في ختام سنة ونصف السنة تقريباً من العمليات الانتخابية العامة والتشريعية في لبنان (حزيران 2009) والعراق (آذار 2010) والكويت والبحرين (في النصف الأول من 2010) والأردن (تشرين الثاني) ومصر (كانون الأول الجاري)، في انتظار اليمن، يبدو جلياً ان المجتمعات والأنظمة السياسية العربية تعاني مشكلات متفاوتة الحدة مع هيئاتها البرلمانية المنتخبة. وهي تشترك في قصور الهيئات هذه عن الاضطلاع بدورها المزدوج: تجديد التعبير عن إرادات وميول الناخبين ومراقبة السلطات والإدارات الحاكمة ومحاسبتها. وهذه الدورات الانتخابية إما خلفت عراقيل وعقداً حالت وتحول دون تولي الفائزين، حلفاً أو كتلاً، مقاليد الحكم، على ما هي الحال في لبنان والعراق. وإما حصلت في ظروف ملتبسة وأنجبت مجالس تشريعية وتمثيلية ليس الطعن في صدق تمثيلها عسيراً، على ما هي الحال في الأردن ومصر. وتدخل انتخابات الدولتين الخليجيتين تحت باب ثالث. فالقانون الذي نظمت الانتخابات بموجبه يقيد تمثيل جماعات بينها وبين الحكم وبعض الجماعات خلافات وحزازات لم تحسم. وعلى رغم هذا، فالناخبون ومن يمثلون لا يسعهم الطعن في نزاهة العملية طعناً حاداً، فيما يسع الجماعات المعارضة التوسل بكتلها النيابية الى عرقلة أعمال الحكم، على ما هي حال الكويت، أو التربص به، على ما تصنع المعارضة البحرينية.
العرض والجوهر
وقد تكون المقارنة بين أحوال البلدان الستة أو السبعة مقحمة أو مفتعلة. فأنظمتها الانتخابية متباعدة، والقواعد الناخبة والاجتماعية مختلفة، والقضايا السياسية المتنازعة متفرقة، ومواقع البلدان من المحاور والمسارح «الحارة» متفاوتة، الخ. ولكنها، على رغم هذا كله، تشترك، إلى عروبتها وإسلامها الحضاريين والجغرافيين المتصلين، في تأزم علاقات مجتمعاتها (أو جماعاتها) و «دولها» (أو أجهزة السيطرة والإدارة) معاً بمثال الدولة والحكم وانتصابهما فوق الجماعات. وتشترك كذلك في عسر فصلها مشكلاتها وقضاياها الوطنية والداخلية عن مشكلات عامة ومتشابكة، قومية ودينية سياسية، متأججة تتصدرها المسألة الإيرانية النووية والجغرافية السياسية، والانقسامات العصبية المذهبية والمحلية، والمسألة الفلسطينية، وتقسيم الثروات وتفاوته بين كيانات الإقليم وداخلها. وتعريف هذه المشكلات الواحدة على حدة من الأُخَر لا يصدق إلا على سبيل النظر. فاضطراب علاقات الجماعات والسلطات بمثال الدولة الوطني والجامع والمستقل هو أثر من آثار تشابك منازعاتها الوطنية مع القضايا الإقليمية (والدولية) الكثيرة. وتنوء الدول الوطنية بثقل هذه القضايا، وترتيبها على الجماعات وعلى أجهزة السيطرة والإدارة تبعات تتعدى السياسات الموضعية والجزئية الى بنية الدولة وهويتها ودورها الآن وفي المستقبل. وهذا ما لا تملك المداولة فيه، وبالأحرى بته وحسمه، أجهزة حكم ضعيفة النفوذ في جماعات مجتمعها وأهاليها المتماسكين على عصبيات لا تزال تتمتع، أو جددت تمتعها بمقدار كبير من المناعة والحصانة الداخليتين. ولا يحول ضعف نفوذ (على معنى النفاذ والتخلل) أجهزة الحكم في الجماعات، ونظيره عجز أجهزة الحكم عن تصديع الجماعات، لا يحول دون احتكار طاقمها مرافق الحكم والإدارة، وعوائد هذه المرافق، وتوليها توزيع العوائد وتصريفها.
