بوادر التسوية يمكن أن ترتسم على ضوء التعديل في ميزان القوى، إذا توصلت الأطراف الليبية المختلفة إلى التسليم بعدم الرهان على الغلبة في مجتمع معقد ومتنوع مثل المجتمع الليبي.
بدلا من أن تكون ليبيا ما بعد القذافي إلدورادو الغرب في شمال أفريقيا، أصبح هذا البلد أحد مسارح الفوضى التدميرية حيث تحتدم النزاعات السياسية والأيديولوجية والجهوية والتدخلات الإقليميـة والدولية، بالإضافة إلى الحـرب ضـد الإرهـاب. وفي الأسبـوعين الأخيـرين أدت السيطـرة على الهـلال النفطي إلى خطـف الأضـواء من معـركة سـرت ضد داعش.
هل يقود هذا التطور إلى بلورة معادلة ليبية جديدة تسهل الحل السياسي المنشود والذي يراوح مكانه منذ مارس الماضي، أم يكون حلقة في سياق النزاع الليبي المتعدد الأبعاد الذي لم يستنفد حتى الآن وظائفه الاقتصادية والسياسية المختلفة أو المتصلة بالتجاذبات الخارجية؟
في الحادي عشر من سبتمبر، حقق اللواء خليفة حفتر والجيش الوطني الليبي “المفاجأة الاستراتيجية” في انتزاع السيطرة على الهـلال النفطي في شرق ليبيا الذي ينتج حوالي سبعين بالمئة من إنتاج الطاقة في ليبيا. فعلها هذا الضابط السابق في جيش ثورة الفاتح والمنشق عن القذافي بعد حرب تشاد أواخر الثمانينات.
حارب حفتر بمشقة منذ مايو 2014، ولم يتمكن حتى اليوم من إكمال الإمساك ببنغازي عاصمة الشرق الليبي وجوارها في وجه تكتلات تنسب نفسها إلى ثورة فبراير 2011، وهو يعتبرها تنظيمات إسلامية وجهادية خارجة عن القانون.
نجح حفتر في تجميع وحدات من الجيش السابق المشتت والمنهك. واستند إلى عصبيات قبلية وجهوية ممزوجة بوطنية ليبية. لكن القوى المسيطرة في طرابلس الغرب ومصراته وبعض الشرق، كانت تنظر إليه بمثابة القذافي الثاني ولا تقبل بدوره. وزيادة على الانقسام الداخلي، ساد الانقسام الخارجي حول شخص حفتر المدعوم من مصر ودولة الإمارات العربية المتحدة والأردن (مقابل دعم تركي وقطر وتفهم جزائري وتونسي للطرف الآخر) والذي تعرض إلى ما يشبه الفيتو الأميركي والبريطاني إذ حاول الأميركان فرض عقوبات عليه بسبب “عدم تسهيل عملية السلام“، بالرغم من معرفتهم به وإقامته السابقة في واشنطن بعد انشقاقه، بيد أن كل المواجهات العسكرية والسياسية الصعبة لم تدفعه إلى ترك الميدان وأصر على أن يبقى لاعبا يريد تأدية مهمة يراها لنفسه ولبلده وبدعم إقليمي كان يشوبه بعض التباين في أجندة هذه الدولة أو تلك.
مع استقرار المجلس الرئاسي في طرابلس برئاسة فايز السراج، في مارس 2016، وفق اتفاق الصخيرات الذي انتزعه المبعوث الأممي مارتن كوبلر بعد طول انتظار وجهود مماثلة لسلفه برناردينو، تعجل البعض في الكلام عن طي صفحة خليفة بلقاسم حفتر وتهميش دور مصر حليفه الرئيسي، وتزامن ذلك مع التركيز على المعركة ضد داعش وانتزاع ورقة الحرب ضد الإرهاب من بين يدي حفتر.
وفي الأسابيع الأخيـرة طغت معـركة سـرت على كل ما عداها، وظن المجلس الرئاسي في طرابلس أنه سيفرض توجهاته على مجلس النواب (المعترف به قانونيا ودوليا) الموجود في طبرق بعد إبعاده عسكريا عن العاصمة، بيد أن هذا المجلس برئاسة عقيلة صالح الذي رفض، في 22 أغسطس، إعطاء الثقة للحكومة المقترحة من السراج أعاد خلط الأوراق وكانت العقدة في رفض التوافق على حفتر كقائد للجيش الوطني.
