يلتقي سعوديون وإسرائيليون، وتتوفر أشرطة عن لقاءات في ندوات مشتركة (الأمير تركي الفيصل، مثلاً)، ويظهر، من وقت إلى آخر، سعوديون للكلام في الموضوع (عسكري سابق يدعى عشقي، مثلاً) وثمة تحليلات كثيرة حول “تقارب“ سعودي وخليجي ـ إسرائيلي.
لا بأس. ولكن أحداً لا يُكلّف نفسه عناء التفكير في موقف الإسرائيليين من “التقارب“، وغالباً ما يتجلى الأمر في وسائل الإعلام العربية إما بإدانة المشاركين في فعاليات كهذه، والدول التي يمثلونها، أو بالتجاهل من جانب وسائل الإعلام التابعة للدول المعنية، ولا يندر من حين إلى آخر أن ينخرط “ليبرالي“ من هنا أو هناك في عزف منفرد عن فضائل السلام، و“غباء العرب“، الذين أنفقوا سبعة عقود في حروب خاسرة، وسمحوا لطغاة ومغامرين وضعوا قناع فلسطين على وجوههم بإنشاء أنظمة استبدادية أحرقت الأخضر واليابس.
ولا بأس، أيضاً، ففي كل ما قيل جانب من الحقيقة. ولكن الحقيقة، إذا كان ثمة من شيء كهذا، لا تحتمل التبسيط، ولا تتجلى إلا بوصفها مُركباً من عناصر مختلفة، وحقائق فرعية، ومن منطوق ومسكوت عنه، وهي في حالة سيولة دائمة نتيجة تبدّل علاقات القوّة، وما لها من أثر مباشر على المعرفة والإنشاء.
ولنقل إن جانباً من المسكوت عنه يتمثل في نظرة الإسرائيليين إلى “التقارب“، و“التعاون“، وما قد ينجم عن كليهما من “حلف“ محتمل، و“سلام“ فصيح. وثمة، في هذا الصدد، مرافعة كاشفة نشرها الدكتور مردخاي كيدار، في أواخر ديسمبر الماضي بعنوان “عشر نصائح لإسرائيل في التفاوض مع السعودية والعالم العربي“. المذكور خدم ربع قرن في الجيش الإسرائيلي، ويعمل في الوقت الحاضر زميلاً مشاركاً في معهد بيغين ـ سادات للأبحاث. وفي تقديم المرافعة توضيح أن كلمة السعودية تعني كل دول الخليج، وجوهر مرافعته وبكلماته: “لن تدفع إسرائيل ثمناً مقابل السلام، وتمد يدها لمَنْ يريد العيش بسلام معها، فهذا كل ما يحصل عليه“.
المذكور يتبنى قناعات أيديولوجية “يمينية“، حسب التعبيرات الإسرائيلية الشائعة، وبالنظر إلى خصوصية تعبيرات من نوع “اليمين“ و“اليسار“ في الحقل السياسي الإسرائيلي، يفقد ما يندرج في تعبيرات كهذه قابليته للقياس والتعميم مقارنة بتعبيرات مشابهة في دول أخرى. فاليميني الإسرائيلي قد يتبنى قناعات ليبرالية، تماماً، في الحقلين الاقتصادي والاجتماعي، واليساري قد يتبنى قناعات متشددة، تماماً، في الحقل السياسي. وغالباً ما تضيق الفجوة بين الاثنين كلما تعلّق الأمر “بالأمن“، فلا يختلف الاثنان على الغاية بل على الوسيلة.