وتتجدد المشكلات البنيوية والتاريخية العسيرة، على مقادير متفاوتة، في الاستحقاقات الظرفية أو الدورية كلها تقريباً. فلا تعدم دورة انتخابية واحدة بعث المسائل الجوهرية معاً وفي آن. فبعثت الانتخابات اللبنانية مسائل السيادة والدستور والوحدة الوطنية ومشاركة الجماعات في السلطة واستقلال الجماعات والكيان السياسي والحقوقي تالياً عن النفوذ الإقليمي ودوائره ومصالحه وعلاقته بالمجتمع الدولي. وإجراء الاقتراع بحسب قانون انتخابي قريب من رغبات الجماعات الناخبة، ومشاركة الناخبين في نسبة مرتفعة (نحو 45 في المئة) قياساً على الدورات الماضية ومن غير إكراه مباشر ولا تزوير، وإفضاء الاقتراع الى غالبية، أو كثرة، وأقلية نسبيتين هذه كلها لم تفصل في الخلاقات العميقة التي تتجاذب جماعات الناخبين اللبنانيين. وعلى نحو قريب بعض الشيء، لم تحسم الانتخابات العراقية الثانية، بعد انهيار سلطان صدام حسين و «عشيره» ورهطه، لا مسألة تكوين السلطة العراقية الوطنية (وتسمى المسألة «تقاسم السلطة»)، ولا حقوق الجماعات والأفراد (على مقدار أقل)، ولا مسألة ولاية العراقيين على بلدهم المفترض واستقلالهم عن الولايات المذهبية والقومية والأهلية التي تتقاسمها جماعاتهم مع جماعات وأجهزة سيطرة مجاورة وداخلية، ولا الرأي في الماضي الثقيل الذي أناخ على مصائرهم ولم ينهه إلا الغزو العسكري الأجنبي، الخ. وربما فاقم تجاذب الكتل وترددها وترنح معظمها أحوال الناخبين وجماعاتهم، على ما ظهر في الأشهر الثمانية أو التسعة الطويلة المنقضية بين إجراء الانتخابات وبين تكليف نوري المالكي والائتلاف الوطني المتناثر رئاسة الوزارة. ولكن التجاذب والتردد والترنح ليست إلا صدى لمثيلها وصنوها في جماعات الناخبين أنفسهم.
وحيث يفترض ان مسألة «تكوين السلطة» غير مطروحة، شأنها في الأردن ومصر، وربما في الكويت والبحرين على نحو مختلف، يؤدي القانون الانتخابي (الصوت الواحد المجزأ في المملكة الأردنية الهاشمية)، وتوكيل الإدارة الأمنية المصرية وحدها، من دون القضاء بالانتخابات والبت في طعون المرشحين، يؤدي الأمران الى مواقف وآراء وأحكام أشبه بتلك التي تشكك في مشروعية الدولة والهيئات والحكم في البلدان التي تعاني أزمات كيانية. ولعل مجلس الشعب «الوطني» أو «الموازي» المصري، ومزاعم اسمه تفوق بكثير حقيقته، كناية خطابية عن الانقسامات العميقة التي تنشب في الأجسام السياسية الوطنية المأزومة. وزعمُ المجلس «الوطني» يصدق على غير الوجه الذي يدعي اصحابه الصدق منه أو عليه. فهو لا يمثل إرادة المواطنين الغالبة والكاثرة ولكنه ينبّه الى خلو وفاض «خصمه» المفترض، أي مجلس الشعب الرسمي، من التمثيل. ويندد بـ «بطلان» (على قول المحكمة الإدارية العليا) الإجراءات الإدارية والأمنية التي رعت ولادة مجلس الشعب، أو ولدته ولادته القيصرية المشهودة والمحققة من 15 في المئة من الناخبين المقترعين و «المغرضين». ومقاطعة إسلاميي المملكة الأردنية وحركتهم دورة الانتخابات الأخيرة تعلق هيئة سياسية أساسية، هي مجلس النواب التشريعي والمراقب، على ناخبي العشائر، وعلى تمثيل أعيان العشائر مصالح أهلها المباشرة وحاجتهم الى الخدمات. وأما الرأي السياسي العام فمنوط، والحال هذه، بالإرادة الملكية. وتنبه المشاركة الضعيفة والضيقة، شأن تخلي الناخبين عن إعمال معيار سياسي أو مختلط في اقتراعهم، الى تعليق الإرادة السياسية، واقتصار الدولة على جهاز منافع ومصالح وروابط عصبية وجزئية، وعزوفها عن التمثيل على العروة الرمزية الوطنية.
