تشهد باريس مساء اليوم، اللقاء السادس منذ مطلع هذا العام بين وزيري الخارجية الأميركي والروسي، بحضور نظيرهما الفرنسي لمناقشة التحضيرات لمؤتمر «جنيف ـ 2» الذي يتوقع أن يعقد الشهر المقبل، ويعول الكثير عليه كمدخل للحل في سوريا.
يأتي تكثيف السعي إلى التسوية السياسية في سوريا بعد تحول الصراع فيها وحولها إلى ما يشبه اللعبة الكبرى في القرن التاسع عشر. في مطلع ذاك القرن كانت السيطرة على آسيا الوسطى محور الصراع بين الإمبراطوريتين، البريطانية والقيصرية الروسية، وتحديدا حول الهند “جوهرة تاج” الامبراطورية التي لا تغيب عنها الشمس بوجه التهديدات الروسية آنذاك. لكن الصراع المتمركز في أفغانستان والذي انخرط فيه العديد من الدول الأوروبية، لم يتحول إلى حرب مباشرة، لكنه اسفر عن تراجع الإنجليز.
في بدايات القرن الحادي والعشرين نشهد “اللعبة الكبرى الجديدة” في سوريا المعقل الوحيد للنفوذ الروسي المتجدد بعد سبات لمدة عقدين، والتي تشكل أيضاً مستقراً وممراً لنفوذ إيران الحالمة بعودة عصر الامبراطوريات.
في مواجهة المحور الدولي – الاقليمي المدافع عن النظام السوري تخوض الولايات المتحدة الأميركية اللعبة بشكل حذر ليس لمراعاة مصالح إسرائيل فحسب، بل تطبيقا لنهج جديد أرساه باراك اوباما وقوامه استبعاد التدخل المباشر في استخلاص لدروس حربَي افغانستان والعراق.
وهكذا تجد فرنسا وبريطانيا اللتان توزعتا المشرق، حسب” اتفاقية سايكس – بيكو” منذ قرن مضى، في موقع الشاهد على أفول نفوذ يذكر الباحث بمرحلة ما بعد حرب 1956 وانعكاسها على الحضور الاوروبي. والأدهى من ذلك أنّ القوى الاقليمية المنخرطة الى جانب المعارضة السورية وتحديدا تركيا والمملكة العربية السعودية وقطر تجد نفسها مضطرة للتقيد برزنامة العمل الأميركية.
كما في صراع القرن التاسع عشر، ليس هناك احتمال لأي صدام مباشر بين اللاعبين الكبيرين، بل هناك صراع داخلي وحروب بالنيابة تذكر بمقولة غسان تويني عن “حروب الآخرين”. في ظل هكذا مشهد ملتبس وعلى رغم تورط المحور الايراني بقوة ودخول محدود لقوى “الجهاد العالمي” من منظمة القاعدة وأخواتها، أصبح الحسم العسكري لأي من الطرفين غير ممكن وغير مقبول.
وتبعاً لذلك، قرر القطبان الأساسيان أي الرئيس الأميركي “المسالم” باراك اوباما والقيصر الجديد فلاديمير بوتين إعطاء كل الفرص للحل السياسي، وقد عهدا لوزيرهما المخضرمان جون كيري وسيرغي لافروف مهمة طبخ الحل السياسي على نار هادئة، ووصل الامر بالديبلوماسي السوفياتي “العنيد” (من مواليد 1950 لأب من أصول أرمنية وأم روسية) تبشيرنا بمسار طويل من عدة سنوات كما حصل في دايتون بالنسبة إلى البوسنة بعد نحو خمس سنوات من المجازر، أو بما يشبه “الطائف” بعد خمس عشر سنة من الحروب في لبنان.
على الدرب نحو جنيف تبرز العقد والتعقيدات وابرز العناصر الضرورية لعقد هذا المؤتمر يكمن في بعض المسائل التي يجب حلها، ومن ضمنها أجندة اللقاء، والمشاركون فيه. من ناحية البرنامج يبدو ان السيد لافروف يتصرف بمثابة العراب للمسار ويريد أن يصل الى هدفه، أي الحفاظ على النظام السوري والنفوذ الروسي تحت العديد من العناوين البراقة حول السيادة وعدم التدخل في خيارات الشعوب، لكن الدوافع الحقيقية لا تتلخص في عودة روسيا لقوتها إبان الحرب الباردة ولا في قاعدة طرطوس وسوق الطاقة وغيرها من الأسباب الجيو استراتيجية، بل يمكن ان تتصل باختبار قوة آخر حول إيران، وحرص موسكو على عدم التباين مع طهران في هذا الملف، ومن الممكن ان يكون للعلاقة المنفعية والمالية القوية بين الاسد وعائلة خاله محمد مخلوف من جهة، والثنائي بوتين – لافروف من جهة اخرى (علاقة قديمة تعود لتعاون مشترك بين محيط بوتين وآل مخلوف يعود لمرحلة تطبيق معادلة “النفط مقابل الغداء” في عراق صدام حسين المتهالك نهاية التسعينات).
في الجانب الآخر، يظهر ان المخضرم، كيري الكاثوليكي المتدين والمحاور المنفتح والماسوني الشهير، يمتهن النفس الطويل مقابل لافروف عازف الغيتار والمدخن الكبير، ويريد ان يسهل المسار علّه ينتزع لاحقاً تنازلات حول تنحي بشار الأسد من دون أن يظهر ذلك بمثابة هزيمة لفريقه او انتكاسة لموسكو.
بيد أن جداول أعمال او أجندة الأطراف الاخرى تجعل المسألة مثل “الشوربا الصينية” إذ يمكن لطهران المهيمنة على القرار في دائرة الحكم الأولى في دمشق أن تعطل أي حل لا يلائمها، أما الرياض وأنقرة والدوحة كما باريس ولندن، فتجد نفسها جاهدة لمنع واشنطن من تقديم تنازلات مجانية لموسكو على حساب مطالب المعارضة السورية حول مصير الرئيس السوري او حول صلاحيات الحكومة الانتقالية.
أما بالنسبة إلى المشاركين فزيادة على مشاكل تمثيل النظام ووفد المعارضة، تمثل مشاركة إيران عقبة بحد ذاتها ويحاول “المحنك” كيري إقناع لافروف “المتشبث” بصيغة تمثيل لطهران والرياض كدول مراقبة تحضر الجلسة الافتتاحية.
إنّ الغموض الهدام في صيغة “جنيف – 2” يهددها فعلا قبل بدء المسار، وما العجلة من الرئيس اوباما إلا لتهدئة النقاش الداخلي حول الكارثة السورية، اما قبول بوتين فلا يعدو كونه وسيلة لكسب الوقت وتكريس الغلبة الروسية التعطيلية في هذا الملف. على ضوء هذه الوقائع والاحتمالات، يبدو هذا المؤتمر نقطة انطلاق في مسار شائك وطويل وليس بداية النهاية للصراع السوري.
khattarwahid@yahoo.fr
جامعي وإعلامي لبناني
الجمهورية