اللافت في ما يحدث أن أكثر الأنظمة العربية حماسة للثورات الشعبية أقلها تمثيلا لشعوبها. وإذا أمسكنا بالثور من قرنيه فلنقل إن الحماسة تتجلى في المواقف الرسمية لدول مجلس التعاون الخليجي إلى حد يثير القلق والحيرة في آن.
فلنتكلّم عن مفارقة من عيار ثقيل. المفارقة أن الأكثر حماسة بين الدول المعنية لم تعرف الحياة البرلمانية، والأحزاب، ولا تعترف بالمعارضة، ومع هذا كله وفوقه وقبله وبعده، لا يحظى أبناؤها بحقوق المواطنة فهم رعايا لحكّام وسلالات تحظى بامتيازات لا يكفلها قانون سوى قانون الغلبة وحق المالك في ملكه. تقليدياً، كانت هذه الدول، وما تزال حليفة للولايات المتحدة، وفي معسكر اليمين بالمعنى الاجتماعي، والثقافي، والسياسي.
فما الذي حدث، وكيف أصبح من لا يعترف بمبدأ المواطنة منافحاً عنيداً عن حق المواطنين العرب في بلدان أخرى في الإطاحة بحكامهم؟
ولكي لا يفشل أحد في تأويل دلالات سؤال كهذا، ينبغي القول إن طرح السؤال لا ينطوي، مباشرة أو مداورة، على دفاع عن الحكّام العرب الذين أطاحت بهم الثورات الشعبية، والذين ينتظرون مصيراً مشابهاً نرجو ألا يتأخر في صنعاء ودمشق. بهذا المعنى فإن دلالة السؤال هي تفكيك حماسة مشيخات النفط للثورات الشعبية، دون تأويل عملية كهذه للدفاع عن أنظمة تستحق السقوط.
لن تتمكن مقالة أو فكرة واحدة من تفكيك الحماسة التي تبديها مشيخات النفط للثورات الشعبية في العالم العربي، فهذه عملية مستمرة، وفي الأحداث الجارية ما يضيف إليها، وما يفسر بعضا من جوانبها. كانت الأخبار تترى، مثلا، عن مشاركة قطر بطائرات وجنود، ناهيك عن المال، للإطاحة بمعمر القذافي، لكن كلام عبد الرحمن شلقم وتذمّر آخرين في ليبيا من التدخل القطري في الشأن الليبي يسهم في تأويل الأخبار بطريقة أفضل.
أنا لا أشاهد “الجزيرة” منذ سنوات، لكنني أعرف من اللافتات التي رفعها ويرفعها متظاهرون في ليبيا وسورية مدى عرفان هؤلاء للخدمة الإعلامية والدعائية التي يحصلون عليها من القناة المذكورة. هذه المعرفة تزيد من ضرورة تفكيك الحماسة التي تبديها مشيخات النفط. فمن غير المحتمل ولا المتوّقع، أن يكون مصدر الحماسة إيمان مفاجئ بالحريات الديمقراطية، وتداول السلطة، والاحتكام إلى صناديق الاقتراع في إدارة السلطة والثروة.
بعض ما يفسّر الحماسة نعثر عليه في كلام شلقم وتذمّر ليبيين آخرين من دعم قطر للإسلاميين في ليبيا، ونعثر عليه في اعتراض مواطنين وقادة رأي في تونس على حضور حاكم قطر لجلسة افتتاح الجمعية التأسيسية في بلادهم، وفي تأويل فوز جماعة “النهضة” في تونس استنادا إلى الدعم المادي والإعلامي من قطر. ثمة الكثير من الأمثلة التي يصعب حصرها في هذه العجالة.
أحد مفاتيح تفكيك ما تبديه مشيخات النفط، بدرجات متفاوتة لربيع الشعوب العربية، يكمن في دعمها لممثلي الإسلام السياسي. الصحيح أن ممثلي الإسلام السياسي لم يبادروا إلى الثورات التونسية، والمصرية، والليبية، واليمنية، والسورية. والصحيح، أيضاً، أنهم يحصدون اليوم أكثر من غيرهم نتائج تلك الثورات، وأن في ذلك الحصاد ما يعرقل إنشاء أنظمة ديمقراطية في المدى المنظور.
