قبل نحو ستة اشهر، بداية صيف عام 2015 شكّلت مطالب محاربة الفساد واجراء عملية اصلاحية شاملة في الحكومة العراقية نقطةَ التقاء بين ما يسعى له رئيس الحكومة حيدر العبادي والإرهاصات الاولى للتحرك الشعبي في المحافظات العراقية.
شرارة التحرك الشعبي في العراق تفجرت بشكل واضح بعد سلسلة من فضائح الفساد مارستها الطبقة السياسية التي كانت تتولى ادارة البلاد في المرحلة السابقة. وعلى الرغم من انتماء العبادي الى احد ابرز هذه المكوّنات السياسية واكثر الاطراف اتهاما من التحرك الشعبي في التورط في هذا الفساد، اي “حزب الدعوة” بزعامة رئيس الوزراء السابق نوري المالكي، الا انها التقت مع العبادي في ضرورة وضع آلية عملية تساهم في الحد من الفساد المالي والاداري والسياسي الذي اوصل العراق الى حافة الانهيار.
المطالبة باجراء محاكمات للذين تولوا قيادة المرحلة السابقة تحوّلت الى مطلب مُلحّ شعبيا خاصة بعد سيطرة تنظيم داعش على مساحات واسعة من العراق، وتحديداً في المحافظات الغربية ذات الغالبية السنّية، والاسئلة الكثيرة التي دارت حول مسؤولية الحكومة السابقة في هذه الهزيمة القاسية التي لحقت بالقوات المسلحة العسكرية، وتحديداً الجيش الوطني الذي تعرّض لعملية تفريغ ممنهجة لصالح تعزيز اتجاهات استلحاقه وتوظيفه لخدمة اهداف خاصة لدى قيادته.
المطالب الشعبية بالمحاسبة ومكافحة الفساد سارت بالتوازي مع مساعي العبادي لتلبية هذه المطالب وبذل الجهود لاستعادة المبادرة العسكرية في محاربة الجماعات الارهابية وتحرير المناطق التي سيطرت عليها، في ظل ازمة مالية خانقة وخزينة فارغة لا تلبي الحد الادنى من احتاجات الحكومة العسكرية والاقتصادية والانمائية والادارية، زاد من تفاقمها تراجع اسعار النفط وتدني الدخل القومي الى اقل من الاستحقاق الشهري لدفع مخصصات موظفي ادارات الدولة ومرافقها.
جهود العبادي على خط مكافحة الفساد ومحاربة الارهاب، لاقته المرجعية الدينية في النجف الاشرف التي اتخذت، ولاول مرة، موقفاً يقارب التدخلَ المباشر في الشأن السياسي على العكس مما حرصت ان تؤكده طوال العقد الماضي من تاريخ العراق الجديد. فاصدرت فتواها الداعية لتشكيل الحشد الشعبي لمحاربة تنظيم داعش واعلنت تأييدها علانية للخطوات الاصلاحية التي تقوم بها الحكومة برئاسة العبادي.
بعد مرور نحو ستة اشهر على التحرك الشعبي، وعلى الرغم من الانجازات الملموسة التي حققتها القوات العسكرية، خاصة الجيش الوطني الذي استطاع العبادي تحقيق خطوات واضحة في اعادة بنائه وتفعيل دوره في التصدي للجماعات الارهابية، الى جانب الدور الذي قام به الحشد الشعبي في الصدمة الاولى لتوسّع داعش في العراق، الا انه لم يستطع تحقيق خطوات جدية على مسار محاربة الفساد ومحاكمة المفسدين، وباتت خطته الاصلاحية في مهب الانتقادات والدفع بها الى حافة الفشل.
المعركة ضد الفساد قد لا تكون اقل تعقيدا من المعركة ضد تنظيم داعش، لجهة ان من يريد محاربتهم هم شركاء اساسيين في الحكومة، وقد استطاعوا ان يوجدوا تركيبة وتوازنات اقوى من مؤسسات الدولة بحيث حوّلوا مؤسساتها الى ادارات تخدم مصالحهم على حساب المواطن والوطن.
