الحاجز 86
من مقابل كنيسة المزة وسوق الخضار، حيث يتوضع حاجز عسكري تشغله عناصر من الشرطة العسكرية والمدنية ومطبّات، يبدأ حي مزة 86.. وتبدأ الحكاية!
وجد الحاجز منذ منتصف السبعينيات، وكان يومها عبارة عن خيمة عسكرية يقبع فيها عسكري وربما كان ضابطاً، كانت مهمته تماثل مهمة عساكر الحاجز اليوم، مراقبة البناء ومنعه في منطقة المزة 86.
من الواضح الآن أن لا الخيمة ولا الحاجز تمكنهما من القيام بالمهمة المسندة إليهما، فها نحن أمام حي ضخم، إشكالي إلى الحد الذي سماه فيه البعض بالقنبلة الموقوتة أو السجن البشري الكبير.
كيف نشأ الحي؟
كانت المنطقة المسماة الآن مزة 86، عبارة عن أحراش وصخور تعود ملكيتها إلى بعض من أهالي المزة وبعض الوزارات كوزارة الدفاع ووزارة السياحة.
في بداية السبعينيات تأسست كتيبة (ثكنة) عسكرية أُطلق عليها رقم 86. سمح لبعض عناصرها العسكرية ببناء عدد من الغرف المنفردة لإيوائهم، ويقال إنها كانت مبنية من اللبن والصفيح. هؤلاء أحضروا زوجاتهم وأولادهم من قراهم البعيدة، ومن كان عازباً تزوج، هذا هو المنطق الطبيعي للحياة. وعُدت المنطقة منطقة حي سكني عسكري، واتخذ من رقم الثكنة اسماً له : مزة 86.
في منتصف السبعينيات أو قبلها بقليل بدأ المد المدني إلى ذلك الحي، وبدأ التوسع بنتيجة تضخم الدولة وأجهزتها ومؤسساتها في دمشق .. بعض الأشخاص ممن كانوا من الفقراء أو غير ذلك، كانوا أقوياء في لحظة من اللحظات بحكم حاجة الدولة لهم في الجيش، فتمكنوا من إشادة بيوت مؤلفة من طابق أو طابقين وبيعها للمدنيين، وكل هذا دون ترخيص وبالطبع دون أن يكونوا أصحاب الملكية، والدولة غضت النظر عنهم. لكن العمران العشوائي المخالف انتشر بعد منتصف السبعينيات بصورة مذهلة فتنبهت الدولة إلى خطورة ذلك وقررت وضع حد له: مراقبة البناء ومنعه!! من خلال عسكري أو ضابط في خيمة!! لكن ما حدث هو أن ذلك العسكري فعلاً منع البناء، لكنه سمح لمن دفع له ومن خلال وسطاء لديه بالتعمير في المنطقة، أي كان يبيع الأراضي المشاعية وقد يقوم بمصادرة مواد البناء بما فيها حنفية الماء ليعود ويبيعها لصاحبها، تماماً كما يحدث اليوم عند ذلك الحاجز العسكري الشهير. إذ يمكن أن يُصادر مجلى متواضع لأسرة فقيرة اشترته بدل المجلى القديم المعطوب، وفي الوقت نفسه يمكن أن تمر شاحنة “قلاب” يحمل المئات بل الآلاف من حجارة البناء! والآلية معروفة: الدفع-الرشوة، رشوة الجميع من عناصر الحاجز العسكري، إلى البلدية فالمحافظة، أو من خلال علاقات التوسط والقوة، ليتم غض النظر عن البناء.
وسائل الفقراء:قانون الحياة الحاسم
يقول مختار “حي مزة 86” إن “عدد سكان الحي 200000 نسمة ويصل إلى 250000 صيفاً، أتوا من كافة أنحاء البلد من الساحل وهم الأكثر والأقدم، ومن الداخل ومن الجزيرة، والآن من العراق، إنهم خليط مذهبي وإثني. كل فقير يأتي إلى هنا لأنه يعرف أن الـ86 ستأويه إما في غرفة يصل إيجارها حد أدنى 2000 ليرة أو في منزل ممتلك ثمنه عدة مئات من الآلاف”.
وهنا لا يهم الطابو، المهم هو تدبير الحال، وأساساً يعرف هؤلاء الناس أنهم لما تمكنوا من إيجاد مأوى لهم بتلك الأسعار لو بحثوا عن الطابو.
