نشرت جريدة “الأنباء” النص الكامل لمحاضرة رئيس “اللقاء الديموقراطي” النائب وليد جنبلاط التي ألقاها في معهد واشنطن قبل أيام، ومما جاء فيها:
“أنا مسرور وفخور لاستطاعتي أن أعبر عن بعض وجهات النظر المتعلقة بلبنان في هذا الوقت المهم والحاسم في تاريخ بلدي، من هنا وأنا ضيف في معهد واشنطن المحترم. ولكن من أجل فهم الوضع المعقد، دعوني أعود إلى بعض اللحظات أو الأحداث التاريخية التي أثارت ولا تزال تثير الأزمة الحالية. إن لحظة الحقيقة، إذا أمكنني القول، بدأت في 26 آب 2004 عندما دعا (الرئيس السوري) بشار الأسد الشهيد رفيق الحريري، رئيس حكومة لبنان إلى دمشق من أجل اجتماع لم يدم أكثر من عشر دقائق، وقال له بصراحة: “إميل لحود (أي الرئيس الحالي) هو أنا، وإذا كان أحدهم في لبنان يريد إخراجي فسوف أحطم لبنان… اذهب وجدد له”. منع الحريري حتى من المناقشة وعاد مباشرة من دمشق إلى بيروت، إلى منزلي، أظن أن الوقت كان ظهرا أو الساعة الأولى تقريبا، وأخبرني ما حصل له مع بشار. كان الوزيران مروان حماده وغازي العريضي حاضرين مع النائب باسم السبع. كانت لحظة الحقيقة قد أتت كما قلت.
بعضكم قد يسأل لماذا أخذت كل هذا الوقت لأتحدى الاحتلال السوري للبنان، يوما ما، إذا نجوت من جزار دمشق، وارث الحشاشين، كما وصفهم بشكل صحيح برنارد لويس، يوما ما سأكتب مذكراتي. لنعد إلى يوم 26 آب 2004، قلت للحريري الذي كان حزينا ألا يكتئب، وقلت له أن لا يتحدى بشار، إنه خطير، اذهب وعدل الدستور، لن أهاجمك لكنني لن أصوت على التعديل.
أخذني بعض الوقت.. لأستوعب بعض القيم.. حول أهمية الديموقراطية، الحرية، العدالة
اجتمع مجلس الوزراء اللبناني في 28 آب وقرر تعديل الدستور. اعترض الوزراء الثلاثة الذين يمثلون كتلتي النيابية واستقالوا بعد ثلاثة أيام. انعقد مجلس النواب في 23 أيلول 2004 للتصويت على التعديل، ومن بين 128 نائبا، 29 تحدوا الأوامر السورية، أوامر بشار الأسد، وأنا كنت من بينهم. لم يستطع الحريري إلا أن يلتزم على مضض. في 2 أيلول 2004 بالتوقيت المحلي لنيويورك، اجتمع مجلس الأمن وأصدر القرار 1559 يشجب فيه التدخل السوري، وأعلن دعمه لانتخابات رئاسية مقبلة تكون عادلة وحرة. هذا بالطبع لم يحصل في ذلك اليوم في تلك السنة (3 أيلول 2004). لكن هذا يمكن أن يحصل في خلال ثلاثة أسابيع من الآن، من سنة 2007، إذ قاربت فترة حكم الرئيس المفروض من سوريا، من بشار، على الانتهاء. الدستور يسمح لنا بذلك (أعني من بقي حيا من الأكثرية، لقد اغتيل أنطوان غانم وهو واحد منا منذ أسابيع بسيارة مفخخة). بشار يحافظ على وعده بتدمير لبنان”.
أضاف: “بالعودة إلى 2004، بعد شهر تقريبا على التعديل المفروض للدستور، نجا الوزير والنائب مروان حماده بأعجوبة من حادث سيارة مفخخة خلال خروجه من منزله في بيروت. كان بشار قد بدأ بتحقيق وعده بتدمير لبنان. وبالعودة إلى القرار 1559 الذي أقر في 2 أيلول 2004، دعا كذلك القوى الباقية للانسحاب من لبنان. آنذاك كانت القوات السورية لا تزال في لبنان والإسرائيليون كانوا قد انسحبوا عام 2000. ذهب السوريون، نعم ذهبوا، تركوا لبنان في نهاية نيسان 2005 تحت ضغط الدعم الدولي للبنان حر، ولكن أيضا، وخصوصا بفضل ثورة ضخمة سلمية، وفريدة، شعبية، من اللبنانيين الأحرار في 14 آذار 2005 سميت “ثورة الأرز” الذين طلبوا من السوريين الانسحاب متحدين دماهم وحلفاءهم ومقدمين التحية لذكرى رفيق الحريري ورفاقه الذين اغتيلوا عبر التفجير في 14 شباط أي قبل 40 يوما. نعم، كان الأسد محقا في محاولته لتدمير لبنان. لكن رحلة الشعب اللبناني من أجل الحياة والحرية والديموقراطية استمرت كل مرة في تحدي إرادة الأسد في تدمير لبنان. في 7 نيسان 2005 وتحت طلب الحكومة اللبنانية، وافق مجلس الأمن عبر قرار 1595 على لجنة استقصاء مستقلة من أجل جريمة اغتيال الحريري ورفاقه لأننا لم نكن نستطيع آنذاك، وما زلنا في بعض الحالات غير قادرين بعد 30 سنة من الاحتلال السوري الاعتماد على إمكانياتنا وأجهزتنا الأمنية والقضائية”.
وتابع: “لقد استمر القتل، لم يخف الأسد، ولا يزال غير خائف. في 12 كانون الأول 2005 اغتيل جبران تويني، بطل ثورة الأرز وصحافي مرموق ورئيس تحرير جريدة “النهار”.
