلقات متفرقة ونافذة أصابته بشلل في اليد اليسرى وكلتا الرجلين.. وكل هذه الإصابات كانت ضريبة اشتراكه بتظاهرة سلمية. عرض الفريق عليه مالاً لمساعدته في الفترة القادمة، لكنه رفض وطلب فقط الدفع لعلاجه في المشفى.
وعند سؤاله عن حالته أجاب: «ألم الجسد بيهون كتير! الألم في روحي المعلقة هونيك.. المهم بلدي وأهلي وجيراني يكونوا بخير».
في ملحمة مهجورة
أن تعيش مع أسرتك الكبيرة في ملحمة مهجورة، ولا تغادرك الابتسامة والترحيب بالضيف، رغم عدم وجود شيء فيها على الاطلاق، حتى ينعدم فيها البلاط، فهذا يدل على كرم لا حدود له.
بهذه الروح الجميلة استقبلنا الرجل الأربعيني (أبو علاء) النازح من بابا عمرو، وصغيرته (كوثر) التي اعطيتها كيس شوكولاتة وحاولت مقاطعة ابيها مرات عديدة معبرّة عن امتنانها وبهجتها لهذه الهدية: «بابا شوف شو جايبتلي»!
غير أن ابي فادي لديه ما هو أهم من الشوكولاتة، فاستمر يسرد لنا حكاية هروبهم واستقرارهم في الملحمة التي قال انه استأجرها بالكاد بنحو 300 دولار. وأضاف: «كما ترون لا يوجد لدينا شيء، سوى بعض الفرش والبطانيات.. هذا ما نملكه»، بينما يعلق فراش وليده على خطافات الملحمة التي كانت تعلق عليها الذبائح. واستطرد: بيتنا في بابا عمرو احترق ونهب من قبل الجيش.
وقبل أن نودعهم بادرتنا كوثر بمطلع أغنية سرعان ما رددناها سوية مع العائلة:
«سكابا يا دموع العين سكابا.. على شهدا سوريا وشبابها»
عروس على السطوح
في غرفة أخرى على سطوح احد المنازل، التقينا مع (سعاد 24 سنة) وهي عروس جديدة، لم يمض على زفافها شهران وتعيش في هذه الغرفة مع 16 شخصا، هم مجموعة من عائلات قريبة نزحوا من حمص.
تقول سعاد ان الجيش السوري عبث في بيتهم وسرق جهازها الجديد، ومن ثم أحرقوا البيت، وأوضحت ان زوجها ما زال يقاتل في المدينة.
كل هذا الرعب!
في حقل آخر من عكار، لمحنا غرفة منعزلة تقف أمامها سيدة في الأربعين، ما ان اقتربنا منها حتى تبينا كم كانت خائفة منا، فوجهها المصفرّ وجسدها المرتعش، جعلنا نلقي تحية مشوبة بالقلق، إلا أنها صرخت: «ماذا تريديون مني.. ماذا ستفعلون بي؟»، عندها أدركت كم من الرعب والخوف زرعه النظام على مدى سنين لتحطيم نفس المواطن السوري، ولا أتذكر كم من الوقت احتجت لكي أخفف من ارتجافها وترديدها: «ماذا ستفعلون بي.. هل ستذبحونني.. هل ستذبحون أولادي؟»!
حكاية الأبيّ عزيز النفس
المرتفع المقابل، أهدى لنا حكاية مغايرة تماما، هناك حيث استقبلنا (أبو خليل 51 عاما) قائلا انه وصل بالأمس فحسب، فطلبنا أن يصطحبنا لنتعرف إلى عائلته، وفي الطريق عرفنا أن لديه 7 أبناء، انتهاء بصغير عمره سبعة أشهر وأوسطهم من ذوي الاحتياجات الخاصة، وكان أطفاله يتناوبون النظر نحونا وكأننا هبطنا عليهم من عالم آخر.
أهم ما في الأمر، أن هؤلاء الأطفال الشبيهين بالملائكة، كانوا يسكنون في «زريبة حيوانات» حقيقية. جلسنا معهم في الزريبة الخالية من أي شيء عدا «لفة» بسيطة تحتوي على مراتب وبعض البطانيات. مددت يدي لأعطيه بعض التبرعات، إلا أنه ردها برقة وإباء وعزة نفس منقطعة النظير، وقال بصوت واثق: «ستجدين أمامك الكثيرين ممن هم أحوج مني إليها»!
عائدون إلى الحرية
ان ما يبقي اللاجئ على قيد الحياة، أمله في عودته إلى داره ووطنه، وما يزيد من بأسه وصبره، أن عودته ستكون مكللة بما هو أعظم، بذلك الهدف الكبير الذي تهون من أجله الدماء ويتنازل فيه المرء عن استقراره وسكينته، هدف أغلى من الحياة نفسها، وهو: الحرية!
هذا ما كانت الأفواه والشفاه تقوله لنا، وتعدنا بأن موعدنا القادم في سوريا الحرة.
ومن جهتنا، سنعود إليهم، ونحتفل معهم بالحرية ونزين ساحات سوريا ونغني معهم أغنية واحدة في ساحة المرجة في دمشق العاصمة: زيّنوا المرجة، والمرجة لينا.. وشامنا فرجة وهي مزينة..!
لماذا «ليان»؟
استوحى فريق العمل اسم «ليان» لحملة إغاثة لاجئي سوريا بعد وفاة رضيعة لا يتجاوز عمرها سبعة اشهر بعد تدهور حالتها الصحية – لمعاناتها من مرض في القلب، رغم قيام والديها بكل ما يمكنهم لإنقاذها من الموت، فاجتازوا المعابر وصولا الى الحدود اللبنانية في «وادي خالد» طلبوا المعونة، اتصلت المستشفيات مع متبرعين من الخليج، ولكن حينما وصلوا كانت «ليان» قد لفظت أنفاسها الأخيرة.
وحتى لا تكون ليان أخرى، انبثقت حملة «ليان».
للتبرع:
اسم البنك: بنك بوبيان
رقم الحساب: 0008881002
اسم المستفيد: الرحمة العالمية.