احتدام أزمة المياه يمكن أن يجعلها مفتوحة على احتمال استخدام القاهرة لغة الضغوط العسكرية لجذب الاهتمام الدولي مع ما يعنيه ذلك من مخاطر نشوب صراع شامل في القرن الأفريقي وفوق نهر النيل.
بدأت إثيوبيا منذ 2011 بناء سد النهضة المسمى “سد الألفية الكبير” على نهر النيل الأزرق، ومنذ ذلك الحين يرتسم التحدي بخصوص انعكاس ذلك على مصر “هبة النيل” وأمنها المائي والقومي. وعشية ملء خزانات السد وتشغيله في 2018، أعلنت مصر الأسبوع الماضي تجميد المفاوضات الفنية بخصوص تأثير سد النهضة على استخدامات الدولتين، وهذا ما حدا بالرئيس عبدالفتاح السيسي للتحذير من مسّ حصة مياه مصر، مشدداً على أنها “مسألة حياة أو موت”.
إلى أين سيقود اختبار القوة حول حوض النيل؟ هل ستتبلور تسوية تطمئن مصر بلد الـ104 ملايين نسمة، أم سنشهد نزاعاً مسلحاً أو سيكون عام 2018 على الأقل عام التوتر بين مصر وإثيوبيا كما يتوقع معهد كارنيجي الأميركي؟
تعتبر حاجات مصر من المياه أكثر إلحاحا بالقياس مع الدول الأخرى، لأنها واحدة من أفقر الدول في مصادر المياه ومن أكثرها اعتماداً عليها في العالم. فالنيل يزودها بكل حاجياتها تقريبا من المياه العذبة، ومعدل اعتماد مصر على ذلك الجزء من إجمالي موارد المياه المُتجددة التي تتدفق من خارج حدود البلاد يبلغ 97 في المئة.
هذا إضافة إلى أن نحو 85 في المئة من تدفقات المياه إلى مصر تأتي من تساقط المطر فوق المرتفعات الإثيوبية. لا تعدّ بلاد الكنانة حالة فريدة لأن توافر المياه العذبة (عصب الحياة) غدا هاجساً كونياً لصلتها بديمومة الكائنات الحية ولدورها في التنمية والتطور. وقد أشار تقرير صادر عن الأمم المتحدة تحت عنوان “المياه في عالم متغير” إلى أنه بحلول عام 2030 سيعيش نصف سكان العالم في مناطق شحيحة بالمياه (في أفريقيا وحدها يمكن أن يطال الشح 250 مليون نسمة).
في القارة السمراء كما في العالم العربي والشرق الأوسط، لا نغالي إذا أبدينا الخشية من أن يشهد القرن الحادي والعشرين نزاعات مقبلة تقترن بالخلاف على منابع المياه والأحواض المائية من أجل تأمين الحاجات المتزايدة، ويمكن أن تغذيها المشاكل السياسية والنزاعات الحدودية.
مع العلم أن الصراع على موارد الطاقة، من نفط وغاز ومياه، كان يمثل الخلفية للعديد من نزاعات وحروب القرن العشرين. ومجرد إلقاء نظرة على جغرافية الأنهار المشتركة يبين لنا حجم الرهانات والتداعيات، فدول كمصر والسودان وأوغندا وإثيوبيا تشترك في مياه نهر النيل، والعراق وسوريا وتركيا تشترك في مياه نهري دجلة والفرات، وتشترك الأردن ولبنان وسوريا وإسرائيل والأراضي الفلسطينية المحتلة في مياه نهر الأردن، وهناك أيضا الإشكالات حول أنهار اليرموك، العاصي، الليطاني، الوزاني، الجليل والمياه الجوفية في الضفة الغربية.
وفي عودة للتركيز على التحدي بالنسبة لمصر يتوجب التذكير بفشل اجتماع وزراء المياه لدول حوض النيل (صيف 2010) في التوقيع على الاتفاقية الإطارية للتعاون، إذ وقع وزراء خمس دول من حوض النيل (إثيوبيا وتنزانيا وأوغندا وكينيا وجمهورية الكونغو) على تلك الاتفاقية من دون مصر والسودان، وكان الأهم فيها ذلك البند عن هدف “تعزيز الإدارة التكاملية والتنمية المستدامة والاستخدام المنسّق لموارد مياه الحوض”.
