فيلم المخرجة المصرية ناديا كامل «سَلَطة بلدي» أتى من «الحَشَى» كما يقول المتصوفون. فيلم نابع من أعماق الذات. هي، المخرجة ناديا كامل، أمها ماري وأبوها سعد كامل، والاثنان صحافيان شيوعيان مخضرمان، وأختها دينا، والدة نبيل، الوريث الوحيد لهذه العائلة، وجدّه من أيه المسؤول الفلسطيني والوزير السابق نبيل شعث. المشهد الاول من الفيلم: دينا فرِحة بالعيد، تحمل نبيل على كتفَيها وتتوجه الى الصلاة في المسجد. لكن الضيق سرعان ما ينتابها: يتكرّر على مسمَعيها صراخ يأتي من المسجد: «الاسلام… أعداء الاسلام! الاسلام… أعداء الاسلام!». إشارة الى المناخ الذي ينتاب مصر هذه الايام لجهة إنخفاض درجة التسامح وتصاعد العصبية الدينية والطائفية… ما يتناقض كليا مع بنية المخرجة، المتعددة الانتماءات الوطنية والدينية. والدتها ماري، وهي في الاصل يهودية ايطالية، اعتنقت المسيحية لتستطيع ان تتزوج أباها المسلم. اما الحفيد فأكثر تنوّعا. فإلى دماء أمه، المتعددة اصلا، اضيفت دماء فلسطينية ومصرية من جهة ابيه المولود من أب فلسطيني وأم مصرية…
هذه كانت فكرة الفيلم الجنينية الاولى. الفكرة الثانية هي رغبة امها المتصاعدة في اعادة علاقتها بأهلها بعد قطيعة دامت 50 سنة. «لِما سكتّّي طوال هذه العقود يا امي؟» تسأل ناديا الابنة. إلتزاما منها بالمقاطعة، وبعدالة القضية الفلسطينية، تجيب الأم. انها ذروة لحظات الشريط: اتخاذ القرار الأليم بكسر مقاطعة اهل ماري اليهود، وخاصة ابنة خالتها سيرين. بالنسبة الى ماري، القرار نضج… بعد مخاض. لكن سعد، زوجها، ليس جاهزاً نفسيا بعد. يحتار، يناقش نفسه، يتردّد. ولكن في النهاية يحب ماري، فيرفض ان تذهب وحدها «لأن ذلك غلط ويعني اننا مختلفون بينما نحن متفقون على كل شيء».
يذهبون الى اسرائيل. تستقبلهم سيرين واخوتها واولادها واحفادها. الاستقبال مشبع بالحنين والوداع بالدموع، ووعود باللقاء مرة اخرى. في نهاية رحلتهم يحاول المسافرون المرور بغزة، حيث اهل نبيل شعث، الحفيد المتعدد الجنسيات والاديان، لكنهم لا يفلحون فيعودون الى القاهرة.
الشريط مليء بالحوارات والكلام والاخذ والرد، والاسئلة الذكية حول معاني التعدّد واصول التعايش مع الاختلاف. حافظت مخرجته على أعلى درجات العفوية في التصوير الحي، وقد تخلّلته لحظات قوية جدا: كتلك التي تحاول فيها الجدة، ماري، ان تضع لحفيدها نبيل إطارا منطقيا منظّما لكل هذا التعدّد الذي يسكنه، والمهدِّد بالفوضى. او تلك التي تحاول فيها ايضا ماري ان تشرح لنفسها ربما قبل غيرها، لماذا بقيت كل هذه العقود الخمسة ممتنعة عن السؤال عن اهلها الاسرائيليين.
والشريط لم يعرض في القاهرة على نطاق واسع. ومع ذلك، استقبـــل كما يستقبل اي منتج فني لامس اسرائيل من قريب او بعيد. احدى صالات العرض غادرها عدد من المشاهدين فور ورود المشاهد التي صُورت في اسرائيل… آخرون هاجموا فكرة إظهار اسرائيليين «أشخاصا ودودين على رغم الفظائع التي يرتكبونها يوميا بحق الفلسطينيين». وفي صالة اخرى، خرج مشاهدون على درجة عالية من التوتر العصبي، وهم يشتمون المخرجة… فيما الصحافة وجدتها فرصة لإظهار ولائها للوطن والقضية، فشرعت تصرخ هي الاخرى «تطبيع…! تنفيذ المشروع الاميركي للشرق الاوسط الكبير…!».
