فلنشكر الحياة لأنها منّت علينا بالعيش في زمن الثورة المصرية، ولندخل في تقدير الموقف، وصلب الموضوع، بالمعنى التاريخي العام:
أولاً، مظاهرات الثلاثين من حزيران (يونيو) هي الموجة الارتدادية الثانية لزلزال ثورة الخامس والعشرين من يناير في مصر.
ثانياً، فتحت ثورة الخامس والعشرين من يناير باب الثورة الشعبية الديمقراطية، ليس في مصر وحسب، ولكن في العالم العربي، أيضاً. وفي الشرق الأوسط على الأرجح، فلن تنجو إيران ولا تركيا.
ثالثاً، ستطيح الموجة الحالية بنظام الإخوان المسلمين في مصر، ومن تداعياتها المتوسطة وبعيدة المدى الإطاحة بكل تجليات الإسلام السياسي في مصر، والعالم العربي.
كيف نفسّر هذه النقاط؟
أولاً، جاء الإسلام السياسي إلى سدة الحكم في ركاب ثورات الربيع العربية، وتمكن من فرض وجوده حتى في سورية، التي لم تتحرر بعد من حكم آل الأسد. وقد أُصيب كثيرون في العالم العربي وخارجه بخيبة الأمل، وبدأنا نسمع الشكوى من الربيع الذي تحوّل إلى خريف، ولم يندر أن تكون الشكوى مصحوبة بالندم، وحتى بالحنين إلى العهود السابقة.
خيبة الأمل، والشكوى، أشياء مفهومة ومبرّرة، في ظل سيادة الفوضى، وانعدام الأمن، وتعرّض الوحدة الترابية في بعض البلدان لمخاطر التفتيت، ومع هذا وذاك، في ظل صعود جماعات إلى سدة الحكم لم تكن ثورية في يوم من الأيام، ولم تكن المطالب الاجتماعية جزءاً من همومها الأيديولوجية، والسياسية، ولم تؤمن أبداً بالديمقراطية.
ولكن خيبة الأمل، والشكوى، كانت بمثابة ردة فعل سريعة ومتسرعة، لأن أصحابها لم يفهموا حقيقة الثورة، ولم يقبضوا على الدلالة التاريخية العميقة لحدث غير مسبوق في الميراث الثقافي والسياسي والاجتماعي للعرب. والأدهى من هذا وذاك أنهم لم يضعوا ما حدث في سياق التاريخ الإنساني العام.
على أية حال، الثورة زلزال تعقبه موجات ارتدادية، وأعترف مع قناعتي بهذه الحقيقة، أن قصر الفترة الزمنية بين موجة وأخرى، هو الجديد والفريد في تاريخ الثورة المصرية المجيدة، والفريدة. وهذا درس مصر للعالم.
ثانياً، لم تنجم أشياء مثل الشكوى وخيبة الأمل عن الفشل في فهم معنى الثورة (بالمطلق) والثورة المصرية على نحو خاص وحسب، بل ونجمت أيضاً عن فشل في قراءة هويتها الاجتماعية، باعتبارها ثورة شعبية ديمقراطية تجسدها شعارات: خبز، حرية، عدالة اجتماعية، وكرامة إنسانية.
لهذه الكلمات، على بساطتها، طاقة تحويلية تشبه تماماً شعار الثورة الفرنسية: الحرية، والإخاء والمساواة. ثلاث كلمات غيّرت وجه وتاريخ العالم. وكلمات الثورة المصرية ستغيّر وجه مصر، والعالم العربي.
ولأن الهوية الاجتماعية للثورة المصرية غابت عن الأعين في ظل خيبة الأمل والشكوى، غابت معها حقيقة أن أنظمة الإسلام السياسي، التي جاءت في ركاب ثورات الربيع، هي عنوان، وأداة، الثورة المضادة.