دار الخلاف حينها بين طرفي دول المصبّ والمنبع على إعادة توزيع حصص المياه بين دولتي المصبّ (مصر والسودان) ودول المنبع الخمس. وبرز الجدل حول ما تعتبره مصر في خانة الحقوق التاريخية للحفاظ على أمنها المائي وفق القانون الدولي الذي يمنح ذلك لدولتي المصبّ، وبين تركيز إثيوبيا وغيرها من دول المنبع على الهدر والحاجة إلى المياه في التنمية.
وكان هاجس القاهرة على الدوام ضرورة إعلامها قبل الشروع في أية أعمال على النيل وضرورة الحصول على موافقة بالإجماع أو موافقة الأغلبية من دول الحوض. ومع تعذر التوافق على آلية جديدة لتقاسم مياه النهر تمسكت القاهرة بالرغم من انقسام السودان على احترام اتفاقية عام 1959 الذي يمنح مصر 5.55 مليار متر مكعب من المياه في السنة، مقابل 5.18 مليار متر مكعب للسودان.
بالرغم من الزمن الصعب في مصر منذ 2011، حاولت الحكومات المتعاقبة إقناع إثيوبيا خلال 15 جولة من الجهود الدبلوماسية بالالتزام باتفاقية 1959. لكن إثيوبيا ودول المنبع الأخرى لطالما شككت بشرعية هـذه الاتفاقية، حيث أنها لم تكن طرفا فيها كمـا تعتبر أنها لا تلبّي احتياجاتها المائية.
وهكذا بعد سنة على توقيع اتفاقية 2010 بين دول المنبع، بدأت أديس أبابا العمل في سد النهضة. وهو أضخم مشروع كهرومائي في أفريقيا (الارتفاع 170 مترا على مساحة 1800 كلم مربع والكلفة تجاور 5 مليارات دولار والسعة التخزينية يمكن أن تصل إلى 74 مليار متر مكعب سنوياً مما يعادل تقريباً حصتي مصر والسودان).
وفي دراسة حديثة أجرتها الجمعية الجيولوجية الأميركية تم كشف النقاب عن أنه “مع زمن ملء يبلغ 5-7 سنوات، سينخفض تدفق مياه النيل العذبة إلى مصر بنسبة صادمة تبلغ 25 في المئة”، وهذا ما سيقلّص الاستهلاك المتوافر للمياه إضافة إلى تخفيض ثلث الكهرباء التي يولدها السد العالي.
يعتبر السد العالي (أسوان) أبرز إنجازات مصر المعاصرة في حقبة جمال عبدالناصر، ولولا قرار تأميم قناة السويس والمساعدة السوفييتية لم يتحقق هذا الحلم المصري، والآن مع بناء سد النهضة في أعالي النيل تعيش القاهرة سباقا مع الزمن وعلى وقع مفاجآت غير سارة: في 17 أكتوبر الماضي حينما كانت مصر بصدد العودة إلى مجلس وزراء مبادرة حوض النيل، الذي قاطعته منذ العام 2010، كان هذا المجلس قد انتخب لتوّه وزير المياه الإثيوبي سلشي بيكيلي ليحل مكان زميله الأوغندي كرئيس لهذه المجموعة خلال السنة المقبلة، وأتت المفاجأة الثانية من السودان الذي يودّ زيادة حصته ويناكف مصر عبر وضع خطط تهدف إلى استخدام المزيد من تدفقات النهر عند بدء العمل بسد النهضة.
في مواجهة اندلاع أزمة مياه في مصر تُضاف إلى متاعبها الأخرى، ستسعى القاهرة على الأرجح إلى تكثيف نشاطها الدبلوماسي وربما تفتش عن وسائل تقنية أخرى لترتيب حصة إضافية من مشاريع جديدة في أعالي النيل (وهذا يتطلب تفاهما مع الخرطوم وجوبا).
لكن احتدام أزمة المياه يمكن أن يجعلها مفتوحة على احتمال استخدام القاهرة لغة الضغوط العسكرية والأمنية لجذب الاهتمام الدولي مع ما يعنيه ذلك من مخاطر نشوب صراع شامل في القرن الأفريقي وفوق نهر النيل.
khattarwahid@yahoo.fr
أستاذ العلوم السياسية، المركز الدولي للجيوبوليتيك – باريس