بقلم سيد إمام الشريف
لا تكليف على زائل العقل للحديث: (رفع القلم عن ثلاث)، ولا تكليف قبل العلم وبلوغ الخطاب لقوله تعالى: «…وما كنا معذبين حتى نبعث رسولاً» (الإسراء:15)، ومنه القاعدة الفقهية «لا حكم لأفعال العقلاء قبل ورود النص»، ولا تكليف عند العجز وعدم القدرة لقوله تعالى «لا يكلف الله نفساً إلا وسعها» (البقرة:286).
أما العلم بالشرع،فهو الطريق إلى معرفة ما يريده الله منا، ولا سبيل إلى ذلك إلا بتعلم علم الشريعة، كما قال تعالى: «وكذلك أوحينا إليك روحاً من أمرنا ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان ولكن جعلناه نوراً نهدي به من نشاء من عبادنا« (الشورى:52).
والإنسـان وإن كان الأصل فيه الجهل كما قال سبحانه: «والله أخرجكم من بطون أمهاتكم لا تعلمون شيئا» (النحل:78)، إلا أنه مأمور بالتعلم وطلب العلم، فلا يجوز أن يفعل شيئا حتى يعلم حكمه في شرع الله كما قال سبحانه «فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون» (النحل:43).
وفي الحديث الصحيح قال النبي صلى الله عليه وسلم «طلب العلم فريضة على كل مسلم» صححه السيوطي، وقد أمد الله سبحانه الإنسان بوسائل التعلم ليستعملها في طاعة الله ومنها طلب العلم وجعل هذا شكرها، فقال سبحانه «والله أخرجكم من بطون أمهاتكم لا تعلمون شيئاً وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة لعلكم تشكرون» (النحل:78)، راجع موانع الأهلية المكتسبة في «شرح التلويح على التوضيح» لسعد الدين التفتازاني وأبي مسعود البخاري.
وإذا كان طلب العلم واجبًا على المسلم ليعلم ما فرضه الله عليه من الواجب والحلال والحرام، فإن طريق التعلم هو سؤال الأمناء من أهل العلم، فلا يسأل غير أمين لأن خبره لا يوثق به كما قال تعالى «إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا» (الحجرات:6)، ولا يسأل الجاهل وإن كان يلبس ثياب العلماء لأن سؤاله سبيل الضلالة والهلاك كما قال النبي صلى الله عليه وسلم في الصحيح «إن الله لا يقبض العلم انتزاعًا ينتزعه من العباد، ولكن يقبض العلم بقبض العلماء، حتى إذا لم يبق عالما اتخذ الناس رؤسا جهالا فسئلوا فأفتوا بغير علم فضلوا وأضلوا»، وقال البخاري، رحمه الله، في صحيحه «وكانت الأئمة بعد النبي صلى الله عليه وسلم يستشيرون الأمناء من أهل العلم» في كتاب الاعتصام بالبخاري. وهناك طرق أخرى للتعلم، منها قراءة كتب العلماء الثقات (وهو ما يعرف بالتحمل بالوجادة)، على أن المبتدئ قد يخطئ في فهم كلام العلماء في كتبهم، وقد يوجد لنفس العالم كلام في موضع يقيد كلامه في موضع آخر، فينبغي على المبتدئ أن يستوثق من فهمه، وذلك بسؤال من هو أعلم منه.
ويترتب على وجوب طلب العلم في مقام الجهاد الذي هو موضوع هذه الوثيقة أمور منها:
– أنه لا يجوز لغير المؤهلين شرعيا من أفراد الجماعات الجهادية تنزيل ما في بطون كتب السلف من أحكام مطلقة على واقعنا الحاضر، فالنصوص الشرعية (الكتاب والسنة) وإن كانت ثابتة لا تتغير، إلا أن فيها خيارات تناسب كل واقع وحال، وهذا لا يدركه إلا خبير بالشرع.
وقد كتب علماء السلف كتبهم لزمان غير زماننا، كان للمسلمين فيه دار إسلام وخلافة وخليفة وتميز بين الصفوف وبين الناس بعضهم بعضا، المسلمون في دار الإسلام والكفار في دار الحرب، وفي دار الإسلام يتميز الذمي عن المسلم في المظهر، كل هذا لا وجود له الآن واختلط الناس، وهذا من الواقع المتغير المختلف الذي يوجب الاحتياط عند الاطلاع على كتب السلف وعند الحكم على الناس.