المعارضات والهوية
ويعظِّم دلالةَ أو دلالات المسألة، ونهوضَها علماً على انقسام اهلي وسياسي يتهدد أركان الدولة بالزعزعة والتصديع، اشتراكُ «المعارضة» في الدول الست، وفي الدولة السابعة (على وجهين متفرقين)، في صبغتها أو هويتها الإسلامية السياسية. وتخلط الهوية الإسلامية السياسية، إخوانية ام خمينية حرسية أم سلفية أم إمامية (بحسب البلدان وأمزجتها المتفرقة والمختلفة)، موقع المعارضة بالحكم وموقعه، ولا تميز تبعات الحكم والإدارة من تبعات الإسهام من خارج في انتهاج السلطة هذا النهج أو ذاك. وفي الأحوال كلها تعسر هوية «المعارضة» الإسلامية السياسية إرساء تولي الدولة الواحدة قيادة الكيان الوطني، والنهوض بوحدته. فالمعارضة الإخوانية في مصر تنازع في أركان الدولة المصرية وصفتها. وتذرع ا لحكم بشعار الإخوانيين، «الإسلام هو الحل»، الى إبطال ترشيح المرشحين، والحؤول بين المرشحين وبين تنظيم حملاتهم الانتخابية، وإهمال قرارات القضاء الإداري في إلغاء انتخابات دوائر كثيرة، وإلى اعتقال الألوف منهم، هذا التذرع لا تنكر حقيقته الوطنية والعامة كلها. فمنطق الشعار، غير الخفي ولا المضمر، يدعو الى ترتيب المصريين مرتبتين، مرتبة «المسلمين» المقبلين على الحل والراضين به، ومرتبة غير «المسلمين»، والحال هذه، وهذا ترتيب معياري ينتج نتائج دستورية وقانونية وإجرائية ملموسة، إلى نتائجه السياسية والمعنوية العريضة والجوهرية.
وحملُ الترتيب والنتائج على محمل الجد وهو لا يطعن في مدنية الدولة وحدها، وه ما ذهب إليه بعض المعلّقين المنتصرين للأجهزة الحكومية، بل يضعف صدقية فرق المعارضة المختلفة. وفي مرآة منطق الشعار الإخواني، وترتيبه المصريين ونتائج الترتيب، تبدو مساندة الإخوانيين محمد البرادعي، وترشحه الى انتخابات الرئاسة، وشروطه على الحكومة والدستور، ضرباً من المراوغة. وقبول فرق المعارضة وحركاتها وأحزابها مساندة الإخوانيين، والإخوانيون يجهرون سياستهم ومترتباتها المدمرة على وحدة الدولة المصرية والمصريين، لا يبعد ان يكون احتيالاً. وقد يكون سكوت محمد البرادعي، عشية الحملة الانتخابية وغداة دورتي الانتخابات، وبعد خذلان بعض «أنصاره» المزعومين دعوته الى المقاطعة، إيذاناً بتصدع حلف المعارضات من داخل، وجراء ما افترضه الحلف هذا من تكاذب وسكوت وطعن في الرابطة السياسية الوطنية.