ومنذ اللحظة الاولى عملت هذه القوى السياسية المتضررة من العملية الاصلاحية على اظهار العبادي الاصلاحي بمظهر العاجز وغير القادر على تنفيذ مشروعه الاصلاحي، من خلال ايجاد العراقيل امام اي خطوة اصلاحية ينوي القيام بها، ان كان داخل الحكومة او داخل البرلمان او على صعيد المحافظات.
ولم تقتصر جهود القوى السياسية على مؤسسات الدولة واداراتها، بل عملت على تضعيف الثقة “غير المسبوقة” التي منحتها المرجعية لسياسات العبادي الاصلاحية، من خلال زرع الشك لدى هذه المرجعية بقدرة رئيس الحكومة القيامَ بما وعد به المرجعية والحشود الشعبية التي خرجت الى الشارع مؤيدة في البداية لخطته وتاليا مطالبة بتنفيذها.
اولى المؤشرات على نجاح الجهود التي بذلتها القوى السياسية المعرقلة للعملية الاصلاحية جاءت في موقف المرجعية قبل شهرين عندما اعلنت انها ستلتزم الصمت بعد ان لمست عدم تلبية ما دعت له من اصلاحات وتراخي الحكومة في استعمال قوتها او ما وصفته المرجعية “الضرب بيد من حديد” ضد المفسدين والفاسدين.
هذا الموقف وضع العبادي في موقف مكشوف بمواجهة الشركاء الذين يخافون من سيف المحاسبة، وبات رئيس الحكومة على درجة سواء معهم في مقاطعة المرجعية لهم، وتحوّلت اللعبة السياسية الى لعبة مباشرة داخل الطبقة السياسية واختباراً لنفوذ هذه القوى وقدرتها على التصدي لطموحات العبادي الاصلاحية على اعتبار انها ستكون على حسابهم ودورهم.
الصدر وانقلاب المشهد العراقي
قد تكون الخطوة التي قام بها بها مقتدى الصدر زعيم التيار الصدري من اكثر الخطوات تعقيدا في ابعادها ودلالاتها في الصراع الذي تشهده الساحة السياسية العراقية! فمن جهة يحاول الصدر قطفَ التحرُك الشعبي والظهور بانه من اشد المتحمسين للمطالب الاصلاحية وسياسة المحاسبة, ومن جهة ثانية يحاول فرض نفسه الحامي للحكومة من اي تطورات دراماتكية قد تطرأ على المشهد السياسي وتؤدي الى الاطاحة بكل التجربة العراقية، خاصةً المكاسب التي حققتها قوى التحالف الوطني على صعيد السلطة ودور المكوّن الذي تنتمي له في العراق.
ولعل الحشود التي استقدمها الصدر من المحافظات الجنوبية والوسطى والتابعة لـ”سرايا السلام” للمشاركة في التظاهرات التي تشهدها بغداد على ابواب المنطقة الخضراء، وتَوَزُّعِها على خيم الاعتصام، كان بهدف، اولا: قدرتها على التدخل في حال حصول اي صدامات مع القوى الامنية المولجة حماية مقرات الحكومة، وثانيا: لتكون على اهبة الاستعداد لتغيير المعادلة وقطف النتائج في حال ذهبت الامور الى ما يشبه الانقلاب على الوضع القائم من خلال الاطاحة بالحكومة الحالية.
مما لا شك فيه ان تحرك الصدر لم يأت بمنأى عن التفاهم مع المرجعية الدينية في النجف، خاصة وانه بات الطرف الوحيد بين القوى السياسية الشيعية القادر على بناء علاقة مباشرة معها. ولا شك ايضا من انه انطلق في بناء هذه العلاقة وتحويلها الى رصيد من الدعم من بوابة الدفاع عن توجّهات المرجعية، وفي المطالبة بعملية اصلاحية وتشكيل حكومة تكنوقراط.
تحرك الصدر الذي يأخذ صفة “المطالبة باجراءات اصلاحية عملية وتنفيذية” جاء بعد القرارات التي اصدرها بتجميد وزراء ومسؤولين محسوبين على التيار الصدري تمهيدا للتحقيق معهم بتهم الفساد، وفي مقدمتهم بهاء الاعرجي، وهو يهدف الى:
اولا: احراج رئيس الوزراء ومحاولة سحب شعار الاصلاحات التي رفعها ويعمل على تحقيقها، من اجل عرقلة هذه الاجراءات واظهار العبادي كالعاجز عن القيام بمهمته.