– ولما كانت الفتوى (هي معرفة الواجب في الواقع) فلا يجوز العمل بما في كتب العلم إلا بفتوى من مؤهل لذلك، بصير بالشرع وبحقيقة الواقع، وإلا فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم «اتخذ الناس رؤسا جهالاً فسئلوا فأفتوا بغير علم فضلوا وأضلوا» الحديث متفق عليه، والفقيه من يفتي بالواجب المناسب للواقع، ذكره ابن القيم رحمه الله في (إعلام الموقعين).
– ومثل كتب العلم ما ينشر في شبكة المعلومات الدولية (الإنترنت) لا يجوز قبول كل ما ينشر فيها من دون تدبر ومن دون دراية بالأهلية الشرعية للناشر فيها وبعدالته، وخصوصا ما ينشر فيها من تحريض للمسلمين على الصدام مع غيرهم.
– ولا يجوز لغير المؤهل أن يقود مثله في عدم الأهلية لخوض صدامات باسم الجهاد، فإن الاحتياط في أمور الدماء والأموال في غاية الوجوب، وقد قال تعالى «يأيها الذين آمنوا إذا ضربتم في سبيل الله فتبينوا» (النساء:94).
وقد تورع النبي صلى الله عليه وسلم عن أكل تمرة خشية أن تكون من الصدقة وهي لا تحل له (الحديث متفق عليه عن أنس رضي الله عنه)، فكيف لا يتورع المسلم في الدماء والأموال والأعراض ونبيه يتورع في تمرة واحدة؟.
وإذا دخلت الشبهة فالكف واجب للحديث الصحيح «فمن اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه، ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام» متفق عليه عن النعمان بن بشير رضي الله عنه.
ولقد رأيت بعض من لا يحسن الإجابة عن سؤال في فقه الصلاة أو الطهارة في حين أنه يفتى ويأمر بإهدار الدماء والأموال بالجملة. فهل يسوغ هذا في دين الإسلام؟
– لا تقبل قولاً أو فتوى من أحد خاصة في هذه المسائل الحرجة كالدماء والأموال إلا بحجة، والحجة هي الدليل الشرعي من كتاب الله تعالى أو سنة النبي صلى الله عليه وسلم ثم الإجماع المعتبر والقياس الصحيح.
أما أقوال العلماء وفتاواهم فليست حجة في دين الله وليست من أدلة الأحكام الشرعية المذكورة في كتب أصول الفقه. ومن هنا قالوا «إن كلام العلماء يُحتج له ولا يُحتج به»، ومعنى (يُحتج له) أي أنه مفتقر إلى الأدلة التي تثبت صحته. وإنما يستفاد من كلام العلماء إبراز حكم الله تعالى بالإرشاد إلى دليل المسألة وفهم معاني نصوص الشريعة وتوضيح غوامضها وجمع ما تفرق منها.
– وليس أحد معصومًا في هذه الأمة بعد النبي، كما قال الإمام مالك بن أنس رحمه الله «كل أحد يؤخذ من قوله ويترك إلا صاحب هذا القبر» وأشار إلى قبر النبي صلى الله عليه وسلم.
إلا أن ابن القيم رحمه الله قد ذكر في (إعلام الموقعين ج4) أن أبا بكر لا تعرف له مخالفة للسنة، أما مخالفات عمر بن الخطاب فقليلة، وأما مخالفات علي ابن أبي طالب فأكثر رضي الله عنه أ.هـ، وإذا كان هذا في أقوال الخلفاء الراشدين فكيف في أقوال بقية الصحابة رضي الله عنهم وهم سادة المسلمين؟ وكيف فيمن جاء بعدهم من العلماء؟.
وقد عقد كل من أبي عمر بن عبد البر في (جامع بيان العلم) وابن حزم في (الإحكام في أصول الأحكام) بابًا في أقوال الصحابة المخالفة للسنة وما رد به بعضهم على بعض، ولولا ضيق المقام هنا لذكرت أمثلة منها.
