المسلسل الرمضاني الذي عرض فترة ولاية الملك فاروق لم يكن مجرد عمل درامي متميز شد انتباه المتفرجين طوال شهر واجتذب النقاد لتحليله بعد انتهاء عرضه، لكنه تجاوز ذلك ليحدث ردود أفعال متباينة لدى شرائح الرأي العام، وانعكاسات ساخنة لا تزال تتردد على صفحات الصحف والمجلات على اختلاف انتماءاتها…الأمر الذي يدعو للبحث والتحليل لأن صدى بعض الأعمال الدرامية وتأثيرها في المتلقين ودرجة تحريكها للوعي العام تمثل معايير لا يجب إغفالها أو التهوين من شأنها.
السؤال المطروح الذي يبحث عن إجابة هو: لماذا أجج المسلسل شعورا بالحنين لدى قطاعات من المصريين لحقبة نشأوا وتعلموا في ظل تقديمها إليهم باعتبارها “عهدا بائدا” معالمه ملكية ماجنة ورأسمالية فاحشة وسياسة فاسدة وطبقية بشعة؟…فلما شاهدوا المسلسل وجدوا أن تلك المعالم تختلف عما تعلموه وأن التأريخ لهذه الحقبة سواء للأسرة الملكية أو للحياة السياسية أو لشرائح المجتمع التي تناولها العمل الدرامي قدم إنصافا غير معهود لم يتوقعه من توقفت معلوماته عند الكتاب المدرسي ولم يتجاوزه إلى كتابات الدارسين والمؤرخين والشهود الذين شهدوا على ذلك العصر.
لست أقول إن المسلسل أصبح مرجعا تاريخيا للعصر الذي سلط عليه الضوء، فلا يمكن الارتكان إلى تفاصيل الأحداث التي تخللته عوضا عن كتب التاريخ لأن كل عمل درامي له من المرونة في الإبداع وإطلاق الخيال ما قد يبتعد به بدرجات متفاوتة عن حرفية الواقع، لكن الجو العام الذي لفت الأنظار في المسلسل وأعود وأقول إنه أجج شعورا بالحنين لعصره لدى قطاعات من المصريين هو التنوع والتعددية والليبرالية والتنوير، تلك الملامح التي شكلت في مجملها سمات صحية سادت وقتها وساهمت في دفع المجتمع في اتجاه التطور والرقي وبات كثير من المصريين يفتقدونها في واقعهم المعاصر..قليل من الشرائح العمرية التي تعيش بيننا اليوم عايشت ذلك العصر وعرفته بحلوه ومره وطالما تحسرت علي انحساره، ليس اشتياقا لعودة النظام الملكي، لكن حسرة علي ضياع القيم والمثل التي كانت تحكم العصر وتضبط حركة المجتمع وقدرته على تصحيح مساره بشكل طبيعي وسلمي كلما ابتعد عن الطريق القويم…ولعلها ليست مصادفة أن يشار إلي أيام ذلك العصر باعتبارها “أيام الزمن الجميل”.
ما يفتقده المصريون ليس بالضرورة شكل نظام الحكم، ولا يملك عاقل أن يتصور عودة نظام ملكي أو إرجاع الزمن نحو نصف قرن إلى الوراء، لكن حنين المصريين هو إلى شفافية نظام الحكم وإلى تنوع الحياة السياسية وإلى حيوية التعددية وإلى كفالة تداول السلطة فكل ذلك كان يمثل مياها متدفقة متجددة تنقي نفسها بنفسها طبيعيا ولا تتوقف حركتها فتركد وتتعطن…ما يفتقده المصريون هو حرية حقيقية معاشة لا تتعثر في أحادية سياسية ولا دولة أمنية بوليسية ولا سطوة مؤسسة دينية…والحقيقة أن أحداث المسلسل وواقع العصر الذي تناوله عكسا مناخا ليبراليا علمانيا تعدديا وقدما ملامح دولة مدنية ما زلنا نتطلع إليها
في عصرنا هذا ونأمل في بلوغها علي طريق الإصلاح السياسي المرتقب.
وإذا كان ذلك كله جانبا من ردود الأفعال التي أطلقها مسلسل الملك فاروق، فليس بمستغرب أن تكون هناك ردود أفعال على الجانب الآخر استشعرت درجة الحنين والتعاطف نحو العصر الملكي ولم تفطن إلي أن الحنين ليس إلى شكل العصر بل إلى جوهره فانبرت تشهر الأقلام والأسلحة زودا عن الثورة وحتميتها وإنجازاتها وكأننا في معركة انتخابية طرفاها الحزب الملكي والحزب الجمهوري، حيث كل طرف يسلط الأضواء على مآثره ويحجبها عن إخفاقاته…لكن ما نحن بصدده ليس معركة أقلام أو صراعا بين صحف تستدعي الماضي وأخرى تدافع عن الحاضر، ما نحن بصدده هو تحدي المصارحة والمواجهة الأمينة مع النفس فحنين المصريين إلى الماضي هو احتجاج صامت على الحاضر، ودفاع البعض عن الحاضر هو اعتراف بأن الأرض بدأت تهتز تحت أقدام النظام، وأن الاحتياج الملح هو استعادة قيم ومثل وشفافية وطهارة وتعددية باتت عزيزة إن لم تكن مفتقدة.
إن هذا المسلسل يحسب له أنه حرك مياها راكدة في العقل المصري وفي جسد المجتمع المصري، فأصبحت الحاجة ماسة إلى مراجعة أمينة لتاريخنا لتنقيته مما علق به من تسييس لخدمة أغراض إعلاء عصر على حساب عصر سابق، فالشعوب المتحضرة لا تفعل ذلك لتبرير الثورة والتغيير، وحمدا لله أننا لسنا في هذا الصدد في حاجة إلى إعادة كتابة تاريخنا بالكامل إنما فقط تصحيح وتدقيق تاريخنا المسجل في الكتب المدرسية ليتفق مع تاريخنا المسجل في كتابات المؤرخين وكتاب التاريخ المتخصصين المشهود لهم بالأمانة التاريخية.
كما أن علينا العمل على استعادة منظومة القيم ومعايير الأخلاق التي تآكلت وتهرأت بفعل سطوة الثقافات الوافدة علينا بجانب تردي دولة المؤسسات وتراجع صولجان القانون في المجتمع.
وأخيرا علينا الإسراع في تفعيل مسار الإصلاح السياسي الذي بدأ بغرس بذور التعديلات الدستورية لكنه لم ينم ولن نقطف ثماره إلا برعايته وتعهده بالإصلاح التشريعي والتعددية الحزبية وتداول السلطة مع ترسيخ الحريات وحقوق المواطنة…ولا يجب أن نتستر على تجميد الإصلاح السياسي بالإسراف في حديث الإصلاح الاقتصادي، فالإصلاح الاقتصادي ثابت وثماره بدأنا نقطفها لكن لا غنى عن أن يلحق به الإصلاح السياسي.
فهل نستطيع يوما أن نقول:إن مسلسل الملك فاروق ساهم في التعجيل بالإصلاح السياسي؟!
-جريدة وطني المصرية