طلبت الحكومة اللبنانية من الأمم المتحدة محكمة خاصة ذات طابع دولي. وافق مجلس الأمن على هذا الطلب بعد ثلاثة أيام من اغتيال جبران تويني. في 15 كانون الأول 2005، بعيد اغتيال جبران تويني، انسحب وزراء أمل وحزب الله من الحكومة، وهم الوزراء الحلفاء للنظامين السوري والإيراني. عادوا بعد ذلك ولكن منذ ذلك التاريخ 12 كانون الأول 2005 حتى 11 تشرين الثاني 2006، فعل التحالف السوري الإيراني ما في وسعه لمنع تشكيل المحكمة. في 11 تشرين الثاني 2006 استقالوا أخيرا من الحكومة قبل يومين من موافقة حكومة السنيورة على مسودة الاتفاق بين الحكومة اللبنانية والأمم المتحدة. حينها بدأت الأزمة بالاتساع. أقفل البرلمان بطريقة عير شرعية من رئيس مجلس النواب لمنع أعضاء المجلس- من تبقى من الأكثرية- من التصويت لإقرار الاتفاق الخاص بالمحكمة. في ذلك الوقت، في 21 تشرين الثاني 2006، بعد ثمانية أيام من الموافقة على مسودة المحكمة من قبل الحكومة اللبنانية، اغتيل بيار الجميل وهو وزير ونائب في البرلمان. نعم، الأسد كان لا يزال يحاول تدمير لبنان والوقوف ضد العدالة.
أخيرا، أدرك مجلس الأمن أنه من المستحيل إقامة المحكمة وفق الآليات الدستورية في لبنان- اذ ان مجلس النواب مقفل بطريقة غير شرعية من قبل رئيس المجلس نبيه بري- قرر مجلس الأمن تبني المحكمة في 30 أيار 2007 من خلال القرار 1757، وأمهل عشرة أيام قبل إقرارها تحت البند السابع، أي لغاية 10 حزيران 2007، في حال انعقد مجلس النواب بأعجوبة. لم تتحقق هذه الأعجوبة ولكن أتت رسالة دموية بعد ثلاثة أيام من إقرار المحكمة من قبل مجلس الأمن.وليد عيدو، عضو في البرلمان و عضو في لجنة الحقوق البرلمانية وناقد صريح للنظام السوري، كسمير قصير والباقين، وليد عيدو اغتيل بسيارة مفخخة في بيروت. نعم بشار كان لا يزال يحطم لبنان ويقف ضد العدالة، العدالة المحلية والآن العدالة الدولية في لبنان”.
وختم: “قبل الختام، سنواجه بعد ثلاثة أسابيع لحظة حقيقة، إما سنستطيع انتخاب رئيس يحقق طموح اللبنانيين في الحصول على لبنان حر، سيد ومستقل وفقا ل 14 آذار، ثورة الأرز، رئيس يحترم القرارات الدولية ويلتزم بها، يتعاون بالكامل مع المحكمة، وإما أن لبنان سيخضع للطغيان السوري والسيطرة الإيرانية. سيختفي لبنان، نموذج التنوع والتعددية والديموقراطية في الشرق الأوسط. فلا ينخدع أحد بأن القتل سيتوقف ما دام حاكم دمشق يشعر بالأمان في دمشق، مدعوما من الإيرانيين، ما دام البعض يعتقد أن إشراكه سيغير من سلوكه. في هذه الحالة لما لا نشرك بن لادن كما فعل شامبرلن مع هتلر منذ وقت طويل.
كلنا نعلم أن التاريخ حافل بالأحداث فإشراك الدكتاتوريين يؤدي إلى المجازر والمآسي.
سأنهي بالقول أنه أخذني بعض الوقت، الوقت الكثير، رحلة طويلة لأستوعب بعض القيم، خلاصات حول أهمية الديموقراطية، الحرية، العدالة، ولن أذكر المزيد. ولكن بالانضمام إلى قوى 14 آذار، اللبنانيون الشجعان الذين طالبوا بالحرية والديموقراطية والعدالة، وبعدما اكتشفت، ربما متأخرا، تعلمون أنه في بعض الأحيان يكون هناك ستار أمام أعيننا، يمنعنا من رؤية الحقيقة- بعد أن اكتشفت، ربما متأخرا أن العدالة لا تتعايش مع الطغيان، وأن ما يسمى حركات التحرير، التحرير الوطني المدعومة من الدكتاتوريين في دمشق أو قوى الظلام في طهران لا يمكن إلا أن تتصرف وفقا لرغبات أسيادها التي تمليها عليهم. قمت بأفضل ما يمكنني مع رفاقي في 14 آذار، جميعهم، قمنا بأفضل ما نستطيع لنحقق المحكمة، في انتظار الحكم ونذكر الجمهور كيف وقف حلفاء سوريا وإيران بشراسة في مواجهة المحكمة، مواجهة العدالة. أرى أن أفعالي مع رفاقي ستحقق العدالة وأن المجرمين سيساقون إلى المحاكمة، وأن في مكان ما سأكون وفياً لذكرى رجل نبيل، كما وصفه آرثور سولزبرغر (Arthur Sulzberger) في “النيويورك تايمز” في 16 آذار 1977 يوم اغتيل كمال جنبلاط في جبال الشوف في لبنان، اغتاله النظام السوري ومعه قضى العديد من الأبرياء.
(جريدة “الأنباء”)
يمكن قراءة المحاضرة بالإنكليزية أو مشاهدة فيديو المحاضرة كاملاً على موقع “معهد واشنطن” على الرابط التالي:
The Struggle for Freedom and Democracy in Lebanon
Featuring Walid Jumblatt