أما من جاء بعد الصحابة ومنهم فقهاء المذاهب الأربعة، فكما قال ابن تيمية رحمه الله «وأما أقوال بعض الأئمة كالفقهاء الأربعة وغيرهم فليس حجة لازمة ولا إجماع باتفاق المسلمين، بل قد ثبت عنهم – رضي الله عنهم – أنهم نهوا الناس عن تقليدهم، وأمروا إذا رأوا قولاً في الكتاب والسنة أقوى من قولهم أن يأخذوا بما دل عليه الكتاب والسنة ويدعوا أقوالهم».
وقال ابن تيمية أيضًا «أما التقليد الباطل المذموم فهو قبول قول الغير بلا حجة»، قال تعالى «وإذا قيل لهم اتبعوا ما أنزل الله قالوا بل نتبع ما ألفينا عليه آباءنا أو لو كان آباؤهم لا يعقلون شيئاً ولا يهتدون» (البقرة:170) أ.هـ.
– التحذير من فقه التبرير، وقد كثر في هذا الزمان أن يستحسن إنسان أمرًا ما أو يرتكب حماقة ثم يبحث لها بعد ذلك عن دليل من كتاب أو سنة يبرر به حماقته ويدفع به اللوم عن نفسه، وهذا موجود في الأفراد والجماعات، ولن يعدم أحدهم أن يجـد شـبهة مـن دليـل، ولكنه فهمه وحمله على غير مراد الشارع كما قال تعالى «وننزل من القرآن ما هو شفاء ورحمة للمؤمنين ولا يزيد الظالمين إلا خسارا» (الإسراء:82)، وقد كان هذا هو مسلك أهل البدع منذ القدم الذين وصفهم السلف بأنهم (أهل البدعة يعتقدون ثم يستدلون، وأهل السنة يستدلون ثم يعتقدون). وقد ذكر ابن القيم رحمه الله في أبواب الحيل من كتابه (إغاثة اللهفان من مصايد الشيطان) أمثلة لما استدل به الناس من القرآن على البدع بل على الفجور والمعاصي.
وإنما يظهر زيغ الزائغين بجمع أدلة المسألة الواحدة وبهذا يدرك معنى كل دليل وتنزيله في موضعه الصحيح من الاستدلال. فليحذر كل مسلم من هذا المسلك التبريري المعوج.
الرد على رفض البعض لما في هذه الوثيقة، بدعوى أنه (لا ولاية لأسير):
بداية أقول: إن عبارة (لا ولاية لأسير) ليست على إطلاقها، فقد ذكر أصحاب كتابَي (الأحكام السلطانية) الماوردي وأبو يعلي رحمهما الله أن إمام المسلمين إذا وقع في أسر العدو باق على إمامته لا ينخلع منها ما دام غير ميؤوس من خلاصه.
ولكن من رفعوا هذه العبارة لهم شبهة في أن إقرار المكره والمضطهد غير صحيح ولا يترتب عليه أثر، ذكر هذا ابن القيم رحمه الله في (إعلام الموقعين ج4)، والمكره: هو من يفعل ما يطلبه منه غيره ليدفع الضرر عن نفسه، أما المضطهد: فهو من يقر بما طلبه منه غيره ممن يمنعه حقه ليصل إلى حقه، والإكراه ورد في الكتاب والسنة، والاضطهاد ورد عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه، والأسير أمره متردد بين الإكراه والاضطهاد.
والرد على هذه الشبهة من وجوه ثلاثة:
أولاً- أنني لم أدَّع الولاية على أحد، ولا ألزم أحدًا بقولي باسم السمع والطاعة للقيادة، فهذا شيء لا وجود له، وإنما أنا مجرد ناصح وناقل علم وأطالب المسلمين بطاعة الدليل الشرعي لا بطاعتي؛ لأنه وإن لم يكن بيني وبين من أخاطبهم في هذه الوثيقة إلزام بالولاية والقيادة، فإن بين المسلمين جميعهم إلزاما أعظم من ذلك وهو النزول على ما دل عليه الدليل الشـرعي الذي هو قول الله وقول رسوله صلى الله عليه وسلم وهذا بمقتضى إيمان المسلم كما قال الحق تعالى «إنما كان قول المؤمنين إذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم أن يقولوا سمعنا وأطعنا وأولئك هم المفلحون» (النور: 51)، وقال تعالى «وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمراً أن يكون لهم الخيرة من أمرهم ومن يعص الله ورسوله فقد ضل ضلالاً مبيناً» (الأحزاب:36).
