في كتابه التنظيري، إن لم أقل الفلسفي، عن الشعر يكتب رينيه شار هذه العبارة: الممارسة عمياء، ووحده الشعر يرى. بمعنى ان الممارسة تخبط خبط عشواء، أما الشعر فنور يشق دياجير الظلام. ولكنه يستدرك لاحقاً قائلاً: إن الممارسة الناجحة هي وحدها تلك التي تستضيء بنور الشعر.. فالشعر دائما يسبق الممارسة. انه يتقدمها ويمّهد لها الطريق.
وإذن هناك علاقة بين الانخراط العملي او حتى السياسي والشعر. الشعر ليس مجانياً الى الحد الذي تتوهمه مدرسة الفن للفن. الشعر شيء خطير ومهم جداً. الشعر شلال من النور في عالم من الظلمات.
وأكبر دليل على ذلك تلك الضجة الكبيرة التي أحدثتها عودة محمود درويش إلى مهده الأول في أعماق فلسطين. الى حيفا وضواحيها. فلو فعلها رئيس دولة لما اتخذ الحدث كل هذه الأهمية ولما نال كل هذه التعليقات حتى قبل ان يحصل الحدث ذاته وقبل أن تطأ قدمه أرض حيفا التي غادرها في الثلاثين من عمره لكي يعود اليها مظفراً بعد طول غياب. ينبغي الاعتراف بأن محمود درويش ليس شخصاً عادياً وذلك لأسباب عديدة قلما اجتمعت في شخص واحد. فهو أولاً ليس شاعراً كبيراً فقط وإنما ناثر ايضاً ومن أعلى طراز. وهو ثانياً وليد الجرح الأكبر والشاهد الأول عليه، أو قل أحد الشهود الأوائل. ومعلوم ان الجراحات الكبرى تنتج شخصيات عظيمة. وهو ثالثاً أكبر رمز أدبي على التراجيديا الفلسطينية التي شغلت القرن العشرين كله ولا تزال. ونادراً ما انصهرت قضية شعب بأسره في شخص واحد مثلما انصهرت فيه هو. من هنا أهمية أي حركة تصدر عنه او أي خطوة يخطوها. فالأمور قد تقلب في هذه الجهة أو تلك بحسب القرار الذي يتخذه.
هل يذهب الى حيفا ام لا يذهب؟ قرار تاريخي تترتب عليه نتائج وانعكاسات لا يعلم إلا الله مداها. كلنا سوف نتأثر بنتائج هذا القرار الذي اتخذه في لحظة ما شاعر فلسطين والعرب الأول. ولماذا لا يذهب، تساءلت بيني وبين نفسي؟
هل ينبغي ان يعاقب عرب فلسطين أو عرب الـ 48 الذين يزيد عددهم عن المليون نسمة؟ هل كل هؤلاء خونة او عملاء؟ من هو هذا المجرم الذي يستطيع ان يقول ذلك؟ كل الانباء تدل على انهم لو استطاعوا ان يحضروا كلهم ندوته لهبواعن بكرة أبيهم لحضورها. هناك عطش اذن للقائه، وبالتالي فلا ينبغي ان يحرمهم منه. كل الجماهير العربية من المحيط الى الخليج استمعت الى محمود درويش يوما ما ما عشرات المرات. كلها احتضنته ورحبت به وهتفت له بكل حناجرها ما عدا جمهور واحد: هو جمهوره الاصلي، شعبه الأول، بيئته، طفولته، صباه.. فإلى متى سيحرمهم منه؟ الى متى سيحرم نفسه من نفسه؟ لهذا السبب قال: سوف اعود لكي اطبع مع نفسي. وكان بامكانه ان يقول: لكي اتصالح مع نفسي، مع اصلي وأهلي وجذوري.
من يستطيع ان يلومه على ذلك؟ بل من يحق له ان يحاكم الشاعر الذي رفع قضية فلسطين الى مستوى كوني وأسمع بها زوايا العالم الاربع؟ هو الذي يحاكم الآخرين ولا أحد يستطيع ان يحاكمه.. هو الذي يحرك قضية فلسطين في هذا الاتجاه او ذاك. وهو الذي يحسم الامور عندما تحين اللحظة المناسبة.