ثانيا: رسم مسافة بينه وبين القوى السياسية الشيعية الاخرى التي تقاوم بشدة كل الاجراءات الاصلاحية التي يسعى ويطالب بها العبادي، من خلال افشالها داخل البرلمان او منع ادراجها على جدول اعمال مجلس النواب.
ثالثا: محاولة الصدر تقديم نفسه كأحد المطالبين بالاصلاح داخل الحكومة العراقية، وبالتالي الضغط على العبادي من خلال مطالبته بالاستقالة وتحديد سقف زمني لتنفيذ عملية اصلاحية واسعة في ظل مقاومة تمارسها قوى شريكة في السلطة ومتورطة وغارقة في الفساد، من ضمنها التيار الصدري، لاي عملية اصلاحية واسعة كانت او محدودة يسعى العبادي للقيام بها. وبالتالي وضعه في تصادم مع توجهات المرجعية التي نأت بنفسها عن العبادي وفتحت كوة للصدر للدخول منها والى جوارها.
الصدر ومعركة الحشد الشعبي
لم يكن صلاح العبيدي، احد المشايخ القياديين في التيار الصدري، بحاجة الى الكثير من الدبلوماسية ليضع الصراع مع العبادي في الاطار الادق، عندما تحدث عن اصرار العبادي في الاعتماد على قوات الجيش الوطني والشرطة في معركة استعادة محافظة الانبار من داعش على حساب دور الحشد الشعبي.
العبادي لم يُخفِ مشروعه الوطني في اعادة بناء المؤسسة العسكرية الجامعة لكل العراقيين. وهذا ما استطاع تحقيقه الى حد ما في هذه المرحلة المعقدة والمركبة، لكنه في المقابل لم يتخلَّ عن الحشد الشعبي والدور الذي قام به في الصدمة الاولى بغطاء من المرجعية، والذي ادى الى وقف اندفاعة داعش ومنع سقوط العراق في يد هذا التنظيم. ولم يبخل على هذا الحشد بالوقوف الى جانبه لوجستيا وسياسيا خاصة في المعارك التي خاضها الحشد في محافظات ديالى وكركوك وصلاح الدين.
وان يقول العبيدي ان “وضع العبادي على المحك” فهو لا يعني الجانب الاصلاحي حصرا! فمعركة التيار الصدري مع العبادي لا تختصر في هذا الجانب وحده، بل تتسم بِبُعد اكثر تعقيدا يتعلق اولا بدور الحشد الشعبي في المعركة مع داعش في الانبار وبعدها في الموصل، وما يعنيه ذلك من ترجمة لفتوى وموقف المرجعية من هذا الحشد، وثانيا للتعقيدات الاقليمية والدولية التي ترتبط بمشاركة الحشد في هذه المعارك والنتائج التي سيرسّخها في مستقبل العراق.
بتعبير اخر، تعتقد المرجعية ان العبادي ابتعد عن الهدف الذي كان سبباً بتشكيل الحشد الشعبي. وهذا الابتعاد يؤسس لعدم اخذ رأي المرجعية ومواقفها على محمل الجد في المستقبل من قبل السلطة السياسية، الامر الذي عزز التناغم بين الارهاصات الاولى للتحرك الشعبي الذي غلب عليه الطابع اليساري والمرجعية في مواجهة الحكومة، تناغم هادئ لا يصل حد التصادم مع الحكومة، ولا يعني القبول بالخطوات الخجولة التي قامت بها، من دون التوقف عند العراقيل التي وضعتها القوى والمكونات السياسية المشاركة في السلطة او غير المشاركة.
اضافة الى ذلك فان اللاعب الايراني كان واضحا في موقفه. وقد كان وزير الخارجية الايراني محمد جواد ظريف مباشرا في التعبير عنه من العاصمة التركية انقرة خلال زيارته الاخيرة، باعلان رفضه لاي مشاريع يتم التسويق لها تتعلق بتقسيم العراق وسوريا، خاصة وان هذا الموقف تزامن في اليوم نفسه مع إعلان قوى كردية عن مشروع اقامة فدرالية كردية في سوريا.
