مشروع الإسلام السياسي وثقافة الأساطير

4

شهدت ثمانينات القرن الماضي صعود مشروع الإسلام السياسي –بجناحيه الشيعي والسني- موازياً لبداية تراجع المشروع القومي العربي الذي كان يعد رافداً مهماً في نهر حركة التحرر الوطني على مستوى العالم المعاصر. ولقد كان لهذا التراجع أسباب، أولها: غياب فلسفة الديموقراطية عن قلب وعقل هذا المشروع القومي، وثانيهما: سقوط الحليف الأكبر، الاتحاد السوفييتي السابق، الذي امتطى الماركسية كفلسفة تحرير على المستوى النظري، بينما كان يعمل في الواقع على بناء نظام رأسمالية الدولة ذات المصالح القومية. وأما ثالث الأسباب فيعود إلى استطاعة الغرب الرأسمالي المحنك أن يعبر أزمته الهيكلية –مؤقتاً- في مجال الاقتصاد، بتبنيه لما صار يُعرف بالليبرالية الجديدة، تأسيساً على أفكار لورد كينز، وميشيل فريدن ولوتار جال.

فأما عن صعود مشروع الإسلام السياسي، فلقد انطلق قطاره مسرعاً من المحطة التي توقف عندها القوميون، لا سيما حين تمكن الجناح الشيعي الإيراني من الوصول إلى السلطة بعد أن اقتلع –بالزخم الإسلامي- عرش الطاووس حليف الإمبريالية الأمريكية الأول في المنطقة. فكان أن برزت في العالم العربي من الجزائر إلى فلسطين، ومن السودان إلى السعودية، ومن الأردن إلى مصر تنظيمات سنية ٌ، متخذة ً لنفسها هدفا ً سياسياً محدداً (ومحدوداً) هو تجنيد شعوب المنطقة تحت راية الإسلام، تمهيداً لمواجهة حاسمة مع قوى الاستكبار العالميّ، وهو هدف سياسي لا شك في نبله، لكنه على المستوى الاستراتيجي لا يحل أية مشكلة. ذلك أنه بفرض تحقق الهدف السياسي، فلا مناص حينئذ من عودة صيغة الدولة الدينية، التي ترفع شعار الحاكمية لله وليس للشعب (الجهاد) والتي تعلن الحرب على كافة الدول غير المسلمة (سيد قطب) وتجبر رعاياها من غير المسلمين على سداد الجزية، أو بالأقل تحرمهم من تبوأ مناصب معينة في الدولة (الإخوان) مما يدفع بالمشكلات السياسية والاجتماعية، داخليا وخارجياً إلى حدها الأقصى.

ربما يضع الباحث يده على مظاهر التناقض في هذا المشروع والمتمثلة في منهج الانتقائية Eclecticism حيث اضطرت هذه التنظيمات إلى اعتبار أن الشورى هي الديموقراطية آخذة من الأخيرة الشكل دون المضمون، وقابلة منها آلية الانتخابات حسب، رافضة صراحة ً أو ضمناً التسليم بمبادئها الواردة بالميثاق العالمي لحقوق الإنسان، وعلى رأسها المساواة الكاملة بين المواطنين دون النظر إلى جنسهم أو أديانهم أو عقائدهم. ولكن الباحث حين يتعمق أكثر، لا ريب سيدرك أن التكوين الثقافي لغالبية الشعوب العربية والإسلامية إنما هو حجر الزاوية في مسألة قبول أو رفض تلك المبادئ الإنسانية العالمية. وآية ذلك أن هذه الثقافة كانت قد تأسست في عصر الإمبراطورية على اقتصاديات الفيء والخراج، ورضعت –سوسيولوجياً- من ثدي أيديولوجية التفوق الديني والعنصري، وصحيح أن كافة الدول في العصر الوسيط كانت كذلك، إلا أن تلك الثقافة أمست محض ذكريات بالنسبة للدولة المدنية الحديثة. أما عالمنا العربي فلا زال يعيش على هذه المخايلة التاريخية عاجزاً عن تخطيها، فبات منطقياً أن تولد لديه الأسطورة الأولى: أسطورة إعادة الماضي الذهبي ، بما تصوره لأصحابها أن مستقبل الأمة قابع ورائها، وبالتالي فأي حديث عن إبداع مصير إنساني بغير نموذج سابق، إنما هو حديث بدعة وضلال!