وترتب الهوية الإسلامية السياسية على أصحابها، في مصر والأردن والعراق ولبنان، تبعات إقليمية وخارجية لا تتفق ووحدة الجماعات الأهلية، وانضوائها في كنف دولة واحدة. فهي تحمل إسلاميي أو إخوانيي مصر والأردن على الانضواء تحت لواء «إخوانهم» الفلسطينيين. وهؤلاء انشقوا عن «مواطنيهم» وشركائهم في الوطنية الفلسطينية، واستقلوا بدويلتهم، وتدريجاً بنظمهم الاجتماعية ورسومهم القانونية وأعرافهم، عنهم (وكانوا رواد التوسل بالانتخابات النيابية والتشريعية الى تصديع المجتمعات الوطنية وشقها). ويدعو الانضواء تحت اللواء الإخواني، الفلسطيني أو المصري، الى انعطاف حاد عن نهج داخلي (على شاكلة تخالف منطق «الإسلام هو الحل») وإقليمي (يقوم على بعض استقلال الكيانات الوطنية وتقييد التدخل في شؤونها ويستبعد الحرب الإسرائيلية العربية من أفقه) ودولي (يقر للمعايير الدولية والغربية وللمصالح الاقتصادية في تعريفها «النيوليبرالي» بالصدارة). ويرعى هذا النهج المثال الوطني المتماسك، على علاته الكبيرة وتفاوته السياسي والاجتماعي الحاد، ولا يفرط في «سلم» محبط يقود خلافه الى بربرية قربتها الحركات «الجهادية» حيث كلمتها فاصلة بباكستان وأفغانستان، وبعض مناطق آسيا الوسطى، وبعض فلسطين وبعض لبنان وبعض العراق وبعض إيران في بعض الأوقات من الأفهام والتصور والتوقع. ولا يرى خارج الأطر الاقتصادية والتجارية والمالية الدولية، على رغم نكساتها، احتمالاً، أو خارج الأطر السياسية والقانونية حماية وتحكيماً على حدهما الأدنى ربما.
اللبننة المتجددة
والانضواء تحت اللواء الإخواني أو الخميني الحرسي يقود الى «لبننة» البلدان المنضوية، على معنى جديد للبننة طوره الحزب المسلح الخميني في لبنان، ومدته سياسات إقليمية حثيثة بآلات التطوير. وتقتضي «اللبننة» الجديدة إنشاء «مقاومات» سرية مسلحة، وحاضنات (أو حضون) أهلية عريضة تقتطع من ولاية الدولة الأرض التي تحتاج إليها، والسكان الشرفاء الموالين والمنقادين، والأجهزة الأمنية والتقنية والإدارية والديبلوماسية والقضائية والاقتصادية والتعليمية المناسبة والمطيعة المَرْضية. وعلى الدولة الرسمية، أي دول الكيانات الأعضاء، التضامن في المحافل الدولية مع «المقاومات»، والإلحاح باسمها في إنفاذ المعايير الدولية في الدول (أو الدولة الواحدة والمركبة) المعتدية، وفي حماية «المقاومات» وحقوقها في المقاومة صد العدوان. فيرفع هذا مصر الى مرتبة مسرح خلفي للطليعة الحماسية، فوق الأرض وتحتها، وقد ينزل النهج نفسه الدولة الأردنية منزلة «وطن بديل»، ويلغي الفرق، المتوهم والحق يقال، بين وطن بديل ووطن أصيل، والأوطان كلها أصيلة في ظل الخط المقاوم والجهادي، وكلها بديلة في الحضن الأميركي الصهيوني. ويوحد العراق المشرذم والمتنازع ولايةً مختلطة تحت السدة الشاهانية.
وهذا ما أنجزته «المقاومة» الخمينية الحرسية على بعض الأرض اللبنانية، وفي عدد متعاظم من إدارات الدولة ومرافقها وذلك انطلاقاً من الأبنية الاجتماعية الأهلية نفسها. وقلب الإنجاز العظيم والفريد هو مسخ مباني الدولة كلها، من ألفها إلى يائها وفي المجالات كلها، الى خادم ركام من المنافع المتنافرة والمهربة في قعر «الدولة» المزدوج. ولا يستقيم الاعوجاج العام هذا إلا اذا امحت الحدود بين الحكم وبين المجتمع (أو الجماعات المرتبة على مراتب من العلو والدنو واضحة وثابتة). فبعد ان أنشأت الجماعة «المقاومة» والمستولية جيشها وأمنها وإقليمها وماليتها وقضاءها عمدت الى تخريب نظير هذه المرافق الوطني أو الرسمي. فثبتت تراجع الجيش عن الحدود اللبنانية الإسرائيلية، الى أن أرجعته القوات الدولية إليها غداة عمليات 2006. وقتلت الطيارين الذين حامت طوافاتهم حول معاقل الجيش الأهلي. وأخرجت القتلة من السجن. وأخرجت بعض الموقوفين المستجيرين بـ «أهل البيت» وهم خطباء «القاعدة» على الملأ.
