في الوقت الذي نرى ونقرأ عن أحداث طائفية تستهدف غير المسلمين من المسيحيين الأقباط في مصر أو الكاثوليك والمندائيين في العراق، تحتفي الصحافة الفرنسية بظاهرة فريدة في بداية العام الدراسي، ألا وهي احتضان مدارس الراهبات الكاثوليك بمئات التلميذات المسلمات المحجبات الذين رفضت المدارس الحكومية الفرنسية التحاقهن بها إلا إذا خلعن الحجاب أو غطاء الرأس (الإيشارب). وهو ما استجابت له بعض الأسر المسلمة التي تعيش في فرنسا حرصاً على تعليم بناتهن في المدارس الحكومية المجانية، لضيق ذات اليد، وعدم القدرة على إلحاق بناتهن بمدارس خاصة باهظة التكاليف. وكان هناك فريق ثالث من هذه الأسر المسلمة الذي آثر إبقاء بناتهن في المنزل، حفاظاً على ممارسة اعتبروها جزءاً من المعتقد الديني.
وجاء المخرج من هذه الاختيارات الصعبة حينما أعلنت الكنيسة الكاثوليكية الفرنسية أنها ستفتح أبواب مدارس الراهبات لمن ترغبن من التلميذات المسلمات، دون مطالبتهن بخلع الحجاب أو غطاء الرأس. وقد رحّبت آلاف الأسر المسلمة بهذا القرار، والتي تنحدر معظمها من أصول مغاربية (تونس والجزائر والمغرب الأقصى)، وأقبلوا على تسجيل بناتهن في هذه المدارس الكاثوليكية ذات المصروفات المتواضعة. ومن ناحيتها قررت تلك المدارس تقديم دروس أسبوعية في الدين الإسلامي، لا فقط للطالبات المسلمات، ولكن أيضاً لمن ترغبن من تلميذات مدارسها غير المسلمات.
لقد كانت هذه الخطوة من الكنيسة الكاثوليكية مفعمة بالمعاني والتحديات. من ذلك أنها:
1ـ دليل على الثقة بالنفس، والاستعداد للانفتاح على الآخرين من غير المسيحيين، ومن غير الكاثوليك.
2ـ تتحدى مقولة صراع أو صدام الحضارات، التي خرج علينا بها عالم
السياسة الأمريكي صاموئيل هنتجتون، منذ عدة سنوات. فخطوة الكنيسة الكاثوليكية هذه تنطوي على العكس تماماً، وهو إمكانية تعايش الحضارات، بل وتنوعها وتعاونها، دون أن تفقد أي منها قيمها ومعاييرها وممارساتها المفضلة.
3ـ أهم من هذا وذاك أن خطوة الكنيسة الكاثوليكية المذكورة أعلاه تنطوي، كما ألمح بعض المحللين عن الرغبة في تعبئة “المؤمنين”، ودعم تضامنهم في مواجهة النزعات الإلحادية والمادية. أي أن الكنيسة ممثلة بمدارس الراهبات التي تفتح أبوابها للمسلمات المحتشمات، تقول للعالم أن المؤمنين والمؤمنات من شتى الأديان يجمعهم من المشترك أكثر مما يفرقهم من اختلافات دينية أو طائفية أو مذهبية.
4ـ والكنيسة الكاثوليكية بهذا “التحالف الإيماني”، ترد على غلاة العلمانية الفرنسية، الذين كانوا قد أمعنوا في التضييق على الكنيسة وأتباعها منذ نشوب الثورة الفرنسية، عام 1789. فلم تكتفي تلك الثورة بالفصل الكامل بين الكنيسة والدولة، ولكنها شنت حرباً ممتدة ضد الكنيسة الكاثوليكية التي كانت في القرنين السابقين (أي السادس عشر والسابع عشر) متحالفة تماماً مع الملك ضد “الشعب”! وضمن هذه الحرب أنشأت الدولة مدارسها الرسمية، ومنعت تدريس الدين فيها. كذلك ألغت أي مساعدات مادية أو معنوية للمدارس التابعة للكنيسة الكاثوليكية، وصادرت أو فرضت ضرائب على ممتلكات هذه الكنيسة. ومن ناحيتها ناهضت الكنيسة أفكار وشعارات الثورة الفرنسية، وأصدر “بابا الفاتيكان” فتاوى في القرن التاسع عشر، تعتبر الدعوة للديمقراطية والحرية والمساواة “رجس من عمل الشيطان”، حيث تنطوي مثل هذه الدعوة على مخالفة للسنن الكونية، التي سنها الرّب (الله) لعباده على الأرض.