لذا، ثمة ما يُبرر القول: إن مرافعة كيدار تتجاوز تصنيف “اليميني“ و“اليساري“، والصقور والحمائم، وأنها تُمثّل عقلية سائدة لا تشكو ندرة النفوذ لدى الإسرائيليين، مع اختلاف الحساسيات اللغوية والسياسية. فما ينقص من جرعة الدبلوماسية في كلام هنا، قد يجد ما يُعوّضها في كلام هناك. ومع ذلك، لا ينبغي الاستنتاج أن واقعاً كهذا يتكوّن من متآمرين يتقاسمون الأدوار، فالحياة والسياسة أكثر تعقيداً من تبسيط كهذا بكثير. وبهذا نصل إلى النصائح العشر، وثوابت إسرائيل التفاوضية، بالحرف تقريباً، كما كتبها كيدار، مع قدر من الإيجاز:
أولاً، السعوديون لا يريدون السلام، كل ما يريدونه مساعدة إسرائيل لهم في مجابهة إيران. وبمجرد انتهاء الخطر، حتى لو كان الثمن حرباً إسرائيلية ـ إيرانية مُكلفة، فليس من المؤكد أن تظل العلاقة مع الرياض سلمية. ثانياً، إسرائيل باقية، وعضو في المجتمع الدولي منذ سبعة عقود، ويمكن أن تستمر سبعة آلاف عام دون سلام مع السعودية، ولديها الوقت الكافي، وعليها أن تتذكر أن السلام مع السعودية لن يحل مشاكل الشرق الأوسط، فالسلام مع مصر والأردن لم يحل تلك المشاكل، أيضاً.
ثالثاً، لا صلة للسلام مع السعودية بأي موضوع آخر، خاصة الفلسطيني. رابعاً، إذا طرحت السعودية موضوع الفلسطينيين، فعلى إسرائيل القول: إذا أردتم مساعدة الفلسطينيين فعلاً فابنوا لهم المدن والبلدات في السعودية، ونحن نساعدكم بخبرتنا في بناء مجتمعات جديدة. وكل اقتراح آخر من جانب السعوديين ينبغي أن يُقابل بانسحاب إسرائيل من المفاوضات.
خامساً، تعترف إسرائيل بنظام آل سعود في مكة والمدينة (يلاحظ كيدار أن العائلة ليست من الحجاز بل من نجد) مقابل اعتراف السعودية بالقدس كعاصمة تاريخية وأبدية لإسرائيل. وتقبل إسرائيل أن تصف السعودية نفسها كدولة إسلامية مقابل اعتراف السعودية بإسرائيل كدولة يهودية تخص الشعب اليهودي. وتعترف إسرائيل لآل سعود بالعيش في أي مكان من السعودية مقابل اعتراف السعودية بحق الشعب اليهودي في العيش، في إسرائيل، ما بين النهر والبحر. ويلتزم الطرفان بعدم تحريض أحدهما ضد الآخر.
سادساً، تقبل إسرائيل بوجود سفارتها في أي مكان يختاره السعوديون، وفي المقابل يقبل هؤلاء بوجود سفارتهم في مكان تختاره إسرائيل، أي في القدس. وهذه مسألة مبدأ، وإذا نقل السعوديون سفارتهم إلى مكان آخر، دون موافقة إسرائيل، يصبح السلام بين الطرفين لاغياً. سابعاً، لا يُصوّت طرف ضد الآخر في المحافل الدولية، ولهما حق الامتناع عن التصويت.
ثامناً، يجب إبقاء الأميركيين والأوروبيين خارج طاولة المفاوضات، لأن هؤلاء يمكن أن يضغطوا على إسرائيل لتقديم تنازلات في الموضوع الفلسطيني. وتحتفظ إسرائيل لنفسها بحق الانسحاب من المفاوضات في أي لحظة. تاسعاً، لا تقبل إسرائيل ضمانات دولية مقابل مطالب سعودية. عاشراً، السلام يشمل التطبيع على كل المستويات. وفي المُلحق الأمني لاتفاقية السلام: يلتزم السعوديون بعدم مساعدة طرف ثالث ضد إسرائيل، ولا تلتزم إسرائيل بمهاجمة بلد لا يهدد أمنها مباشرة، وعليها ألا توقع اتفاقاً دفاعياً مع السعودية.
انتهت المرافعة، بكل ما في السطور، وتحت السطور، وبين السطور من فائض القوّة، والإيحاء المُقنّع حيناً، والسافر في حين. مشوار عشقي وكيدار طويل جداً، أليس كذلك؟
khaderhas1@hotmail.com