أوكلت صحيفة «ليبراسيون» الفرنسية في عدد سابق لها ادارة تحريرها، وليوم واحد، الى مصمّم الازياء الفرنسي، ذي الشهرة العالمية، كارل لاغرفلد. فأشرف على العدد بأكلمه، حجما وإخراجا، ورسومات. بدل الصور الفوتوغرافية أو الرسومات التي اعتادت الصحيفة ان تنشرها الى جانب أخبارها وتعليقاتها، رسم كارل لاغرفلد ما يراه ملائما للموضوع. ومن بين الموضوعات التي رسمها تغطية لمراسلة الصحيفة في جنوب افريقيا حيث تجري مونديال كرة القدم، عن انتصار البرتغال الساحق على كوريا الشمالية. فكان الرسم أعلاه، الذي رآه المصمم ملائما.
في هذا الرسم يظهر لاعب كرة جالس كما تجلسا «حورية الشمال» في تمثال أحد مرافىء كوبنهاغن، عاصمة الدانمارك. الحورية الاسطورية، صاحبة الجلسة الفريدة والقدّ الدقيق والاناقة الانثوية، هي التي أوحت لكارل لاغرفلد الوضعية التي يراها مناسبة لتجسيد بطل متصوَّر من ابطال الكرة. وضعية اللاعب والطريقة التي يجلس بها ليسا وحدهما الموحيتَين بالأنوثة. استدارات جسده، خصوصا الخصر، موسومة بعذوبة ورقّة، حتى لتكاد ترى له ثديين. له عضلات، نعم، ولكنها ملساء، غير نافرة. جسد لا تعرف له جنس: مزيج من التناسق الانثوي والوثبة الرجالية. للوهلة الاولى يفاجئك بفتنه الانثوية. ولكن بعد ثوان لا تستطيع ان تغفل قوته وحجم أطرافه وعرض أكتافه وضيق أوراكه. أما وجهه ففيه الالتباس نفسه: فمٌ محجوب، مغلق ربما، أنف دقيق وعينان سوداوان وحواجب مرتفعة وشعر غير قصير. لولا سواد شعره وعينيه، لكان شبيها بوجوه الملائكة التي لا نعرف لها جنس، والتي أكثرَ فنانو النهضة الاوروبية من رسمها فوق رؤوس الانبياء والقديسين والصالحين. وإمعانا في الالتباس، وضع كارل لاغرفلد في حجرة اللاعب كرةً، كأنه أراد بذلك القول بأن هذا الذي أمامنا ليس برجل مخنّث ولا امرأة مسترجلة ولا كائنا بلا جنس، بل امام كائن يمزج، في ذاته وفي ملامح جسده وحركته، بين الرجل والمرأة. انه الكائن الاندروجيني.
طبعا هناك مفاجأة في هذا النموذج الذي يراه كارل لاغرفلد ملائما لتجسيد نجم كرة قدم. ملامح الابطال التقليديين لم تكن تشكو من قلة رجولة. صحيح ان اللعبة نفسها لا تحتاج الى عضلات مفتولة بقدر حاجتها الى الخفة والمهارة، ولكن نموذج البطل الكروي لم تخرج عن المعايير الرجالية المتعارف عليها في تلك اللعبة. وفي النموذج التقليدي أيضا جمهور الكرة من الرجال فقط؛ فيما الملاعب ممنوعة على النساء منذ عهد الامبرطورية الرومانية وملاعب المصارعين. والنساء في السليقة المبنية على هذا المنع لسن من هواة اللعبة الكروية. فوق ذلك، نشأة كرة القدم أو اختراعها في القرن الثامن عشر على يد مربّين انكليز، كان الغرض منها صيانة طاقات المراهقين من الانحرافات الجنسية. ومع الوقت تحولت اللعبة الى عالم يضجّ بالرغبات والتهويمات والترميزات الجنسية. وأشهرها تلك النشوة التي يصرح بها الرجال ويعمّمونها عند تسجيل «الغول»، الهدف؛ نشوة وإثارة ولذة ورغبة جنسية وفعل جنسي عادي أو حتى بالاغتصاب… تلك هي الايحاءات التي لا يتوانى الرجال عن التصريح بها وهم في حمى الكرة. القاموس الكروي الجنسي حاضر بقوة هنا؛ ولكن ضمن عالم رجالي ضيق، تشكو منه النساء، تقليديا. بل في السنوات الماضية تحولت الحياة الجنسية لأبطال الكرة الى مادة دسمة في الاعلام الأصفر: الزوجة الضرورية والعشيقة الضرورية وبنت الهوى «باهظة الثمن»، شبه المصرَّح عنها.