وأنا لا أذكر قولاً في شيء من كتاباتي إلا بدليله من كلام الله وكلام رسوله، وما يجب بالشرع مقدم على ما يجب بالعقد لأن طاعة الله ورسوله مقدمة على طاعة القيادات لقوله تعالى: »فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر» (النساء:59).
ثانيًا- إن القول بأن إقرار المكره أو المضطهد – ومنه الأسير – لا أثر له، إنما هذا في الأمور التي لا تثبت إلا بإقراره، كأن يقر بارتكاب جريمة أو يقر بمال عليه أو يطلق زوجته، أما الأمور التي تثبت بغير إقراره بل بالبيانات والشهود العدول فإن آثارها معتبرة ومعتد بها شرعًا. ومن هذا الباب ما أذكره في هذه الوثيقة فإنه ثابت بالدليل الشرعي لا بمجرد قولي. ولهذا فإن العبرة بدليل الكتابة لا بمكانها من سجن أو حرية.
ثالثًا: إنه ليس صحيحا أن كل ما يخرج من السجن فهو باطل، بل يجب النظر في دليل الكلام قبل النظر في مكانه، وقد وعظ نبي الله يوسف – عليه السلام – وهو في السجن، فهل كان سجنه حجة لرفض ما قاله من الحق؟ لا يقول بهذا مسلم ولا عاقل. قال تعالى – عن يوسف – عليه السلام «يا صاحبي السجن أرباب متفرقون خير أم الله الواحد القهار، ما تعبدون من دونه إلا أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم ما أنزل الله بها من سلطان إن الحكم إلا لله أمر ألا تعبدوا إلا إياه ذلك الدين القيم ولكن أكثر الناس لا يعلمون» (يوسف:40،39).
كما أن شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله قد كتب كثيرًا من مؤلفاته وهو مسجون في قلعة دمشق، وشمس الأئمة السرخسي كتب كتابه (المبسوط) في فقه الأحناف وهو مسجون في (أوز جند)، فهل كان السجن مدعاة لرفض ما كتبوه رحمهم الله؟ لا يقول مسلم بذلك، والأمثلة كثيرة، وأكرر فأقول «إن العبرة بدليل الكتابة لا بمكانها». وأي شيء في كتاباتي يخالف الدليل الشرعي الصحيح السالم من المعارض فأنا راجع عنه وأقول بما دل عليه الدليل.
**
الحلقة الثالثة
شرط القدرة وفتاوى الاستحلال
وأما القدرة (أي الاستطاعة) فهي مناط التكليف بواجبات الشريعة بعد العقل والعلم، فالعاقل العالم بالحكم الشرعي لا يجب عليه إلا إذا كان مستطيعا قادرا عليه كقوله تعالى “…ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا…” (آل عمران:97).
فليس كل عالم بفريضة الحج يجب عليه أداؤه إلا المستطيع. وكذلك بقية واجبات الدين ومنها الجهاد، ومن الأدلة العامة في ذلك قوله تعالى “لا يكلف الله نفساً إلا وسعها” (البقرة:286)، وقول النبي صلى الله عليه وسلم في الصحيح: “ما نهيتكم عنه فاجتنبوه، وما أمرتكم به فأتوا منه ما استطعتم” (متفق عليه)، فإن لم يستطع المسلم سقط عنه الواجب، ومنه قاعدة “لا واجب مع العجز” ذكرها ابن القيم في (أعلام الموقعين ج2).
وأوضح ابن تيمية رحمه الله هذا المعنى بقوله: “وإذا تبين هذا فمن ترك بعض الإيمان الواجب لعجزه عنه أو لعدم تمكنه من العلم مثل ألا تبلغه الرسالة، أو لعدم تمكنه من العمل، لم يكن مأمورا بما يعجز عنه، ولم يكن ذلك من الإيمان والدين الواجب في حقه، وإن كان من الدين والإيمان الواجب في الأصل بمنزلة صلاة المريض والخائف والمستحاضة وسائر أهل الأعذار الذين يعجزون عن إتمام الصلاة، فإن صـلاتهم صحيحة بحسب ما قدروا عليه وبه أمروا إذ ذاك” من (مجموع الفتاوى ج12).
