مع رحيل المفكر الجزائري د.محمد أركون نودع معلما بارزا آخر من معالم أولئك الذين أرادوا أن يدخلوا التراث الإسلامي في قارة التاريخ عبر التعرف عليه (انثربولوجيا) من خلال ما كان يسميه الراحل أركون حضور الناس الفاعلين في إعادة بناء النص التراثي ، بعد أن كان أسير نصيته التي تتوالد ذاتيا وتتناسخ نصوصا مغلقة على نسقها فتكبر وتكبر كميا بدون أن تتفتح عن أي أفق نوعي جديد …
كان من الممكن للكويت أن تستقبل محمد أركون في ندوة حوارية فكرية وثقافية …بينما أصوليوها رفضوا قبول الراحل المصري د.نصر حامد أبو زيد الذي لم يكن أكثر اصطداما مع أفق “انتظار القاريء العربي” والمسلم -على حد اصطلاحات البرتو ايكو- من أركون وقبله الجابري …
فأبو زيد ابن مدرسة المشيخة الأصولية المصرية ذات الجذور الإخوانية لم يكن خطابه (تغريبيا أو مغرّبا منهجيا) أكثر من أركون أو الجابري، لكن يبدو أنه كان عليه أن يدفع ضريبة انشقاقه عن بيئته الفكرية الأصولية الأصلية مع الحضور الاقتحامي للإخوان المسلمين في مصر …لهذا تمكن الإسلام السياسي من اصطياده سياسيا ، رغم أن نصر أبو زيد لم يتجرأ على الحوار النقدي مع (المقدس) أكثر من أركون الذي لم يتردد أن يتحدث على الفضائيات عن نظرية أحد المفكرين الفرنسيين عن (الجهل المقدس) ليضعه بالتوازي والتناظر عربيا وإسلاميا مع يصطلح عليه بـ (الجهل الممأسس) …
لكن د.محمد عابد الجابري سيكون الأكثر دهاء في قول الحقيقة التي يبحث عنها دون اصطدام برأي الجمهور وحساسياته المشاعرية والوجدانية …حيث كان لا يتردد من ترداد القول الأصولي (الإسلام صالح لكل زمان ومكان)، لكن مشروعه الفكري أقامه على فكرة الصلاحية هذه ليس بوصفها (الصلاحية النصوصية) المغلقة، بل هي (الصلاحية التأويلية)التي يمكن أن تنفتح على كل نظريات العصر وتتداول كل الأدوات المفاهيمية والأجهزة المعرفية لمعاورة معنى ومغزى ودلالة هذه الصلاحية التأويلية …ولعل في ذلك سر الحضور الشاهق والمميز لمشروعه عن “نقد العقل العربي” في أجزائه الأربعة، عن باقي مشاريع القراءات الحداثية للتراث التي شغلت الربع الأخير من القرن الماضي العشرين …ونحن في هذه المقاربة سنقوم بنوع من رحلة المقابسات مع هذه المشاريع الريادية التي شكلت فاصلا فكريا وثقافيا في تاريخ العرب الحديث والمعاصر بادئين بأول الراحلين د. محمد عابد الجابري ..
لقد كتبنا مداخلة اثر الحوار الذي رعته مجلة (اليوم السابع ) الصادرة في باريس تحت عنوان «حوار المشرق والمغرب»، حيث مثل المشرق الدكتور حسن حنفي (مصر) ومثل المغرب الدكتور محمد عابد الجابري(المغرب)، وقد استمر الحوار على مدى عشرة أسابيع سنة1989…إذ تحدثنا حينها في هذه المداخلة : إن الدكتور الجابري منذ أطل على ساحتنا الفكرية في بداية الثمانينات، ونحن مندهشون إعجاباً بهذا الخراب الجميل الذي يشيعه في فضاء العقل العربي الساكن اللائذ بالصمت وبمسلماته عبر قرون، حتى بتنا نعتقد أن مرحلة نهضوية من طراز نوعي جديد راحت تشق طريقها إلى الفضاء الثقافي والفكري العربي، باعثة ومجددة لأرقى ما توصل له المشروع النهضوي الأول في القرن الرابع الهجري متوجا بالتوحيدي ومسكويه فيما أطلق عليه الراحل أركون بعصر “الإنسية الإسلامية”، بل حتى ما وصل المشروع النهضوي الثاني الذي ختمه طه حسين، لتبدأ بعده مرحلة الارتداد من فضاءات العقل إلى غابات الأهواء والمشاعر الغريزية وعنفوانية الشعارات وثقافة الأناشيد والهتافات ….أو بمصطلحات فقيدنا الراحل أركون: من فضاءات (اللوغوس) إلى سديم (الميثوث) أو الجهل المقدس الذي سيبدأ مع قيام الحركة الأخوانية سنة 1928،التي ستواصل البعد المحافظ في فكر رشيد رضا الذي راح يواصل التباعد التدريجي عن الشرعية الدستورية الحداثية التي كان يدشنها الإمام محمد عبده في الفكر العربي والإسلامي الحديث …سيما بعد وفاة الإمام !!