وفيما كانت المفاوضات والمناورات تدور حول إعادة تشكيل حكومة جديدة، كانت مفاجأة عشية عيد الأضحى المبارك مع إعلان القيادة العامة للجيش الليبي عن إحكام سيطرة قواتها في عملية سميت “البرق الخاطف” على موانئ الزويتينة والبريقة ورأس لانوف والسدرة.
وأكد بيان للقيادة العامة أن “الجيش الوطني لن يتدخل في شؤون التشغيل أو التصدير أو إبرام الصفقات التجارية” في موانئ النفط، مشددا على أن ذلك يعود إلى المؤسسة الوطنية للنفط (التي تحظى بإجماع الليبيين كما حال المصرف المركزي لصلتهما بمصادر العيش والدورة الاقتصادية).
هكذا تغير المشهد مع سيطرة قوات الجيش الليبي على الهلال النفطي للمرة الأولى منذ 2011 بعد إزاحة حرس المنشآت النفطية الذي كان قد أعلن الولاء للمجلس الرئاسي المدعوم من قبل الأمم المتحدة والمنبثق عن اتفاق الصخيرات. ويعود ذلك حسب البعض إلى نداءات بالخصوص وجهها زعماء ووجهاء قبيلة “المغاربة” التي ينتمي إليها أفراد قوات حرس المنشآت النفطية.
لكن مصادر ليبية كانت تصف رئيس الحـرس بزعيم عصابة، وتعتقد مصادر غربية بأن جهاز حرس المنشآت ليس إلا جماعة جهادية مموهة! وعندما نعلم أن حلفاء حفتر في الزنتان يؤثرون على ممرات النفط الليبي في الغرب، نستنتج أن حفتر المسيطر على المورد الأول لعيش الليبيين انتزع الجائزة الكبرى في السباق على السلطة وفرض نفسه رقما صعبا في التفاوض، خاصة بعد الإعلان عن تسليم النفط للمؤسسة الوطنية التي قال رئيسها مصطفى صنـع الله إن “قطـاع النفط قادر على دفع البلاد نحو الوحدة والمصالحة” (خسائر هذا القطاع منذ 2013 بلغت 100 مليار دولار).
خلافا لمواقف دولية وخصوصا غربية طالبت بانسحاب حفتر الفوري، أعلن وزير الخارجية المصري سامح شكري دعم بلاده التام لسيطرة الجيش الليبي على موانئ الهلال النفطي. ووصف شكري بيانات دول عدة طالبت الجيش الليبي بالانسحاب من منطقـة الهلال النفطي بأنهـا دعـوات متسـرعة لا تراعي الاعتبارات الخاصة بالأوضاع الداخلية لليبيا.
لكن بعد زيارة رئيس المجلس الرئاسي فايز السراج والمبعوث الدولي مارتن كوبلر إلى القاهرة، أخذت اللهجة الدولية تتغير لأن مال النفط الذي بدأ تصديره من جديد سيصب في الخزينة العامة وينقذ البلاد من شفير الإفلاس.
بالطبع لن يكفي المردود الاقتصادي لتغييب تداعيـات الانقسام العميـق في البلاد، وإمكان تزايد وتيرة الاحتقان، والاستقطاب الثنائي داخل المجتمع الليبي بين المناصرين لحفتر والمؤيّدين للمجلس الرئاسي.
لكن بوادر التسوية يمكن أن ترتسم على ضوء التعديل في ميزان القوى، إذا توصلت الأطراف الليبية المختلفة إلى التسليم بعدم الرهان على الغلبة في مجتمع معقد ومتنوع مثل المجتمع الليبي وبأن العدالة الانتقالية الصحيحة والاعتراف بالآخر هما المفتاح الفعلي للمصالحة.
لا يمكن التعامل بطوباوية أو مثالية مع تداعيات حروب الداخل وحروب الآخرين ومطامعهم في ليبيا، لكن الوضع غير ميؤوس منه في حال العمل على تطبيق مرن لاتفاق الصخيرات انطلاقا من المعطيات الجديدة، تحت إشراف دولي غير منحاز وذي مصداقية.
khattarwahid@yahoo.fr
أستاذ العلوم السياسية، المركز الدولي للجيوبوليتيك – باريس
العرب