وفي الحديث الصحيح قال النبي صلى الله عليه وسلم: “يا أيها الناس خذوا من الأعمال ما تطيقون” (متفق عليه) عن عائشة رضي الله عنها، فهناك فرق بين الوجوب الشرعي المطلق والوجوب على المعين، فالوجوب المطلق هو كون الشيء واجبًا بالشرع أوجبه الله في نصوص الشريعة (الكتاب والسنة)، أما الوجوب على المعين فهو وجوب هذا الشيء على فلان أو فلان من الناس وهذا يشترط له العلم به والقدرة على القيام به (الاستطاعة)، وهذا يختلف من شخص لآخر، وهذا الفرق يسري على كل واجبات الدين.
القدرة في الجهاد لا تنحصر في ذات المسلم
وفي مقام الجهاد وهو موضوع هذه الوثيقة، فهو كغيره من أمور الدين القدرة عليه من شروط وجوبه، إلا أن القدرة في الجهاد لا تنحصر في ذات المسلم كالقدرة البدنية والمالية وإنما تتعداه إلى واقع الظروف المحيطة به من الموافقين والمخالفين، ولهذا فقد أثنى الله سبحانه على المجاهدين في سبيله، كما أثنى على أصحاب الكهف لما اعتزلوا قومهم، وكذلك أثنى على مؤمن آل فرعون الذي كتم إيمانه، وبالرغم من أن هؤلاء الثلاثة قد واجهوا نفس الواقع (وهو حشد من المخالفين في الدين) فإن ردود أفعالهم التي واجهوا بها هذا الواقع قد اختلفت: فهذا جاهد وهذا اعتزل وهذا تخفى بدينه، ومع ذلك فالكل محمود، لأن كلاً منهم قد عمل بما وجب عليه شرعًا في وقته ومكانه وفي حدود استطاعته، وهكذا يجب على كل مسلم أن يتفقه في دينه كي يختار الواجب الشرعي المناسب لواقعه وقدرته.
وقد اشتملت الرسالة الخاتمة رسالة الإسلام على كل الخيارات الشرعية الواجبة على المسلمين نحو المخالفين في الدين، وقام بمعظمها النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضوان الله عليهم في عصر النبوة، وعصر الخلافة الراشدة: من التخفي وكتمان الإيمان، إلى الاعتزال والهجرة إلى الحبشة ثم إلى المدينة، إلى العفو والصفح والإعراض عن المشركين، إلى احتمال أذى المشركين بالقول والفعل والصبر على ذلك، إلى جهاد الكفار من المشركين والمرتدين وأهل الكتاب بالنفس والمال واللسان، إلى عقد الصلح والمعاهدات، وهذا كله ثابت بالكتاب والسنة، وقد تدرج الله سبحانه بهم في التشريع بحسب التدرج في قدرتهم من غاية الاستضعاف إلى غاية التمكن، كما أشار إلى ذلك ابن القيم رحمه الله في “زاد المعاد”.
ولا نسخ في شيء من هذه الخيارات بل الكل مشروع بحسب الاستطاعة، كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في كتابه “الصارم المسلول” ما حاصله “فمن كان متمكنًا في أرض أو وقت عمل بآيات قتال المشركين وأئمة الكفر، ومن كان مستضعفًا عمل بآيات العفو والصفح والإعراض عن المشركين” ولابن القيم رحمه الله كلام مثله في كتابه “أحكام أهل الذمة”.