يُضاف إلى ما تقدّم، ويفسّره، ويندرج في إطاره، كلام محمد حسنين هيكل، عن مفاوضات الولايات المتحدة مع ممثلي الإسلام السياسي في العالم العربي، وعدم “ممانعة” الأميركيين لوصول الإسلاميين إلى سدة الحكم. بمعنى آخر، سياسة مشيخات النفط تنسجم مع سياسة الولايات المتحدة. الثورات العربية، قبل أن ننسى، لم تبدأ بقرار من الأميركيين ولا غيرهم، بل كانت مفاجأة للجميع، ولم تكن مصبوغة بأيديولوجية معيّنة. وما يحدث الآن يعني محاولة التأثير عليها، والسير بها في مسار مأمون.
فلنفسر هذا الأمر بطريقة أخرى: دعم طرف على حساب طرف آخر، والانسجام مع سياسة عليا للولايات المتحدة، أشياء تندرج في مشروع لاختطاف الثورة. يمكن أن نفهم، بالتأكيد، لماذا يريد الأميركيون اختطاف الثورة، وأفهم لماذا يريد ممثلو الإسلام السياسي في بلدان عربية مختلفة اختطاف الثورة، ولكن ما ينبغي فهمه لماذا تريد مشيخات النفط اختطاف الثورة. يريد الأميركيون ذلك لأنهم الدولة الأقوى والأهم في العالم، مصالحهم في كل مكان، المادية والتجارية والعسكرية. ويريد الإسلاميون ذلك لأنهم أصحاب مشروع، ويمارسون السياسة، وكل ممارس للسياسة يضع هدف الفوز بالسلطة نصب عينيه.
ولكن ما هي المصالح التي تسعى مشيخات النفط لحمايتها وتحقيقها؟ هل تحتاج لمزيد من المال، أم تريد تأمين خطوط الملاحة الدولية والسيطرة على الأسواق، وهل تريد إرضاء الأميركيين، أم تسعى إلى حماية نفسها من تحوّلات ديمقراطية حقيقية في العالم العربي، تهدد أمنها واستقرارها، وهل تراودها أحلام إمبراطورية من نوع صناعة حكّام تابعين في دول عربية أكبر وأهم، أم تشعر بالشفقة على العرب الآخرين وتمد لهم يد العون؟
أسئلة كثيرة، وإجابات محتملة أكثر، بيد أنني أطرح، هنا، سؤالاً يبدو خارج الموضوع: هل تكفي ثروة النفط لإنتاج أحلام فاوستية تتجاوز الاستهلاك السلعي لتغازل وهم الإمبراطورية؟
وضع “ألدوس هوكسلي” على رأس حكومة العالم في “عالم جديد شجاع” شخصاً اسمه “مصطفى موند”، وحسب تحليل هارولد بلوم فإن مصطفى بالعربية تعنى المصطفى، و”موند” تحيل إلى كلمة العالم بالفرنسية. نحن، إذاً، أمام المصطفى من العالم. بيد أن طريقة العالم في الاصطفاء تبدو أكثر تعقيداً، خاصة وأن مصطفى موند نفسه، يتجلى في صورة كل ما لا ينبغي أن يكون. وفي سياق كهذا، فقط، يبدو الحلم الفاوستي مرفوعا على ساعد النفط قبض ريح، وإن كان، رغم ما يثيره من حس فادح بالكوميديا السوداء، باهظ الثمن. وهذه طريقة التاريخ في السخرية، وربما في رفع الأصبع الوسطى، على طريقة علي فرزات بعدما اعتدى عليه شبيحة النظام في دمشق.
khaderhas1@hotmail.com
* كاتب فلسطيني