الآن تبدو بيوت الـ86 حالة هجينة من الريف والمدينة. فالأهالي الذين قدموا من الريف نقلوا بيوتهم الريفية معهم إلى المدينة: البيت مؤلف من غرفتين أو أكثر وفسحة دار ومنافع خارجية، بيت ملاصق للآخر، بيت هنا وبيت هناك، وعلى عجل حلت غرفة بمنافعها الخارجية بين البيتين، من الخارج جدرانها مطلية بالاسمنت، ولحقت بها غرفة طابق ثان دون ذلك الغلاف الاسمنتي. بيوت رُقع طلاؤها الأبيض بالاسمنت، نوافذها صغيرة جداً، يفصل بينها وبين نوافذ الجيران المقابلة أقل من متر. أزقة ضيقة بل “زواريب” صاعدة بأدراج حفرتها الأرجل عبر السنوات، وأدراج طويلة حجارتها متكسرة. قالت لي صديقتي القاطنة في أعالي ال86 أنها لم تتمكن من نقل خزانة عرسها الكبيرة بسبب ضيق الزقاق المؤدي إلى بيتها فاضطرت إلى إنزالها من سطح الجيران إلى شرفة بيتها. كما أخبرتني أنها اضطرت إلى العدول عن فكرة ارتداء أحذية الكعب العالي فمن جهة لن يطول عمر الكعب بسبب سوء الشوارع حيث الحفر الكثيرة والمطبات والحجارة والتراب، وهذا بوجود القار”الزفت” أو دون وجوده، ومن جهة أخرى فإن ارتداء الكعب العالي محفوف بمخاطر الانزلاق على تلك الشوارع خاصة وأنها-أي الشوارع كما البيوت- تتسلق الجبل بميول حادة ، وكلما صعدنا نحو الأعلى ازداد المشهد قتامة وفقراً. تزداد “الزواريب” ضيقاً والأدراج ميلاناً وتعثراً، وتزداد البيوت تقشفاً وتلاصقاً وتداخلاً. وتكثر الأبنية الطابقية المتصدعة التي تفتقر إلى الشروط الفنية المطلوبة للأمان.
أذكر أنني في زيارة للمرة الأولى لأصدقاء لي، دخلت بيتاً ومررت في فسحة دار ضيقة، حيث يجلس أهل البيت يتناولون فطارهم يوم الجمعة، فاعتذرت والتففت للخروج معتقدة أنني أخطأت الطريق، لكن حقيقة لم أخطئ الدرب بل كان علي أن أمرّ في منزل آخر غير الذي مررت فيه لأصل حيث يسكن أصدقائي.
من يصعد إلى المزة 86 سيرى أهل الريف وقد حملوا معهم الكثير من عاداته، سيرى المصاطب أمام البيوت، تُرش بالماء عصر كل يوم للحصول على البرودة، والأهم لتخفيف الغبار وهذا بالتأكيد سيزيد الشوارع وحولةً واتساخاً. يجلس الأهالي على تلك المصاطب نساء ورجال وأطفال- والأغلب أن الأطفال يلعبون في الشارع أمام نظر أهلهم- يشربون المتة والشاي ويدخنون الأراكيل وأمامهم صحون فاكهة الموسم :مشمش أو أكيدنيا أو ربما توت من الضيعة أو عنب من كرمة الضيعة أو الكرمة التي زرعوها لتمتد على سطح البيت هنا في دمشق أو سقفوا الدار بها. سنرى أصص (علب سمنة معدنية صدئة، أو علب دواء غسيل بلاستيكية) زرع فيها الحبق وفم السمكة. سنرى مناشر الغسيل على طريقة أهالي الريف: أسلاك معدنية نصبت بين نافذتين في الدار أو على البلكون المطل على الشارع، والأشهر مناشر الأسطحة، وفي حالات قليلة مناشر الشارع، وتعود للبيوت الضيقة الصغيرة كالحشوات بين البيوت، دون أن نتمكن من اللحاق بسطح ذلك البيت إذ يختفي في الزحام. سنرى الدكاكين الصغيرة المتواضعة تبيع موادها بالتقسيط حتى لو بلغت القيمة 5ليرة.
أما سماء الحي فهو عبارة عن شبكة من الأسلاك الكهربائية المدهشة في توصيلها وتشابكها وتعقيدها، وأسهل ما يمكن حدوثه هو انقطاعها لدى مرور شاحنة أو هبوب الرياح، والأسوأ هو الماس الكهربائي الذي يكفي لتحريضه هطول القليل من المطر أو الرياح، وأساساً ليست بحاجة إلى كل ذلك فبسبب الضغط في الاستهلاك لعدم قدرة الشبكة على الاستيعاب، تحترق الأسلاك ويحدث الماس ولكم أن تتصورا النتائج المترتبة عن ذلك.
ورغم كثافة الأسلاك الكهربائية فإن الشوارع بالكاد مضاءة باستثناء الشوارع الرئيسية.