هذا التصور الماضوي يقوم على أمل غامض أن يدب الضعف في أوصال الغرب كما حدث للإمبراطوريتين الفارسية والرومانية في العصر الوسيط، وأن يتقدم العرب والمسلمون كما تقدموا في السابق (نظرية حسن حنفي)، والمفارقة هنا أن العرب والمسلمين الذين آمنوا بالعلم في ذلك العصر الذهبي مثل أبي بكر الرازي وابن سينا وابن رشد، وغيرهم، اضطهدوا واتهموا بالزندقة، رغم قبول إنتاجهم المعرفي ولو على مضض. فما بالنا بالعرب المُعاصرين فهم جُملة ً يمقتون فكرة المعرفة العلمية، رافضين شروطها بظن منهم أنها تزعزع أركان العقيدة!! من هنا نشأت أسطورة فرعية تدعى “أسلمة العلوم” أي القبول بالنواتج الاستهلاكية للعلم ورفض مناهجه في آن. خذ مثلاً قيام مفتي السعودية السابق عبد العزيز بن باز بتكفير القائلين بكروية الأرض! وكذلك تصريح الأستاذ أ.ك. بروهي المفكر الرسمي السابق لباكستان بأن آراء آينشتاين في حركة الجزيئات والمكونات الأساسية للمادة وطبيعة الضوء خاطئة من الناحية الإسلامية! أضف إلى هذا وذاك تحقير غالبية المتعلمين في العالم الإسلامي لداروين ونظريته في أصل الأنواع، ليس لكونها ناقصة علميا ً، بحيث يجوز تخطئتها بمنهج كارل بوبر، بل لأنها أساساً لا تتفق وفكرة خلق الإنسان مستقلاً عن المملكة الحيوانية، تلك الفكرة التي تستند على النص التوراتي لا على أية أبحاث بيولوجية. ويترتب على هذه القطيعة المعرفية Epistemological Break مع مناهج العلوم الطبيعية المعاصرة تخريج أجيال من المتعلمين شكلاً، عاجزين عقلاً عن مواكبة العصر، بله المنافسة في ميادين الإنتاج الصناعي، والاتصالاتيّ، والاختراع، والكشوف العلمية المتسارعة. ومع ذلك تأبى هذه الأجيال أن تسأل نفسها من أين جاء هذا الحاضر البائس؟ أوليس كل حاضر ابناً لماض لا مشاحة مورث لجيناته وميماته؟

وأما الأسطورة الثانية – والتي يروج لها مشروع الإسلام السياسي- فتعد امتداداً عضوياً للأسطورة الأولى. ومفاد هذه الأسطورة الثانية أن الإسلام يتعرض لمؤامرة تاريخية، رسم اليهود تفاصيلها، وتقوم أمريكا وأوروبا بتنفيذها، وهي أسطورة لا تلتفت إلى حقائق صراع القوى العظمى بغرض تكريس الثروة العالمية لصالح دول الشمال على حساب دول الجنوب، ولصالح الرأسماليين على حساب العمل المأجور، دون تفرقة بين طبقات عاملة مسلمة وأخرى مسيحية وثالثة يهودية، حيث الكل مستلب ومنتهب سواء بسواء.

أما ثالث تلك الأساطير، فهي أسطورة المـُـخـَلـّص (بتشديد اللام) الذي هو فرد عبقري مُلهَم، فيه تتجسد الأمة جميعاً بآمالها وأحلامها بل وقدراتها الكامنة Potential Potencies، ولهذا فإن تسليم القياد للبطل المخلص بغير مراجعة أو مناقشة كفيل بإحراز النصر! وعليه يمكن تفسير ولع الشعوب العربية بصلاح الدين وعبد الناصر وصدام ونصر الله، إذ يكفي هؤلاء شرفاً أنهم تصادموا مع العدو، بعضهم حقق انتصارات، وبعضهم هزم ولا تثريب! فالنتائج المترتبة على ما يفعلون أمر يخصهم وحدهم، وكيف يمكن محاسبتهم وقد احتازوا الرضا والإعجاب؟ كذلك لا يمكن محاسبة الجماهير على نتائج الأبطال إذا جاءت سلبية لسبب بسيط هو أن الجماهير لم تكن مشاركة بأية حال في قرارات هؤلاء الأبطال.

