1-
مصر هي الوادي. ودائما، كان الوادي محاصراً بالصحراء. في وادي النيل نشأت الدولة، والحضارة، وبلور الشعب على مدار قرون طويلة هوية فريدة. أما الصحراء فكانت مصدر توّجس وقلق، طالما أن الدفاع عن الوادي يستدعي القتال على، وغالباً ما بعد، حدود الصحراء.
في الآونة الأخيرة، للمرّة الأولى، منذ عهود طويلة، تجد مصر نفسها مكشوفة، ومعرّضة لمخاطر تهب عليها من ثلاث جهات:
على الحدود الغربية ليبيا، التي لم تستقر بعد، وفيها ما لا يحصى من قطع السلاح، والميليشيات، القادرة على عبور الحدود. وعلى الحدود الجنوبية السودان، الذي يحكمه نظام إسلاموي لا يريد، أو لا يسيطر على حدوده، التي يعبرها مهاجرون ومهربون وسلاح.
وعلى الحدود الشرقية إسرائيل وغزة. مصلحة الأولى بقاء الدولة المصرية ضعيفة ورهينة مشاكل داخلية لا تنتهي. ومصلحة حماس في الثانية تهريب السلاح والبضائع، عبر الأنفاق، بصرف النظر عن التداعيات المحتملة على أمن وسيادة مصر. أما الحدود الشمالية، أي البحر، فهي الحاجز المائي الطبيعي الذي يمنح الوادي ما تبقى من طمأنينة لا تتوفر، على ثلاث جبهات.
هذا وضع استراتيجي بالغ الصعوبة والتعقيد. وتزداد المضاعفات المحتملة لصعوبته، وتعقيداته، نتيجة عدم الاستقرار السياسي، والعُسر الاقتصادي، والمعارضة الإخوانية بعد الخروج من الحكم. وهذه الأشياء، كلها، تشتغل، بالمعنى الاستراتيجي، متكافلة ومتضامنة، بمعنى أن كل عنصر فيها يُسهم في تعزيز بقية العناصر، والمخاطر.
الحدود المكشوفة تغذي الإرهاب. والعُسر الاقتصادي يعرقل الاستقرار، بينما تُسهم المعارضة الإخوانية في، وتعتاش على، العُسر، واللا استقرار، وكلاهما بيئة حاضنة للإرهاب.
2-
استناداً إلى ما تقدّم يأخذنا النقاش إلى أمر أبعد، وأعقد، أي إلى الدلالة الاستراتيجية لسقوط حكم الإخوان. يذكر المصريون والعرب مؤتمر نصرة سورية، الذي نظّمه الإخوان، في إستاد القاهرة، قبل إسقاط حكمهم، بأسابيع قليلة.
بدا المشهد، يومها، وكأنه في قندهار الأفغانية، وليس في القاهرة، وقد احتشد فيه على المنصة الرئيسة ممثلون لجماعات أصولية متطرفة مصرية، وغير مصرية، ورُفعت فيه رايات “القاعدة” السوداء، وقيلت فيه كلمات طائفية تحرّض على القتل، الكراهية، والعنصرية، في حضور رئيس مصر، الذي زاد عليها، وأطنب فيها. وكان من تصاريف القدر، في اليوم التالي، قتل وسحل أربعة من المواطنين المصريين في القاهرة بدعوى التشيّع.
لم يكن ما رأيناه في ذلك اليوم صورة مصر الحقيقية. والمهم، أن عدداً من المعلّقين العرب، وكان كاتب هذه السطور من بينهم (الأيام 25 حزيران 2013) أدركوا، على الفور، أن مشهداً كهذا يهدد هوية، وحاضر، ومستقبل، الدولة المصرية، بقدر ما ينتقص من سيادتها، ويطلق العنان لجماعات وميليشيات غير دولانية، من شأنها تقويض دول، وتدمير أوطان.