الجورة بدل الصرف الصحي
أما الصرف الصحي فهو من أسوأ الخدمات في المزة 86، إذ أن تمديداته في الأساس سيئة تسرّب المياه المالحة تحت البيوت والأبنية الطابقية، وعلى سبيل المثال يهرّب مجرور الصرف الصحي في شارع حسني السبح، محتوياته منذ 8 سنوات دون أن يعالَج الأمر بشكل جذري، بل تأتي ورشة الصيانة في كل مرة تحدث فيها شكوى وتحذير من خطورة الوضع، وتعالج المشكلة بالتسليك و”التسكيج” المؤقت. وعلمت من المختار أنه تم تصدع بعض الأبنية السكنية واضطر ساكنوها إلى إخلائها بسبب خطورة المشكلة. ويقول المختار “أما في الشتاء حيث الأمطار، فيزداد الأمر سوءا إذ تتوقف شبكات الصرف الصحي عن التصريف وتدخل المياه المالحة إلى البيوت” ويضيف ” كثير من الشوارع غير مخدّمة بالصرف الصحي وما زال الأهالي يستخدمون الجور الصحية كما في الأرياف النائية”.” كل الخدمات هنا باستثناء المياه، لا تستوعب الحي، وأية مشكلة لا تحل جذرياً فكل جهة تنفيذية تستغل ثغرات في القانون لتبرر سوء التنفيذ، فمثلاً يضعون 100 خط في علبة الهاتف لحي يحتاج 500 بحجة عدم توفر الخطوط، مما يدفع الناس إلى الرشاوى والأساليب غير النظامية للحصول على الهواتف، ويحصلون!
الدولة لا تلبي مطالب واحتياجات أهل الحي بحجة المخطط التنظيمي الذي قد لا ينفذ بعشرين سنة”.
هكذا يتعلم أبناؤهم ويعالجون
في الحي مدرسة واحدة، علماً أنه يحتاج إلى 5 على الأقل، وبطبيعة الأحوال باحتها غير مبلطة بل هي نسخة من شوارع الحي فيها الحفر والمطبات، وسجلت لجنة الحي أكثر من شكوى أذية أطفال المدرسة أثناء اللعب في الباحة.
يتحدث المختار عن المستوصف الوحيد في ال86 “رغم فخامته فقد كلف الدولة ملايين الليرات، إلا أنه يعاني من نقص في كادر الأطباء والتمريض، والأدوية. تصوري أن توزع الأدوية بالكميات ذاتها على مستوصف الـ86 ومستوصف مزة فيلات علماً أنه يخدم حوالي 50000 نسمة بينما هنا يخدم أكثر من 200000 نسمة”.
لكن المشكلة الأسوأ في نظر المختار هي الازدحام الشديد في الشوارع بسبب ضيقها كون الحي له مدخلان فقط مدخل الحاجز العسكري والمدخل بجانب فلافل على كيفك، علماً أنه كان هنالك 3 مداخل لكن رئيس البلدية السابق أمر بإغلاق المدخل الموجود عند معهد اللغات منذ 5سنوات.
تلك الصورة القاتمة عن الـ86 هي الغالبة لكنها ليست الوحيدة إذ ثمة مشاهد تقع على النقيض تماماً، هنالك بنايات الرخام الأبيض والوردي، والسيارات السوداء الفخمة، والمحلات التجارية الضخمة”السوبر ماركت” إنها في بداية الحي أي الأقرب إلى المزة وهنا بطبيعة الحال الخدمات أفضل بكثير من فوق.. إنها الفئات الأقوى نفوذاً و الأكثر غنى.
في انتظار الحلول اللاورقية
هكذا هم الفقراء في أي مكان من العالم ، يضطرون لتدبير أمورهم بنفسهم، حينئذ يصبح من الطبيعي أن يخالفوا ليعيشوا ومن الطبيعي أن يشوهوا المكان، حين تكون خطط الدولة وبرامجها تتعلق بالفئات العليا من المجتمع، أما باقي الفئات فإن الخطط تجاهها غير جادة، ويصطدم تنفيذها بالبيروقراطية والفساد. كم فرصة سنحت للدولة خلال 4 عقود من الزمن لحل هذه المشكلة التي تتفاقم يومياً؟! في الحقيقة كل حلولها كانت شكلية: قوانين على الورق. ويمكننا أن نتصور مقدار ما صُرف في هذا المكان للبناء والضرائب والترقيعات والخدمات وصيانة الخدمات وأسعار مضاعفة ورشاوى… كل ذلك يجعلنا نفكر كم كان ممكناً بناء حي بل مدينة في هذا المكان، مدينة جميلة منظمة ومزودة بالكثير من الخدمات. نعم هذا ممكن وهو رابح، وكثير من الدول تمكنت من وضع حلول لمشاكل السكن العشوائي.
فهل تنتظر الدولة لدينا أن تتصدع كل المباني وتتهاوى فوق سكانها لتبدأ الحل؟ ألا نعرف جميعنا أن مزة 86 ومناطق حزام الفقر في دمشق تقع فوق أرض غضارية كهفية متخلخلة خطرة، غير صالحة للبناء! فهل تنتظر حدوث زلزال ليصبح الحل الجدي ضرورة إسعافية؟ نرجو غير ذلك.
( كلنا شركاء )
أين المعلق السوري الدائم على القضايا السعودية ؟ لماذا لا نراه هنا ؟
الدول العربية كلها تعاني أمراضا قاتلة / ونحن جيدون في الاستهزاء من بعضنا وهدم بيوت الآخرين ونهمل ترميم بيوتنا ……
لدول العربية سيقتلها محبوها