فالذي يجب على المتمكن لا يجب على المستضعف، وقد ذكر الله التمكين في قوله تعالى ” … وليمكنن لهم دينهم…” (النور:55)، وفي قوله تعالى “الذين إن مكناهم في الأرض…” (الحج:41)، والتمكين هو أن تكون للمسلمين دار لهم الكلمة العليا فيها ويتمكنون من حمايتها والاحتفاظ بها كما كانوا في المدينة بعد الهجرة، وكل من لم تكن له منعة تحميه فهو مستضعف لا يجب عليه تغيير المنكر باليد (إلا لدفع الصائل جوازًا لا وجوبًا، كما رجحه أحمد بن حنبل رحمه الله لأحاديث كف اليد في الفتن كحديث “فكن كخير ابني آدم” ونحوه) لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يفعله بمكة لا قبل الهجرة ولا بعدها (في عمرة القضاء عام 7هـ، طاف والأصنام حول الكعبة) حتى فتح مكة عام 8هـ، فأزال الأصنام من حول الكعبة بعد التمكين.
ومن هنا كانت درجات تغيير المنكر معلقة على الاستطاعة في قوله صلى الله عليه وسلم في الصحيح “من رأى منكم منكرًا فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه” الحديث رواه مسلم عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه.
الخيارات أمام المستضعفين
وكذلك المستضعف والعاجز لا يجب عليهما الجهاد، ولم يفرضه الله على المسلمين وهم مستضعفون بمكة قبل الهجرة، وإنما فرضه بعد ما تهيأت لهم أسباب الجهاد بوجود دار الهجرة والنصرة في المدينة، وهذا الحكم غير منسوخ وإنما هو من الخيارات أمام المستضعفين، ودليل بقاء هذا الحكم (وهو سقوط وجوب الجهاد عن المستضعف والعاجز) أنه وبعد تشريع الجهاد بعد الهجرة لم يأمر به النبي صلى الله عليه وسلم من بقي بمكة من المستضعفين عاجزًا عن الهجرة ولم يوجبه الله عليهم بل عذرهم، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يدعو الله لهم في قنوته.
وهذا الحكم باق إلى آخر الزمان؛ لأن الله سبحانه سوف ينهى المسيح عليه السلام بعد نزوله من السماء عن قتال يأجوج ومأجوج بسبب العجز عن القدرة، بالرغم من أن المسيح سيكون معه في ذلك الوقت خيرة المؤمنين في الدنيا وقد انتصروا على الدجال من قبل، ورد هذا في صحيح مسلم عن النواس بن سمعان رضي الله عنه مرفوعًا، وفيه قال النبي صلى الله عليه وسلم “فبينما هو كذلك إذ أوحى الله تعالى إلى عيسى عليه السلام أني قد أخرجت عبادًا لي لا يدان لأحد بقتالهم، فحرز عبادي إلى الطور، ويبعث الله يأجوج ومأجوج وهم من كل حدب ينسلون، فيمر أوائلهم على بحيرة طبرية فيشربون ما فيها، ويمر آخرهم فيقولون: لقد كان بهذه مرة ماء، ويحصر نبي الله عيسى عليه السلام وأصحابه حتى يكون رأس الثور لأحدهم خيرًا من مئة دينار لأحدكم اليوم، فيرغب نبي الله عيسى عليه السلام وأصحابه إلى الله تعالى، فيرسل الله تعالى عليهم النغف في رقابهم، فيصبحون فرسى كموت نفس واحدة” الحديث، و”لا يدان” لا طاقة، و”النغف” دود، و”فرسى” قتلى.
وبالنظر إلى الواقع فإن أحوال الجماعات الإسلامية الساعية إلى تطبيق الشريعة والنهي عن المنكر في معظم بلدان المسلمين أحوالها تتراوح بين العجز والاستضعاف، والسوابق والتجارب المريرة التي خاضتها هذه الجماعات خير شاهد على ذلك، ومن الغرور أن يرى الإنسان في نفسه ما ليس فيها فيكون “كلابس ثوبي زور” ومن الغرور أن يلتزم المسلم بدينه اليوم ويصير في بضع سنين مفتيًا لإخوانه وخبيرًا عسكريًا يقودهم من مهلكة إلى مهلكة.