كان التدليل على أمر كهذا على مدار العامين الماضيين جزءاً من المرافعات النظرية والسياسية. ولكن الفرق بين الثورة والثورة المضادة يتجلى اليوم في الموجة الارتدادية الثانية، الساعية إلى تحرير مصر من نظام الإخوان، وحلفائهم القرضاويين، والوهابيين، الذين أسكرتهم نشوة “التمكين” فكشفتهم.
ولا تحتمل كلمة التحرير أكثر من معنى العودة إلى، واستعادة، الشعارات الأساسية للثورة المصرية، التي بقدر ما أصبحت بنوداً مُلزمة في العقد الاجتماعي، أصبحت أيضاً مسطرة يُقاس عليها نجاح أنظمة الحكم أو فشلها. وهذا ما سيكون عليه الأمر على مدار عقود كثيرة قادمة في مصر، وفي كل مكان آخر.
ثالثاً، وُلدت حركة الإخوان المسلمين في مصر، ويبدو أن هزيمتها التاريخية ستكون في بلد المنشأ، أيضاً. والرهان، في هذا الشأن، ناجم عن إدراك لهوية مصر باعتبارها دولة/أمة (بالمعنى الحديث للكلمة). ثمة علاقة عضوية بين هوية وطنية، راسخة في الزمان والمكان، والدولة الحديثة في مصر.
شهدت مصر صراعاً على الهوية، ومعنى الحداثة، منذ ولادة الدولة المصرية الحديثة، وكان ما سيصبح لاحقاً البضاعة الأيديولوجية للإخوان المسلمين، جزءاً من السجالات التي عاشها المصريون منذ النصف الثاني من القرن التاسع عشر.
ولنتذكر أن مصر الفرعونية، والمتوسطية، والقبطية، والعربية، كانت، أيضاً، من تجليات الديناميات الفكرية والسياسية، والثقافية، الهائلة التي أطلقها مشروع بناء الدولة الحديثة. وهذه التعبيرات لم تكن تعني في حالات كثيرة أوصافاً متعددة لهوية واحدة، بقدر ما تحيل إلى تصوّرات سياسية، وتأويلات أيديولوجية، متضاربة.
والواقع أن مصر هي هذه الأشياء كلها، أيضاً، بيد أن ترتيب الأولويات، ودمج المكوّنات الرئيسة، والاعتراف بها، والتساوي بينها، جزء من عملية تاريخية طويلة بدأت مع دولة محمد علي، وما تزال مستمرة.
ومن سوء حظ الإخوان، والإسلاميين عموماً، أنهم يملكون تصوّراً أحادياً، يصدر عن فكرتي الجاهلية والحاكمية، ويبرر الصدام مع الدولة والانقلاب عليها. وهذا، وفي هذا، ما يجعل من وجودهم في سدة الحكم مصدر تهديد للهوية الوطنية، والدولة الحديثة. وهذا ما يعبّر عنه أحد المثقفين المصريين في معرض نقده لحكم الإخوان بالقول: “كأن مصر فقدت هويتها، وباتت مؤهلة لإعادة بناء هويتها من جديد، ولكن بيد الجماعة وفكرها”.
ومن حسن حظ مصر، والمصريين، والعالم العربي، أن البنود المُلزمة في العقد الاجتماعي الجديد، للثورة الشعبية الديمقراطية، أصبحت مشروطة، أيضاً، بهوية الدولة الديمقراطية العلمانية. وهذا، أيضاً، درسٌ من دروس مصر، التي “في خاطري، وفي فمي، وأحبها من كل روحي ودمي”.
khaderhas1@hotmail.com
كاتب فلسطيني
مصرُ التي في خاطري..!!
شكرا للاستاذ حسن خضر على تحليله الواضح الواقعي الذي أثبت فيه فهمه للاوضاع في العالم العربي على حقيقتها دون لف او دوران ودون مصانعة هذا او ذاك. حبذا لو سار كتّاب كثيرون على منهجه كي يتمكن القارئ من تمييز الغث من السمين من التعليقات التي تغمرنا في وسائل الاعلام المختلفة وفي الانترنت.