وهي تطلب الى الدولة التنصل من القضاء الدولي والمختلط «بقطع النظر عن الأدلة»، على قول أحد ألسنتهم الحادة. وتقدم الثأر لبعض أدواتها المظنونين الذين تعمدوا تشبيه المسؤولية عن اغتيال رفيق الحريري، واستدرجوا الظن الى تهمتهم بواسطة شهود متطوعين تقدمه على جلاء غموض الجريمة، وتخليص حبكتها الماهرة، وعلى إرساء السياسة العامة في لبنان على القانون. وفي الأثناء، تخول «المقاومة» وزراء خدمات إيداع عوائد وزارة الاتصالات في حسابات منفصلة لا تبلغها وزارة المالية. وتبيح مصادر الجبايات، وأبواب التجارة، لمواليها وأنصارها. وتحول، و «حلفاءها»، دون إقرار الموازنة العامة والمبادرة الى انتهاج سياسة إنفاق واستثمار ملحة. وتحكِّم في تسمية قيادات الإدارة والأمن والخدمات معيار «الأسلاب» الحزبي والغرضي، الى المعيار المذهبي الموروث. وتعطل خلافة القيادات الشاغرة ودوام أدوارها. وتنيط، على مثال إقليمي مدمر، القرارات بشبه إجماع يستحيل التدبير وتصريف الأمور معه. وتنصب بعض شطارها ومخرِّجيها سجانين «تشريعيين«.
ويقود الى هذا كله، وغيره مثله، السعيُ المحموم في إلغاء الحواجز بين (بعض) الجماعات الأهلية المستولية وبين الدولة، والسعي في دمج الدولة في الجماعة المستولية، وإلحاقها بها مرفقاً ثانوياً من مرافقها، بذريعة «المقاومة». ويشبّه السعي شبهاً قوياً إنجازات الدول الانقلابية وطاقمها الحاكم (وبعضها لا يزال انقلابياً على رغم انقضاء نحو نصف قرن على انقلابه الأول). فالجريمة الموصوفة في بعض «الدول» إذا ارتكبها نافذ ثري، وقريب من دوائر السلطة، يميل الناس الى ترجيح «براءة» المحرض على الجريمة ومدبرها وممولها، ويتوقعون تخفيف الحكم في المجرم. وإذا تصدع سد مائي، وانهارت مباني سكن، وغرق عبارون، وسقطت طائرة معطوبة ومثقلة بالأحمال، وأفلست «شركة» مالية وخلفت خسائر بمئات ملايين الدولارات، وسرق حراس قيادي بارز مصرفاً وقتلوا ما تيسر من حراسه، وترك مسؤول منتحر في بلد فقير 52 سيارة رسمية وراءه، – لم تخلف الحوادث الجسيمة التي يقتل بعضُها مئات من التاعسين، وتشكك كلها في حق المواطنين في السلامة والأمن واضطلاع الدولة بهذا الحق، أثراً في علاقة الدولة بالجماعات الأهلية ولا في علاقة «المجتمع» بالدولة. وبعض الحوادث يرتكبه أفراد تحميهم جماعاتهم الأهلية، أو يرتكبه من هم من «عصبية الدولة». وتحمي الجماعات الأهلية المسلحة، بسلاح أهلي أم بسلاح «أميري» لا فرق، منتهكي القوانين على اختلاف مجالاتها، المالية والأمنية والإدارية.