وبناء على ما سبق في هذا البند نرى عدم جواز تغيير المنكرات باليد إلا لذي سلطان في سلطانه كالأب في أهل بيته أو لإنقاذ مسلم من مهلكة لا تتدارك، كما نرى عدم جواز الصدام مع السلطات الحاكمة في بلدان المسلمين من أجل تطبيق الشريعة باسم الجهاد، فالتغيير باليد والصدام كلاهما ليسا من الخيارات الشرعية الميسورة فلا تجب، وإنما تجب الدعوة بالحسنى، فإن عجز عنها المسلم ففي الصبر خيار وأجر، وفي حديث النهي عن قتال يأجوج ومأجوج دليل على أن سقوط واجب الجهاد عند العجز حكم باق إلى آخر الزمان حتى لا يتأثم مسلم من ترك الجهاد عند العجز، أو يقول إن هذا حكم منسوخ كان خاصًا بالعهد المكي، بل هو خيار باق إلى آخر الزمان كما ثبت الدليل بذلك، وليس أحد الآن خيرًا من عيسى بن مريم عليه السلام ومن معه وقد اختار الله لهم كف اليد عن الجهاد عند العجز وعدم الجدوى.
ولا يجوز النظر في دليل واحد وترك ما يقيده في موضوعه بل يجب الجمع بين الأدلة ووضع كل منها في موضعه الصحيح، وبهذا تأتلف نصوص الشريعة، وقد ذكر ابن تيمية رحمه الله في كتابه “منهاج السنة النبوية” قاعدة جامعة قال فيها “لا بد أن يكون مع الإنسان أصول كلية يرد إليها الجزئيات ليتكلم بعلم وعدل، ثم يعرف الجزئيات كيف وقعت، وإلا فيبقى في كذب وجهل في الجزئيات، وجهل وظلم في الكليات فيتولد فساد عظيم”أ.هـ.
فاقد النفقة لا يجب عليه الجهاد
وجود النفقة اللازمة للجهاد (إذا وجب) شرط من شروط وجوبه، وداخلة في القدرة والاستطاعة المذكورة في البند السابق… فمن فقد النفقة فهو غير مستطيع وبالتالي يسقط عنه وجوب الجهاد لعدم استكمال القدرة على القيام به.
ودليل ذلك أن الجهاد كان فرض عين في غزوة تبوك لأن النبي صلى الله عليه وسلم استنفر الصحابة رضي الله عنهم للخـروج في هـذه الغـزوة ولـم يرخـص لأحد في التخلف عنها، وفي هذا نزل قوله تعالى “انفروا خفافا وثقالا وجاهدوا بأموالكم وأنفسكم في سبيل الله…” (التوبة:41)، فاستنفر الله بذلك الجميع، ومع ذلك فقد عذر الله سبحانه أصنافًا في التخلف ومنهم فاقد النفقة وأسقط عنهم الحرج والإثم بما يعني سقوط واجب الجهاد عنهم رغم أنه كان فرض عين حينئذ، فقال تعالى “ليس على الضعفاء ولا على المرضى ولا على الذين لا يجدون ما ينفقون حرج إذا نصحوا لله ورسوله ما على المحسنين من سبيل والله غفور رحيم، ولا على الذين إذا ما أتوك لتحملهم قلت لا أجد ما أحملكم عليه تولوا وأعينهم تفيض من الدمع حزناً ألا يجدوا ما ينفقون” (التوبة:91،92).
ولم يعذرهم الله فحسب بل وكتب لهم ثواب المشاركة في هذه الغزوة بمجرد صدق نيتهم على الجهاد رغم عجزهم عنه، فقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم قوله لأصحابه في غزوة تبوك “إن بالمدينة لرجالاً ما سرتم مسيرًا ولا قطعتم واديًا إلا شركوكم في الأجر، حبسهم العذر” بالصحيحين عن جابر وأنس رضي الله عنهما. وهذا من كرم الله سبحانه كما قال النبي صلى الله عليه وسلم “مَن هَمَّ بحسنة فلم يفعلها كتبها الله له حسنة واحدة” (متفق عليه).
والنفقة اللازمة للجهاد ليست مجرد ما يحتاجه المجاهد لنفسه وجهاده بل ويدخل فيها نفقة أسرته ومن يعولهم طول غيابه، وفي الحديث “كفى بالمرء إثمًا أن يضيع من يقوت” حديث صحيح رواه أبو داود عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما… فمن فقد هذا أو ذاك أو كليهما لم يجب عليه الجهاد وإن كان فرض عين، كأصحاب الأعذار في غزوة تبوك وكان النبي صلى الله عليه وسلم وهو إمام المتوكلين يعزل لأهله نفقة السنة من فيء بني النضير (متفق عليه).