وهكذا يمكن القول بأن ثقافة الأساطير الموروثة هذه، والتي تسود غالباً مجتمعات ما قبل الحداثة، إنما تمثل قاعدة ارتكاز تصعد عليها مشاريع الإسلام السياسي: سنياً كان أم شيعياً، ولكن إلى متى يظل الصعود؟ وإلى أين يذهب بالأمة؟

tahadyat_thakafya@yahoo.com

* الإسكندرية

4 تعليقات
Newest
Oldest Most Voted
Inline Feedbacks
View all comments
محاسن سمير -طالبة جامعية
محاسن سمير -طالبة جامعية
16 سنوات

مشروع الإسلام السياسي وثقافة الأساطير
يحلو لنا أن نسمى اصحاب القرار في أمريكا وأوروبا واليابان بقوى الإستكبار العالمى
وأنا أريد ان أسمي أصحاب مشروع الإسلام السياسي بـ.. قوى المكابرة العالمية
لأنهم وبلا شك يسيرون عكس عقارب الساعة. والزمن لا يعود للوراء مهماحاولنا
ولن يكون أحمد نجاد أو حسن نصر الله أوأسامة بن لادن هو المهدى المنتظر.فهؤلاء
يفرقون ولا يجمعون. فحسبنا الله وتعم الوكيل

مصطفي محمود
مصطفي محمود
16 سنوات

مشروع الإسلام السياسي وثقافة الأساطير
لا يوجد ما تدعوه بالإسلام السياسي . الأسلام اسلام فقط وهو دين ودولة و شريعة وعقيدة .فاما ان تاخذه كله او تتركه كله . اما الأساطير فهي في رأسك أنت وليست
في الإسلام الذى هو دين الفطرة ودين العقل.

مهندس/محمد عمر- مصرى مقيم بألمانيا
مهندس/محمد عمر- مصرى مقيم بألمانيا
16 سنوات

مشروع الإسلام السياسي وثقافة الأساطيرعجيب أمر الأخ حمد نور وأمثاله الذين يحبون التعميم حبا جما . ألا تعلم يا فتي أن الغرب الذي تضعه في سلة واحدة يجمع أقواما وأشتاتا من الناس مخنلفين أشد الإختلاف في الشارب والمذاهب والعقائد. وكله كوم وحكاية النظريات كوم . فلو رفضتا نظريات الغرب ” الفاسد” كما تحب لما كان في مستطاع سيادتك أن تكتب وتنشر ما كتبت فأنت تستخدم الكومبيوتر الذى هو اختراع غربي قام علي نظرية هي منتج غربي . لكنك وأمثالك تكابرون وتخدعون انفسكم بعد أإن خدعكم كبيركم الذى قال : الله سخر لنا الغرب يكتشف ويخترع لنأخذ نحن الحصيلة جاهزة !… قراءة المزيد ..

حمد صبرى نور
حمد صبرى نور
16 سنوات

مشروع الإسلام السياسي وثقافة الأساطير
أنت تقول أن الإسلام السياسي جاء ليواجه قوى الاستكبار العالمي وان هذا هدف لا
شك في نبله . لكن تعود لتقول ان ذلك لا يحل شيئا لأن ذلك قائم علي أساطير وأنا أقول بل قائم علي حقائق تصديقا لقوله تعالي وسيعلم الظالمون اى منقلب ينقلبون.
صدق الله العظيم.
عودوا الي كتاب الله أيها المثقفون ولا نرددوا نظريات الغرب الفاسد

Share.

اكتشاف المزيد من Middle East Transparent

اشترك الآن للاستمرار في القراءة والحصول على حق الوصول إلى الأرشيف الكامل.

Continue reading