من يستطيع ان يحاكم الشاعر الذي رأى الموت بأم عينيه مرتين بسبب قضية فلسطين والقلق والهم على فلسطين؟ اكثر من عملية جراحية وأكثر من سكتة قلبية، وإنها لمعجزة انه لا يزال هنا واقفا على قدميه أمام شعب فلسطين الاول في حيفا ويافا والكرمل والجليل! فليحمدوا الله على انه لم يمت حتى الآن بدلا من ان يلوموه لأنه ذهب للقاء شعبه.. محمود درويش ليس ملكا لعرب الخارج فقط كما توهمنا لفترة طويلة من الزمن، هذه أنانية، وانما لعرب الداخل ايضا. ولهم الحق فيه مثلنا وأكثر. وينبغي على المثقفين العرب كلهم ان يقلدوه ويحذوا حذوه ويذهبوا لمعانقة شعب فلسطين الذي عانى الأمرين منذ خمسين سنة وحتى الآن. وقد فوجئت بحجم الغليان الثقافي هناك بعد ان قمت بجولة على الانترنت واطلعت على الجرائد والمجلات وبعض المناقشات. هل يحق لنا ان نتخلى عن هؤلاء الذين لا يزال نبض العروبة يخفق في أعماقهم حتى بعد مرور ستين سنة على النكبة الكبرى؟ وإذا لزم الامر ان يحصل اللقاء ايضا مع الحركة التقدمية والإنسانية الاسرائيلية ذاتها فلم لا؟ هل تريدون ان يقلب كل شعب اسرائيل في جهة التطرف والتشنج والحقد على كل ما هو عربي او مسلم؟ ام تريدون تحييد القوى اليسارية والوسطية عن طريق الترحيب بها وطمأنتها وفصلها عن اليمين الاسرائيلي المتطرف؟ ماذا يريد العرب بالضبط؟ وهل يعرفون مصلحتهم يا ترى؟ ثم قبل كل ذلك وبعده: هل يعرف المثقفون العرب في أي اتجاه تسير حركة التاريخ؟ الشاعر الكبير يعرف، وهو الذي يسبق الممارسة ويدل على الطريق كما يقول رينيه شار، شاعر فرنسا الأكبر في القرن العشرين.
محمود درويش، شاعر العرب الأكبر حاليا بعد أن تقاعد الآخرون أو هجرهم الشعر منذ زمن طويل، هو الذي يدشن الآن حركة التاريخ بذهابه الى حيفا ومعانقته لجمهورها الكريم.
لا يوجد شاعر كبير بدون نزعة انسانية عميقة. وهذا الكلام ينطبق على فيكتور هيغو وبابلو نيرودا وغارسيا لوركا وكل شعراء الحرية بقدر ما ينطبق على محمود درويش وأي شاعر كبير آخر جسد أحلام أمته ومطامحها وآلامها في لحظة ما من لحظات التاريخ. ولا يكون الشاعر كبيرا الا اذا كان قادرا على الاقتحام في اللحظة المناسبة وهداية شعبه الى طريق الخلاص. كنا بحاجة الى من يفتح لنا ثغرة في جدار التاريخ المسدود فجاء هذا الشاعر وتحمل مسؤوليته وفتحها نيابة عنا جميعا. وبدلا من ان نشكره اذا ببعضنا يتجرأ على المزاودة عليه أو حتى مهاجمته!
ولكن ألم نقل لكم بان الشاعر يرى ما لا يُرى، أو يسبق الآخرين الى الرؤية؟ ألم نقل لكم بان الحدس الشعري الخلاق هو الذي يخترق ظلمات الواقع ويفتح الطريق؟ ما ذنب الشاعر اذا كان حساسا أكثر من اللزوم وحريصا على اختصار آلام شعبه التي تجاوزت حد الوصف؟ ما ذنب الشاعر اذا كان يريد لشعبه ان يحيا في حين أن الآخرين يريدون له أن يموت ويغامرون به وبدمه الى ما لا نهاية؟ ما ذنب الشاعر اذا كان يحب البشرية كلها من خلال شعبه؟ ما ذنبه اذا كان يجسد قيم الحرية، والمحبة، والتقدم، والنزعة الانسانية في شخصه؟ لا ينبغي ان نلوم الشاعر اذا كان يستطيع ان يرى جزءا من الانسانية حتى في العدو، اذا كان يدعو الى أنسنة العدو ولو للحظة. فهو يعرف طعم الجراح وقد ذاق كأس العذاب حتى الثمالة. وهو أكبر وأعظم من العدو لأنه يتعالى على جراحاته.. لقد مللنا من ضيقي العقول، من صغار النفوس، من أولئك الذين لا ينظرون الى أبعد من أنفهم.لقد أصبحوا جدارا، انسدادا تاريخيا يغلق الأفق والطريق..