وكما يحصل في حالات مماثلة، بعدما يُعرض على نطاق اوسع، سوف يأتي من يقول «لم اشاهد الفيلم… ولكن!». على نفس وزن «لم اقرأ الكتاب… ولكن!».
هذا ما يقرّب المتصيّدين في بحر مقاطعة اسرائيل من المتصيّدين في بحر الايمان الديني. هذه محاكم تفتيش دينية، صارت ملموسة، بآلياتها ومحاورها وابطالها. وتلك محاكم تفتيش «مدنية» عائمة، غائمة… من دون مجمّع بحوث، ولا ازهر ولا شيوخ ولا دعاة، ولا دعاوى تفريق بين الازواج على اساس التكفير. محاكم لا تراها العين. مثل الاشباح. والمشكلة الآن انها تلتقي بمحاكم التفتيش الدينية، باسم «أولوية محاربة المشروع الاميركي في المنطقة». وبسبب التكوين الفكري العميق الذي يتشكّل منه هذا المناخ، ولا تجد لدى معتنقيه اي نقاش حول ضرورة تطوير او «تجديد» مفهومَي المقاطعة والتطبيع (أسوة بفهم الدين)، أو أي استقبال لهواء ندي ينعشه وهو في اختناقه هذا.
كل ما فعلته ناديا كامل انها لم تعالج قصتها بالنَفس الشمولي الاختزالي السائد. موضوعها، هو هي، بكل تفرعاتها، وامتداداتها العائلية. موضوع لا تصلح معه الشعارات واليقينيات. موضوعها قائم على السؤال. انها تصور ما تستكشفه.
تتذكر ناديا كامل عالمها السابق،الغريب عن عالمها الراهن: منزلها الصغير كان يمثل لها «وحدة العالم الانساني. حالة فريدة من التسامح والغاء كل انواع العصبيات. ففيه ناس من جنسيات متعددة، اليوناني، الايطالي، المصري، الاسود، النوبي الابيض، والباقي سمة النيل المتعدد الالوان، وفيه كل الديانات: المسيحي، المسلم، البهائي. لم يكن هناك ابواب مغلقة…».
ناديا كامل دخلت الى السياسي عبر الشخصي. تقول «لا استطيع ان اتغاضى عن انسانيتي لدى تناول المواضيع السياسية. انا مسؤولة عن انسانيتي». عبّرت عن السياسي بواسطة الشخصي، ومن دون ان تقصد ربما. وهذا النوع هو اكثر ما تفتقده ادبياتنا السياسية والفنية والنقدية.
فكانت قوتها في صدقها. ما يعكر المزاج الانتي-تطبيعي، الثبوتي بقناعاته، بل الخائف من طرق ابواب التابو. فوظيفة الانتي-تطبيع: التعبئة ثم التعبئة ثم التعبئة… على حساب الوعي. فلتغلق اعين الوعي اذا كانت ستحفف من وتيرة التعبئة…
والتعبئة من اجل ماذا؟
بالاساس من اجل محاربة المنتجات الاسرائيلية. اول شرارتها عام 1922 حين قاطع اهل فلسطين السلع التي ينتجها يهود فلسطين. ومذّاك، أي منذ 85 عاماً، ونحن نقاطع، أي نُعبّأ. النتيجة؟ إغراق اسواقنا بالمنتجات الصينية!
فضلا طبعا عن تراجع قضيتنا. اليس من البديهي التساؤل في هذه الحالة عن جدوى التعبئة ضد التطبيع. وقد طالت الى ان باتت في متناول كل الايادي، تغتسل بالتعبئة بعد اقتراف ابشع الجرائم ضد اصحاب القضية الاصليين. هل يتوقعون من تعبئتهم المستمرة خسائر اقل فداحة من تلك التي هم واقعون فيها الآن؟ أم يصدقون «الانتصارات»؟
المقاطعـــة الحضــــــارية ابشع. بفضلها صرنا ننظر الى انفسنا بصفتنـــا الخـــير المطلق. وهم الشر المطلق. من اسرائيل الى كل مـــن يقترب من رائحتها. شر مقدس. لا يقتلع الا بالإمحاء. من الإمحاء الجغرافي الى إمحاء الوعي. فنحتكر بذلك صفة الضحية
الابديـــة. فهل يصح ساعتئذ ان نرى خلف هذا الشر المقدس بشرا من دم ولحم؟ نعم تقول ناديا كامل بشجاعة من يصدق كل كلمة يقول.
dalal.elbizri@gmail.com
الحياة