العقلانية /العلمانية /التقانة
لقد زارنا الراحل د. محمد عابد الجابري منتصف التسعينات في حلب ليحاضر في جامعتها… حينها قمت بقراءة تأويلية إسقاطية لمصفوفته النظرية التأويلية التي أسس عليها قراءته (الابستمية) في نقد العقل العربي عبر أجزائه الأربعية، فقلت له: إن ثلاثيته عن (البرهان والبيان والعرفان) تسير في سوريا –وإلى حد كبير في عدد من الدول العربية الأكثر تأثرا بضروب الحداثة – بشكل معاكس لما تتغيّاه ثلاثيته من حركية الفكر صعودا وتقدما من (العرفان إلى البيان إلى البرهان)، لأقول: إن سوريا الحديثة بدأت من فضاءات عقل البرهان في المرحلة الليبرالية العقلانية الدستورية مع قيام الدولة الوطنية الستورية منذ سنة1920 حتى أواخر الخمسينات، لتدخل مرحلة (البيان/الخطابة) مع الشعبوية الناصرية بالتزامن مع الوحدة السورية المصرية ، فالمرحلة البعثية التوتاليتارية ، حيث فكر وثقافة وايديولوجيا ممالأة وتملق سذاجات الوعي العام(العوام) عن الوحدة والحرية والاشتراكية للضبط الأمني العقلي والسلوكي، وانتهت إلى (العرفان) الذي يعادل “التشيع” وفق منظومة الجابري، وذلك من خلال الحرب بين النظامين البعثيين (البيانيين عروبيا) في سوريا والعراق، ومن ثم التحاق البعث السوري(البياني) بـ(العرفان الشيعي) في إيران، حيث النظام السوري هو الوحيد-عربيا- الذي وقف مشايعا التشيع (العرفاني) الإيراني ضد (البيان) العروبي البعثي خلال الحرب العبثية بينهما …!!!
ارتبك رحمه الله وحاول أن يرد بصيغة العموميات…لكن عندما أتيح لنا بعض الخلوة عبّر عن دهشته من جرأتي التي وصفها بالمتهورة، ومن ثم عبر عن اعتذاره من عدم تمكنه الخوض معي في هذا الموضوع الحساس، فطمأنته أن معظم الحاضرين (جماهيريا: من طلاب وأساتذة متحشدين هم جماعات ضبط أمنيين) هم نتاج فترة الرعب الثمانيني المستمر حتى اليوم، فهم لا علاقة لعقلهم الغريزي التهييجي بخطابه الحداثي المدني العقلاني التنويري ….
لقد استقبل مشروع الجابري في وسط النخبة السورية –خارج مستنقع الفاشية- بفرح عقلي استثنائي، منذ «نحن والتراث” مروراً بـ”الخطاب العربي المعاصر”»، وصولاً إلى مشروعه عن (تكوين العقل العربي وبنية العقل العربي) الذي تشكلت حلقة من المثقفين في مقهى السياحي في حلب لمناقشة مشروعه هذا على مدى شهور .
كنا ننظر بتقدير وإعجاب للمستوى المنهجي الذي كان يقترحه ويمارسه الجابري إذ هو يقارب به النصوص، بغض النظر عن الرؤية الكامنة أو المحايثة للمنهج، والمقصود بالرؤية في هذا السياق هي “رؤية العالم” بمعنى المنظور المعرفي والثقافي والايديولوجي .
لأن مجتمعنا العربي المترع حتى الثمالة بالإيديولجيا غدا بحاجة مصيرية للتقانات المنهجية كوسائل حداثية لاختراق النصوص المقفلة على قراءات أزمانها ،والتي يحق لها أن تقرأ بعيون أزماننا وأسئلته وهواجسه، بغض النظر عن مستويات الرؤية وتنوعها في إنتاج هذه التقنية، عسى أن تكون هذه التقنية مدخلا للبحث عن شجرتها المعرفية التي أثمرتها، بوصف التقانة ليست إلا تحققا تجريبيا لما أنتجه العقل نظريا فلسفيا وعقلانيا ،فلا تقانة مع الخرافة إلا في ساحات الاستهلاك (التقنية كسلعة) وليس في ساحات العقل (التقنية كثمرة لسيرورة العقل من الرياضيات إلى الفيزياء إلى السيطرة العقلية على الطبية ) ، ومن هذا المنظور كان الحماس لتقانة التجربة المنهجية للجابري.
لقد كانت إشكالية (العلمانية) هي المدخل لسوء التفاهم بين الجابري والعلمانيين، عندما استبعدها من مصفوفته النظرية، وأحل محلها (العقلانية) التي دأب الدكتور الجابري على تقصي تجلياتها ومظانها في التراث الفكري العربي الإسلامي، مما بدا للعلمانيين حينها أن هذا التوجه لاستبدال العلمانية بالعقلانية، إنما هو مسعى محافظ يهدف إلى إنتاج معادل نظري لتعزز سلطان الإيديولوجيا التقليدية الرسمية من جهة، والتلاقي التوافقي مع بروز الإسلام السياسي الحركي من جهة أخرى، وذلك لإضفاء المشروعية والمعقولية (العقلنة) على لا معقولية حالة النكوص والتردي المعاش فكريا وثقافيا في الفضاء العربي الرسمي والأهلي بل والمدني… وهو بذلك يعيد إنتاج دور الفكر العربي في العصر الوسيط، الذي قامت فلسفته – وفق الجابري نفسه ـ على ترجمة الفكر اليوناني (الفلسفة والمنطق) بما يضفي المشروعية على واقع الفكر الرسمي للسلطة الرسمية في زمنه وهي السلطة العباسية، وهنا لابد من تذكر تفسيره لحركة الترجمة في أيام المأمون وبروز التيار الاعتزالي بوصفه (ايديولوجيا ) السلطة الحاكمة…إن مثل هذه الاستخلاصات ضد الراحل لم تكن تخلو من حدة وقسوة إذ هو يبحث عن أفضل المسالك لتمرير مشروعه التنويري من وراء ظهر تسلطية (الدوغمائيات) : سلطة الرأي العام ( الجهل المقدس للعامة) وسلطة الرأي الخاص جدا(القمع العاري للسلطة) …!!!.
mr_glory@hotmail.com
* كاتب سوري- فرنسا