ولا يمكن أن يكون الشاعر كبيرا الا اذا استطاع ان يرتفع من الخاص الى العام، ومن الجزئي الى الكوني. الشاعر في ختام مسار طويل عريض، ومن خلال جراحات نازفة ومناف لا تحصى ولا تعد، يرتفع ولأول مرة الى مرحلة العالمية أو الكونية.
ويخيل اليّ ان محمود درويش قد ارتقى الى هذه المرتبة مؤخرا. وأصبح لدينا شاعر كوني نستطيع ان نفتخر به أو نباهي به الأمم. من يستطيع ان ينسى هذه الابيات التي ترددها الذاكرة العربية من المحيط الى الخليج؟
جذوري
قبل ميلاد الزمان رست
وقبل تفتح الحقب
وقبل السرو والزيتون
وقبل ترعرع العشب
أبي من أسرة المحراث لا من سادة نجب
وجدي كان فلاحا بلا حسب ولا نسب
يعلمني شموخ الشمس قبل قراءة الكتب
في هذه الابيات العصماء التي تعود الى المرحلة الاولى، أي الى البراءات الاولى، تكمن كل عبقرية محمود درويش الشعرية. صحيح انه تجاوز هذه المرحلة لاحقا وكتب شعرا آخر قد يبدو اكثر حداثة او أكثر كونية وميتافيزيقية. ولكن تظل للانفجارات الاولى جاذبيتها او سحرها الذي لا يقاوم. وكثيرا ما أعود شخصيا الى الدواوين الاولى لكي أسترجع بالكثير من الحنين واللوعة تلك الفترة الذهبية التي مضت وانقضت من حياتنا. لقد انتهت سياسيا ولكنها لم تنته شعريا على الاطلاق. وهذا أكبر دليل على ان السياسة تذهب والشعر يبقى. الشعر هو وحده الذي يبقى ولا تستطيع أي قوة في العالم ان تزيله. وعلى الرغم من البساطة الظاهرية لهذه الابيات الا انها تحتضن في حناياها بعضا من أجمل عناصر ومناخات الطبيعة المحلية. يعرف ذلك كل من عاش بيئة مشابهة لبيئة محمود درويش.من هنا جمالها الأخاذ. يضاف الى ذلك ان ايقاعها المتلاحق كالسيل المتدفق يختزن في أحشائه كل الزخم التاريخي للشعر العربي. وهذا الكلام لا ينطبق عليها فقط وانما على الكثير من قصائد تلك الفترة ودواوينها:عصافير بلا أجنحة، أوراق الزيتون، عاشق من فلسطين…كم تبدو لنا هذه المرحلة بعيدة الان؟ نكاد نتخيل وكأنها مرحلة ما قبل التاريخ.. ولكن كم هي بريئة؟ كم هي آتية من نبع صاف لا ينضب؟ كم تهزنا هزا وفي عمق أعماقنا؟ وعلى الرغم من بعدها او اغراقها في محليتها الا انها ترتفع الى مستوى الكونية من خلال هذه الخصوصية بالذات.فلولا ان الشاعر كان متجذرا في أعماق خصوصيته الفلسطينية والعربية لما اصبح كونيا.هذا الكلام اصبح تحصيل حاصل الان وأنا لا أضيف شيئا اذ أقوله بل وأكاد أخجل من تكراره..أما عن المضمون فسوف أكتفي بطرح السؤال التالي: لماذا أصبح ابن فلاح قروي أكبر رمز على القضية الفلسطينية؟ لماذا أصبح أشهر شخصية فلسطينية في العصر الحديث؟ لماذا تفوق على كل أبناء العائلات الكبرى وهي وجيهة ومشهورة في فلسطين ؟ هذا السؤال يطرح بشكل مباشر او غير مباشر مسألة ظهور الشخصيات الاستثنائية في التاريخ. ولا أزعم باني قادر على الاجابة عليه. فلا توجد قوانين موضوعية تتحكم بظهور الشخصية الاستثنائية. بل ان ظهورها بحد ذاته يعتبر انتهاكا لكل القوانين الموضوعية. لماذا تظهر هنا ولا تظهر هناك؟ أو لماذا تظهر حيث لا يتوقعها أحد؟
لنتذكر ايضا هذه الأبيات التي رافقت عمرنا الاول ولا تزال:
نحن في حل من التذكار
فالكرمل فينا وعلى أهدابنا عشب الجليل
لا تقولي: ليتنا نركض كالنهر اليها،
لا تقولي!