ولكن في هذه الاثناء النساء تهتم أكثر فأكثر باللعبة، تتابعها، تؤيد هذه او تلك من الفرق، كاسرة بذلك القاعدة الرومانية القديمة ومحوّلة أدراج الملاعب ومقاعد التفرّج عبر التلفزيون من جنسها الرجولي الأصلي الصافي الى إختلاط. الجمهور النسائي أيضا له هواماته الجنسية ولا بد له من ملاحظة تفاصيل جسد اللاعب المعروض أمامها، عدوُهُ، ساقاه، وجهه… خصوصا عندما تستعيد الشاشة الصغيرة اللقطات الذهبية من تسجيل «الغول» في مرمى الخصم بالسرعة البطيئة؛ فلا تكون مجرّد حركة فذة للاعب فذ، بل رقصة تبرز مفاتنه وتضفي عليها جاذبية سينمائية. هذا الاهتمام النسائي لاحظه الحذقون من مستثمري اللعبة فجيّروا النجوم من بين اللاعبين نحو الانشطة المثيرة لمزيد من الرغبة النسائية: عروض أزياء واعلانات تجارية حيث يبدون اكثر اثارة وجاذبية مما هم عليه في الملعب… وسنة بعد سنة، يزداد عدد اللاعبين في تعاطي هذا المجال، غير متميزين عن نجوم الفيديو والسينما والغناء.
في السياق نفسه صار لزوجات الابطال (وغدا عشيقاتهم؟) صفحاتهم الفنية شبه الاباحية: زوجة فلان من الابطال تعرض مفاتنها على صفحات الشبكة الالكترونية أو الصحافة الصفراء. وسنة بعد اخرى، من المنطق ان يزداد أيضا عدد الزوجات الفاتنات… هكذا، صارت كرة القدم لعبة يتقاسمها جمهور من الرجال والنساء، ويتنافس عبرها أبطال وزوجاتهم على نجومية جنسية واضحة.
ولكن في هذه الاثناء، وعلى وتيرة اقتحام النساء لحصون الملاعب واهتمامهن بلعبة طال انشغال الرجال بها عنهن، كانت اذواقهن الرجالية هي ايضا تتغير. وكان جسد الرجل وتعبيراته تتغير معها. لم يعد النموذج هو ذاك الرجل الصارخ الذكورة، صاحب القوة الطاغية والملامح الحادة: ذكورة على نقيض الانوثة، معادية لها؛ لقد نزل هذا النموذج من عرشه، أو في طريقه الى النزول، وصار الرجل في هندامه وتعبيرات جسده وملامح وجهه أقل ذكورة، أقرب الى الانوثة.
ليس الغرض القول هنا بأن الرجال أو أبطال كرة القدم صاروا على مثال رسم كارل لاغرفلد، اندروجينيين، ولا بأن النساء لم يعد يستهويهن الا هذا النموذج من الرجال. بل ان ما رسمه المصمم هو ميل في الرجولة الغربية، يتوقع له، إن تطورت الامور على وتيرة ما تسير عليه الآن، نحو ان يعمّم تصوران: الاول، مثلهم مثل النساء سوف يتحول الرجال الى موضوع جنسي، ليس على الطريقة القديمة، حيث جاذبيتهم «معنوية» بالدرجة الاولى، بل بالخوض في تفاصيل جسدهم. أما التغير الثاني، فسوف يكون في اقترابهم من معايير الجمال والجاذبية الانثويين. ان سارت الوتيرة كما تسير الآن …
كارل لاغرفلد لا ينذر ولا يعظ ولا ينبئ بانهيار اخلاق وعائلات ومجتمعات، هو فقط يلتقط ميلا لم يعد دفينا، ويتوقع له مستقبلا يقع بين القريب والمتوسط. وكارل لاغرفلد مبدع غير هامشي في عالم الازياء، أي المظهر والصورة، الشيء الأهم في هذا العصر. وهو يملك سلطة التاثير على أذواق الآخرين، والقدرة على التقاط لاوعيهم، مثل سيغموند فرويد تماما. وقيمة الابداع هي في سبر أغوار تطلّ مؤشراتها من نوافذ قريبة بعيدة.
dalal.elbizri@gmail.com
* كاتبة لبنانية
المستقبل