موقف ظريف يعني ان طهران على استعداد لاتخاذ اي اجراءات وخطوات تراها ضرورية من اجل افشال هذه المخططات او اي محاولات قد تنتهي الى تحويل هذا التوجه لامر واقع. ولعل ما جاء في مواقف المرشد الاعلى للنظام الايراني بمناسبة عيد النوروز خاصة ما يتعلق بضغوط امريكية لاجبار ايران التخلي عن مواقفها في العراق واليمن والبحرين، وتأكيده ان هذه المواقف قد اسقطت نظرية الشرق الاوسط الكبير، تشكل مؤشرا على جدية الموقف الايراني في التصدي لاي محاولات قد تنتهي الى اضعاف الدور الايراني في العراق وسوريا.
واذا ما كانت الساحة السورية المفتوحة على كل الاحتمالات في ظل عدم التوصل الى اي اتفاق سياسي يضع حدا للمعارك التي تشهدها وتنهي الصراع المسلح في هذا البلد، فان ايران تعتبر نفسها تمتلك الادوات او القدرة التي تمكنها من افشال هذا المساعي، او التعامل مع المستجدات التي قد تنتج عن اي واقع جديد من خلال التأكيد على حصتها في اي تركيبة سياسية وامنية وعسكرية قد يتم الاتفاق عليها داخل سوريا. الا انها غير مستعدة للمساومة في تقديم اي تنازلات على الساحة العراقية قد تؤدي الى التقليل من دورها ونفوذها وقدرتها على رسم مستقبله السياسي. لذلك يأتي تمسكها برفض اي بحث في مسألة اقامة اقاليم جديدة باي ذريعة كانت.
من هنا يأتي اصرار ايران وحلفائها العراقيين، وتمسكهم بمشاركة الحشد الشعبي في المعارك التي تجري في المحافظات الغربية، خاصة معارك “الانبار” والاستعدادات القائمة لمعركة الموصل. اذ ترى ان هذه المعركة ستشكل حجز الزاوية في رفض اي مشروع تقسيمي للعراق او اقامة “إقليم سني” فيه يكون مدخلا لاحداث تغييرات في الخارطة السياسية والجغرافية للمنطقة.
هذه المخاوف الايرانية قد تكون هي السبب الكامن في الاصرار على تولي الحشد الشعبي دورا في معركة الانبار والموصل. وهي ترى بان الاصرار على اعادة بناء الجيش العراقي وتكليفه دون غيره الى جانب الحشد العشائري بهذا الدور يساهم في التأسيس لاخراج ايران وحلفائها من المعادلة العراقية، وهو ما لا يمكن ان تسمح به، لجهة انه يؤسس لعودة الدور الامريكي وتحوله الى شريك اساسي للايراني في العراق، وقد ارتفعت وتيرة هذه المخاوف مع القرار الاخير لوزارة الدفاع الاميركية برفع عديد جنودها ووحداتها المقاتلة في العراق الى جانب الجيش وابناء العشائر الغربية في مواجهة داعش، خاصة في الانبار.
وعلى الرغم مما يقال عن حرص ايراني بالحفاظ على الوضع القائم في العراق على ما هو عليه من دون تعديل او تغيير، خاصة ما يتعلق بالحكومة الحالية، الا انها لم تُسقِط من حساباتها امكانية القيام بخطوة دراماتيكية قد تؤدي الى قلب الطاولة على الجميع من اجل الدفاع عن مصالحها في لحظة المتغيرات الاقليمية والدولية الدقيقة. وبالتالي فان الحشود التي جمعها الصدر في بغداد وعلى ابواب المنطقة الخضراء، قد تتحول الى قوة ضاربة في اللحظة المناسبة!
وعندها لن تكون مهمة هذه الحشود هي الدفاع عن توجهات المرجعية ومطالبها بالاصلاح ومحاكمة الفساد والمفسدين، لانها ستتحول الى رأس حربة لانقلاب شيعي على سلطة في أيدٍ شيعية، وهذا ما لا تتمنى ايران ان تصل الامور اليه.