نحن في لحم بلادي…وهي فينا
كيف انصهرت كارثة بأسرها في شخص واحد؟ بل كيف انصهر شعب بأسره في شخص واحد؟ أو كيف أصبح شخص واحد أمة بأسرها؟ عندما نجيب على هذا السؤال نفهم سبب المكانة الضخمة التي يحتلها محمود درويش في الآداب العربية والعالمية المعاصرة.انه يمثل نقطة تقاطع نادرة للخاص بالعام، للجوهري بالعرضي، للمحلي بالكوني. انه الشاهد على العبور التراجيدي، في هذا العالم، للشرط البشري.
نعم لقد اختلط شعر محمود درويش بشرائح من عمرنا المتقطع والمنصرم على أرصفة الاوطان والمنافي دون جدوى..لقد لونه بألوانه وخلع عليه شيئا من البهجة، كثيرا من البهجة، في زمن لا بهجة فيه. لقد خلع عليه بعضا من المعنى في زمن تفككت فيه كل المعاني ولم يبق الا السراب: أي خيبات تتلوها خيبات على مد النظر.. وهذه هي وظيفة الشعر: انه أجمل وهم وأحلى وهم.. انه واحة مخضوضرة في صحراء قاحلة.انه قطرة مطر او نسمة ريح.. انه عبور خفيف… ولولاه لأصبح الوجود جافا ناشفا لا يطاق. لم الشعراء في الزمن الضنين؟ يتساءل هولدرلين..ولكن لولا الزمن الضنين، لولا الزمن الغدار، لولا الزمن الخائب، هل كنا بحاجة الى شعراء؟ بحياتها الأزمنة السعيدة لم تنجب شعراء كبارا.اعطوني شاعرا كبيرا واحدا غير تراجيدي.ابو تمام؟ المتنبي؟ ابن زيدون؟ بدر شاكر السياب؟ أم بودلير، رامبو، نيتشه؟ ريلكه؟.. ومع ذلك “فان ما يبقى هو أقوال الشعراء” كما يقول هولدرلين ايضا. ذلك ان الوهم هنا يبدو أقوى من الحقيقة.وحده الوهم يبقى..
لن أختم هذه المقالة قبل أن أقول كلمة عن شاعر فلسطين الكبير الآخر: سميح القاسم. فقد أعدت مؤخرا قراءة الرسائل التي تبادلها مع محمود درويش على صفحات «اليوم السابع» ثم جمعت في كتاب لاحقا. وللمرة العشرين أو الثلاثين رحت أقرأ القصيدة التي تتصدر الكتاب بعنوان «التغريبة» والتي أهداها سميح القاسم الى محمود درويش وحتى الآن لم اشبع منها! انها مدهشة برشاقتها، بخفتها، اقصد بخفة ظلها، بأناقتها. انها صادرة عن فنان من الطراز الأول. فهل يسمح لي القارئ بأن أثبت هنا بعض مقاطعها؟
لبيروت وجهان
وجه لحيفا
ونحن صديقان
سجناً ومنفى
للندن وجهان
وجه لحيفا
ونحن رفيقان
حبا وخوفا
لباريس وجهان
وجه لحيفا
ونحن شقيقان قمعا وعسفا
لتونس وجهان
وجه لحيفا
ونحن غريبان
نحن غريبان
نحن غريبان
ما من زمان
وما من مكان
لماذا؟ لماذا؟
وأين؟
وكيفا؟
ووجه…لحيفا
مساء الحب
مساء الحب والافراخ
انا رحيم حمداوي من ابناء الاهواز اعمل كمترجم في الصحف الفارسية وبالتحديد في حقل الفكر العربي ولقد قمت بترجمة بحوث من الاستاذ عابد الجابري والاستاذ محمد اركون وأخر اعمالي ترجمة مقال لكم.واليكم رابط المقال:
http://jamejamonline.ir/newstext.aspx?newsnum=100864120320
هل يمكنني المكاتبة معكم وهل يمكنكم الاجابة على اسئلتي ثم هل استمر في ارسال رسائلي عبر هذا الموقع؟
لكم الحب والاحترام
رحيم حمداوي