لن يتجلى المعنى الحقيقي للانتقاص من السيادة، وتدمير أوطان، ما لم نضع في الاعتبار المضاعفات المحتملة للانكشاف على ثلاث جبهات، ومدى ما ينطوي عليه من جاذبية، في نظر أصوليات، وميليشيات، عابرة للحدود.
وهذا ما يمكن التدليل عليه، بكلام الأستاذ محمد حسنين هيكل (الذي يجب أن نصغي باهتمام لكل ما يصدر عنه) عن سماح نظام الإخوان لأعداد كبيرة من القادمين من “الجهاد” الأفغاني والباكستاني بالوصول إلى، والاستقرار في، سيناء. وإليه يُضاف ما يتواتر من كلام وتقارير عن نشاط الميليشيات “الجهادية” على جانبي الحدود مع غزة.
لذلك، تتمثل الدلالة الاستراتيجية لإسقاط حكم الإخوان في الحيلولة دون تسييس، وتكريس، الانكشاف على الحدود الغربية والجنوبية والشرقية. وفي هذا إنقاذ لمصر الدولة والوطن.
3-
لم يبدأ الانكشاف على الجبهات الثلاث مع حكم الإخوان، بل كان نتاجاً لتحوّلات محلية وإقليمية مختلفة، على رأسها ما يمكن تسميته “بالإعياء الاستراتيجي” في أواخر العهد المباركي، حيث تراجعت أهمية الجغرافيا السياسية في تعريف أولويات السياسة الخارجية، خلافاً لما كان عليه الحال في عهود سبقت، وهذا ما أسهم في تراجع الدورين العربي والإفريقي لمصر.
في ظل هذا التراجع جاء استيلاء حماس على غزة. وفي ظل التحوّلات الثورية في قاهرة الخامس والعشرين من يناير سقط نظام العقيد، وانتشرت بقايا سلاحه في كل الأراضي الليبية. وقبل غزة وليبيا وبعدهما، لم يكن في العلاقة مع النظام الإسلاموي في الخرطوم، ما يكفي لتحقيق الطمأنينة.
والمهم أن عبور الحدود، على كل تلك الجبهات، يقود خطى العابرين، في نهاية الأمر، إلى سيناء. وهي، بقدر ما تمثل خط الدفاع الأوّل عن الوادي من جهة الشرق (الواقع أن فلسطين، تاريخياً، هي خط الدفاع الأوّل)، تمثل، أيضاً، البطن الرخو، بالمعنى الاستراتيجي العام. فمعاهدة السلام مع إسرائيل، تحد من قدرة الجيش على الحركة في سيناء، وتراجع دور الجغرافيا السياسية، ناهيك عن الإعياء، حجب عن أعين صانعي السياسة ضرورة الاستثمار بعيد المدى، بالمعنى الاقتصادي، والسياسي، والاجتماعي، والديمغرافي، في سيناء.
وقد تجلّت التداعيات المرئية، وغير المرئية، لكل ما سبق، بعد صعود الإخوان إلى سدة الحكم، وأسهم في تفاقمها أنهم لم يفعلوا ما من شأنه التدليل على إدراك تلك المخاطر، بل أسهموا (سواء مباشرة أم مداورة، بالمقامرة، أو المؤامرة) في تسييسها، وتكريسها. وفي هذا المعنى يندرج كلام أحد الناطقين باسمهم، في ميدان رابعة، عن توقف الهجمات الإرهابية في سيناء بعد عودة الرئيس المخلوع إلى الحكم بثانية واحدة.
وبهذا المعنى، أيضاً، يتجلى انحياز الجيش إلى الشعب، باعتباره دفاعاً عن مصر الدولة والوطن. فمنْ يطيق الانكشاف على ثلاث جبهات، وغض النظر عن احتمال المقامرة، أو المؤامرة، إذا كان مصير مصر في الميزان؟
khaderhas1@hotmail.com
كاتب فلسطيني