تكتسب المواجهة مع الإرهاب الأصولي بعداً كونياً مذ أصبح خطراً يتهدد جميع المجتمعات، إذ لا توفر عمليات القتل المرتكبة أي بلد في العالم. ومنذ 11/9 لم يعد من المعقول تجاهل أن المصدر الرئيسي للإرهاب الأصولي هو الشرق الأوسط بشكل خاص والعالم الإسلامي عموماً، وهي حقيقة لا يمكن تبريرها بالادعاء بأن العمليات هي رد على “حرب مقدسة” مدعاة ضد المسلمين كستار “لأمركة” ما للمنطقة، أو غير ذلك مما تتقن تسويقه الأنظمة الشمولية وبعض نخب المنطقة السياسية المستغرقة في الماضي البعيد والقريب.
لم يبذل العالم بعد كل ما يستطيعه من جهود لوضع حد لظاهرة الإرهاب العالمي، ورغم أن العنف الأصولي يرد عليه بالعنف في كثير من الأحيان، إلا أن الوسيلة الأنجع لتجفيف منابع الإرهاب هي مواجهته في الجبهة الثقافية لقطع الطريق أمام تأويلاته للنصوص لتبرير عملياته الإجرامية، ومن هذه الزاوية يمكن تقدير وتثمين عمل نخبة من خيرة الكتاب أدركت دورها الفاعل في التصدي لهذه الظاهرة وشرعت أقلامها الجريئة لمواجهتها في عقر دارها.
أحد هؤلاء وليس آخرهم الكاتب السوري المجد “إحسان طالب” المتخصص في الدراسات الإسلامية الذي ساهم في العديد من مقالاته في التصدي للتطرف الديني والأصولية، وأتى كتابه الأخير: “التشدد الديني والإسلام السياسي”* ليغطي العديد من جوانب هذه المسالة الشائكة، سعياً وراء “فضاء معرفي متصالح مع الحاضر، لا يرهن المستقبل لمنجزات الماضي”، يعالج السلبيات التي نتجت عن محاولات ربط السياسة بالإسلام والدين بالحكم، بمنهج علماني وعقلاني يعتمد الإبداع والاجتهاد ويبتعد عن التقليد، من منطلق لا يعادي الدين لكن يحافظ على وجهه الإنساني.
المواجهة بالنسبة للكاتب تبدأ بنقد العقل العربي السكوني النقلي المقيد بمناهج ثابتة لا تقبل التغيير أو التراجع.. وخاصة العقل الإسلامي الأصولي الذي رتب أولوياته على تقديم النصوص على ما سواها، وحصر دور العقل في ترداد فضائل التراث وتفسير الأحكام استناداً للسلف وليس للوقائع المعاصرة، كردة فعل منغلقة تجاه التطور العلمي وإحساساً بخطورته على التراث، الذي تجاوزته الحضارات والثقافات العالمية.
يربط الكاتب الأصولية بدور الأنظمة الاستبدادية التي رعت التشدد والتطرف الديني وتحالفت في كثير من الأحيان مع الإسلام السياسي كوسيلة للحفاظ على سلطاتها ولتخويف الغرب من خطر انتشاره، ولا يخفى أن الاستبداد مكن للأصولية الإسلامية بتدميره المنظم للمجتمع المدني. كما أن الأصولية ترعرعت على أنقاض الهزائم التي منيت بها الأنظمة والتيارات القومية والاشتراكية والليبرالية.
إلا أن هناك أسباب أخرى متعددة لانتشار التشدد الديني والتطرف الأصولي، وأهمها أثر النصوص وتفاسيرها في تبني التشدد الديني، فالنصوص التي تدعو للتسامح والوسطية والسلام لا تلقى الاهتمام الكافي، فيما النصوص السائدة هي التي تدعو للقتال وحرب الكفار ورفض الآخر المختلف.. وهي نصوص تجذرت تفاسيرها المتشددة في أعماق المجتمع وأنبتت تعصباً بلغ حد المطالبة بالقتل لمجرد أقوال.. فضلاً عن أن المناهج التعليمية تقدس الموروث وتضخم إنجازات الحضارة الإسلامية وتكرس التقليد والتبعية وتعادي التفكير النقدي والنزعة الاستقلالية المبدعة.
فالأصولية ليست ردة فعل بل حركة أصيلة كامنة في أوساط المجتمع المتخلف تتفجر عندما تجد فرصتها في ضعف النظام الاستبدادي، ويمكن لبعض أطرافها الاستفادة من “الديمقراطية” كقطار للوصول للسلطة تنزل منه في المحطة الأخيرة.. وهي معوق للتطور والتنمية والتعدد، معادية للمرأة ومشجعة لثقافة الموت وقتل الآخر مروجة لتلازم الدين مع العنف..
لا يستبعد الكاتب الدور الخارجي في تحفيز التشدد الديني والأصولية والتطرف، فالغرب فشل في الفهم العميق للتراث الفقهي وأصوله وآلياته، وترك الشعوب نهباً للاستبداد، وحافظ على استقرار الأنظمة الشمولية لتأمين مصالحه، وعجز عن حل المسائل العالقة في المنطقة، وارتكب جرائم وأخطاء أثناء حكمه الاستعماري… إلا أن الكاتب يبالغ في تأكيده أن الغرب يقود حملة صليبية مقدسة تصبغ الصراع مع العرب والمسلمين بالصفة الدينية، وهولا يرى فرقاً بين سعي الأصولية للهيمنة على العالم، وبين السعي الأميركي للتفرد بالقرار العالمي إلا في الإمكانيات والوسائل، رغم بعد المسافة بين التوجهين، ويفضل أن يصف القيم الحضارية والإنسانية للدول الغربية بأنها مزعومة!!
ويبدو الكاتب من خلال عرضه للحلول في مواجهة التشدد الديني والأصولية أقرب للمفكرين الذين رأوا الحل في مراجعة التراث لتحريره من أسر التفاسير والقيود التي أعاقت تجديده واندماجه في نسيج الحضارة العالمية، بفهم إنساني وعقلاني مناقض للتفسير السلفي الأصولي الجامد والمتزمت، من منطلق علماني يفصل بين المقدس والدنيوي وبين الدين والسياسة على منوال ما سبق أن بدأه ابن خلدون باعتبار “الدولة شأن دنيوي والدين شأن آخروي”، وابن رشد الذي غلب العقل على النص، للرهان على مستقبل جديد للشعوب الإسلامية “مرتبط بمدى إنجازها لنقد الأسس التي قام عليها العقل الإسلامي”، حسب أركون.
لا أظن أنه يمكن في هذه العجالة عرض جميع الأفكار والآراء الواردة في الكتاب، مما لا يغني عن ضرورة قراءته للإطلاع على الجهد المبذول من الكاتب الذي نتوقع أن تكون هذه المحاولة باكورة إنتاجه وليس آخرها.
* إصدار دار الرأي – دمشق – الطبعة الأولى 2009
ahmarw6@gmail.com
* دمشق