ومما يؤسف له أن نرى بعض هؤلاء (أي من لا يجب عليه الجهاد لفقدانه النفقة) يوجب على نفسه ما أسقط الله وجوبه عنه، ثم يسلك للقيام بذلك مسالك محرمة لتحصيل الأموال بحجة التجهز للجهاد… فيخطف الرهائن الأبرياء لطلب الفدية، أو يسطو على أموال المعصومين وقد يقتل في السطو من لا يجوز قتله، والاعتداء على أموال المعصومين ودمائهم من كبائر الذنوب، فيكون من قام بذلك قد ارتكب ما لا يحل له (من العدوان على أموال المعصومين ودمائهم) ليؤدي ما لا يجب عليه شرعًا (من الجهاد الذي لا يجب عليه لفقدان النفقة أو لغير ذلك من الأعذار) فأي فقه هذا؟ بل أي عقل هذا؟ وهل هذا إلا من عواقب رئاسة الجهال واستفتائهم في أمور الجهاد؟ وأصبحنا في هذا الزمان نسمع عن القيام بعمليات من أجل تمويل الجهاد، وعمليات من أجل الدعاية وجمع التبرعات للجهاد، والجهاد يسقط وجوبه عند عدم المال كما تقرر.
وقد سبق في البند الأول أن الإسلام هو أن نعبد الله كما يريد لا كما نريد، وأنه ليس في الإسلام أن الغاية تبرر الوسيلة، فليحذر كل مسلم من هذه المهالك، ونحن لا نرضى بهذه المسالك وننهى جميع المسلمين عنها فلا تجوز أعمال السطو والخطف الحرام ونحوها من المحرمات بحجة تمويل الجهاد.
وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم “كل المسلم على المسلم حرام دمه وماله وعرضه” (رواه مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه). ولا اعتبار لحسن النية في ذلك، فقد قال ابن قدامة رحمه الله في “مختصر منهاج القاصدين”: “اتفقوا على عدم اعتبار النية والقصد في المعاصي”، وقال أيضًا “المعاصي لا تتغير عن موضعها بالنية مثل من بنى مسجدًا بمال حرام يقصد بذلك الخير، فإن النية لا تؤثر فيه، فإن قصد الخير بالشر شر آخر، فإن الخيرات إنما تعرف كونها خيرات بالشرع، فكيف يمكن أن يكون الشر خيرًا… هيهات” أ.هـ.
وإذا كان النبي صلى الله عليه وسلم قد قال “إنما الأعمال بالنيات” متفق عليه، فإن النية إنما تؤثر في الطاعات والمباحات لا المعاصي التي لا تنقلب طاعة بالنية فلا يجوز فعل ما لا يحل لأداء ما لا يجب.
المبني على الفاسد فاسد
وبهذا تعلم أن من استولى على مال حرام ليؤدي طاعة، أن استيلاءه حرام وأن طاعته فاسـدة غـير مقبولة عند الله لقوله تعالى “…إنما يتقبل الله من المتقين” (المائدة:27)، وهذا لم يتق الله لا أولاً ولا ثانيًا، ولقول النبي صلى الله عليه وسلم “إن الله طيب لا يقبل إلا طيبًا” رواه مسلم، ومن هنا كانت القاعدة الفقهية “المبني على الفاسد فاسد” ذكرها ابن نجيم الحنفي في “الأشباه والنظائر”.
ولا يحل لمسلم أن يرتكب ما حرم الله عليه ليؤدي ما لم يوجبه الله عليه، وله ثواب الجهاد إذا صدق النية وعجز عن العمل للحديث السابق “إلا شركوكم في الأجر، حبسهم العذر”. والله سبحانه “يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور” (غافر:19)، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم “إن لكل أمة فتنة، وفتنة أمتي المال” رواه الترمذي وقال حديث حسن صحيح، وقال أنس بن مالك رضي الله عنه “إنكم لتعملون أعمالاً هي أدق في أعينكم من الشعر، كنا نعدها على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم من الموبقات” (رواه البخاري)، والموبقات أي المهلكات.