فالدولة «العربية» إذا كانت جهاز سيطرة ضعيف الجذور في الجماعات، واستقوت بكتل الموظفين والمنتفعين وأصحاب المصالح والفرص على مجتمع الجماعات وصدعته بواسطة كتلها وجماعتها العصبية الخاصة، هذه الدولة لا يضطرها شيء أو أمر إلى رعاية موازين التدبير السياسي والوطني، وإلى فصل المصالح العامة والمشتركة عن مصالح الكتل السلكية والعصبية الأهلية. واقتصرت وطنيتها، أو عموميتها، على نفاذ سلطتها الأمنية والإدارية في دائرة أراضيها. وجماعات المجتمعات «العربية» و «المعارضة»، ومعظمها ينتسب الى فرق إسلامية سياسية لا ترى الدولة إلا جهاز استيلاء وسيطرة، ووقفاً على المستولين وجماعتهم. وتسوس الجماعات المعارضة رعاياها، أو «مجتمعها الخاص»، وأجزاء الدولة والمرافق التي تستولي عليها وتقتطعها، بسياسة سلطانية وعرفية يفوق استبدادها وفسادها وتمييزها واطراحها القوانين والمساواة نظيرها الحكومي أو نظائرها أضعافاً. وهي تشق «شعبها» المفترض شقين متقابلين ومتناقضين لا سبيل الى التقائهما وائتلافهما: فتسلط على «الشعب» المفترض معتقداتها وتقاليدها وتواريخها وميولها وأهواءها وروابطها، الى مصالحها. وهذا ما لم تبلغه اجهزة السيطرة الرسمية في مصر والأردن والكويت والبحرين واليمن، على سبيل التمثيل. وبلغه صدام حسين وحده، وفي شخصه وأسرته. ويريد الجهاز الإيراني بلوغه منذ انفجار أزمته مع ولايتي محمد خاتمي، ومشى خطوات على طريقه منذ الانتخابات البلدية في 2002 وانهيار ائتلاف «المشاركة» ثم انتخاب محمود أحمدي نجاد عنوة مرتين.
وحين تخلص طواقم حاكمة، في دول عربية متفرقة، الى سوس انتخاباتها النيابية والبلدية، والمهنية النقابية في بعض الأحيان، بسياسة إدارية وتنفيذية و(جزئياً) أمنية، فهي لا «تعالج» مسألة اختلاف جهاز السيطرة، وكتله ومصالح هذه الكتلة، عن المجتمع وجماعاته المتفرقة. ولا تطمع في دمج «الشعب» في الدولة، على رغم مخايل أهلية كثيرة تلوح على وجه الدولة. فالدمج هذا يقتضي، في بعض ما يقتضي «ناصرية» مقاتلة ومستولية، وحزبية مستحوذة، وقطاعاً عاماً شاملاً، وتعبئة على الجبهات كلها، واستجابة جماهيرية تطيل حال التسليم بانتصار وشيك أو مرئي على خلاف ما يُلمس ويختبر. فهو، والحال هذه، يقتضي تاريخاً آخر غير التاريخ الجاري. والمعارضات الإسلامية السياسية العربية، الإخوانية والخمينية، تحسب أو تشبِّه الحسبان أن في مستطاعها «شراء» التاريخ الآخر، في صيغته الأسطورية، لقاء العمليات الحربية على بعض الحدود «العربية» الإسرائيلية، وهي تحسبها حدوداً إسلامية أميركية غربية، أو جهادية استكبارية. ويضطرها حسبانها، في الأحوال الهوامية القصوى، على ما هي الحال اللبنانية وبعض التجليات العراقية (المنقضية) الى مباشرة تصديع وتدمير عموميين يرميان الى التهام ابنية الدولة، وإذابتها في حامض الجماعة المنتشية بنزيفها ووحدتها وفرادتها. ولبنان «الإسلامي» والمعارض هذا يعيي علاجه محيطه العربي، على ما تدل الـ40 سنة المنصرمة والمنقضية على أزمته المتمادية. ولعل مرد الإعياء الى تمثيله، اجتماعاً وسياسة، على اعتمال عوامل شبيهة بعوامل أزمته في الكيانات العربية الأخرى، ولكنها عوامل مكبوتة. ويسعف لبنان على تحمل الأزمة ما يحول دون انفجارها في الكيانات الأخرى، واستقرارها فيها، هو استواء مجتمع لبناني على أركانه على هامش «السلطنة» وصدارتها «العظمى«.
* كاتب لبناني