ولم تهدأ هذه الحرب الممتدة إلا في الربع الأول من القرن العشرين، وتحديداً بعد الثورة البلشفية في روسيا (1917)، وهي ثورة كانت أشد وبالاً على كل الأديان من الثورة الفرنسية. فبينما كانت الثورة الفرنسية تناهض الدين، جاءت الثورة البلشفية لتقتلعه من جذوره، وتبيده تماماً، بصفته، كما يقول كارل ماركس “أفيوناً للشعوب”.
ومع هذه التهدئه أو المهادنة بين الدولة الفرنسية والكنيسة، سمحت الأولى للثانية بإعادة فتح مدارسها، وإن استمرت تناهضها. فأين يقع المسلمون الفرنسيون من هذا كله؟ ولماذا قررت الكنيسة الكاثوليكية في فرنسا، وبمباركة بابا الفاتيكان في روما، أن تفتح أبواب مدارس الراهبات فيها للبنات المسلمات المحجبات؟ وهل هي محاولة من الكنيسة للتبشير في صفوف هؤلاء البنات وتحويلهن إلى المسيحية؟ والإجابة على السؤال الأخير هي بالنفي، بدليل أن هذه المدارس تقدم دروساً أسبوعية في الدين الإسلامي، بواسطة معلمين مسلمين، وتشجيعهن على التمسك بتراثهن.
أما الإجابة على السؤالين الأول والثاني، فهي ان الكنيسة الكاثوليكية الآن تبحث عن حلفاء مؤمنين من الديانات السماوية “الإبراهيمية” الأخرى (الإسلام واليهودية) لبلورة جبهة إيمانية عريضة تواجه بها التشدد أو التطرف العلماني و”المادية العولمية”. ومن هذه الناحية فهي تجد في المسلمين المتدينين في أوروبا خير حلفاء. ومن هنا فإن هذه الكنيسة تنتصر لحق المسلمين والمسلمات في التمسك بمعتقداتهم وممارسة ما تمليه عليهم من طقوس وعادات، بما فيها اختيار ما يروق لهم من أزياء. وبتعبير آخر فإن الكنيسة الكاثوليكية تشجع مسلمات فرنسا على الصمود في وجه التطرف العلماني للدولة الفرنسية.
وما دمنا نتحدث عن العلمانية والدين في فرنسا فلعله من المناسب إحاطة القرّاء المصريين والعرب بالمعاني والممارسات المختلفة لمفهوم “العلمانية”، والتي يُجري الخلط بينها عادة في الجدل العام. فهناك على الأقل ثلاثة استخدامات لهذا المفهوم:
* الاستخدام الأنجلو سكسوني، وهو الذي يفصل بين الدين والدولة، ولكن بلا عداوة أو استعداء. وهو استخدام أقرب لقول السيد المسيح: “إعط الله ما لله، واعط قيصر ما لقيصر”. فامور الآخرة هي من الله وإلى الله. وأمور الحكم والسلطة، هي من الدولة (قيصر) وإليها. وبتعبير آخر، لا ينبغي الخلط بين أمور الدنيا وأمور الدين، وإنما احترام كلاهما للآخر، بلا محاولة السيطرة باسم الدين على الدولة، أو سيطرة الدولة على شئون الدين.
* الاستخدام الثاني هو الاستخدام الفرنسي الكلاسيكي منذ الثورة الفرنسية. وهو الفصل والعداوة، حسب ما أشرنا إليه في مقدمة هذا المقال. وللأسف حينما نقل المترجمون العرب هذا المفهوم إلى العربية، فإنهم نقلوه عن الاستخدام الفرنسي في القرن التاسع عشر.
* الاستخدام الثالث هو الاستخدام الماركسي للعلمانية وهو الذي لا يكتفي بالفصل بين الدين والدولة (الأنجلو سكسوني)، أو حتى المناهضة والاستعداء (المفوم الفرنسي)، ولكن ينطوي على اقتلاع الدين وإبادته سواء كمعتقدات أو ممارسات.
ونحن نميل للأخذ بالاستخدام الأنجلو سكسوني، الذي لا ينكر الدين أو يناهضه، بل يحترمه ولكن يبعده عن شئون الدولة.
وفي كل الأحوال، فلا بد للمسلمين، أن يعترفوا بفضل الكنيسة الكاثوليكية في فرنسا لرعايتها لمن يرغبن من البنات المسلمات في الحفاظ على ممارساتهن الإسلامية. ولعلنا نتعلم ـ كمسلمين ـ كيفية رعاية وحماية واحترام غير المسلمين ممن يعيشون بيننا. فغير ذلك هو تعصب مذموم، ويدل على عدم النضج وعدم الثقة بالذات. والله أعلم
semibrahim@gmail.com