قررت دولة الإمارات العربية المتحدة أخيراً حل قضية (البدون) العديمي الجنسية من المقيمين القدامى، وفتحت باب تقديم الطلبات طوال 18 شهراً مضت، ومنحتهم، هم وعائلاتهم جنسيتها، حيث حصل على الجنسية الإماراتية 1294 أسرةً.
أثار النبأ شجون (بدون) سوريا، آلاف من الأكراد السوريين الذين جردهم إحصاء 5/10/1962 الاستثنائي من جنسيتهم السورية، والذين ما تزال السلطة السورية ترفض إعادة الجنسية لهم، هم وأبناءهم وأحفادهم، حتى الآن، رغم انهم مواطنون، أو أصبحوا كذلك بفعل السنيين، بكل ما تعنيه الكلمة، من المشاركة في صنع الحياة بالإنتاج المادي والثقافي إلى دفع الضرائب مرورا بالقيام بالواجبات الوطنية، والالتزام بالقوانين، كما أن عدد منهم كان قد أدى الخدمة العسكرية الإلزامية قبل أن يجرد من الجنسية. ولأنهم بلا جنسيات أخرى صاروا أسرى المكان والقيود الإدارية والسياسية التي ترتبت على التجريد وتبعاته.
وقد درج هؤلاء المواطنون، على إحياء ذكرى الإحصاء المشؤوم عام 1962، في الخامس من تشرين الأول من كل عام، الذي حرمهم وأبنائهم وأحفادهم من حق الحياة الحرة الكريمة، وحولّهم إلى “بدون” على خلفية سياسية هدفت آنذاك إلى تقليص نسبة الأكراد في التركيبة السورية بغية تخفيض سقف مشاركتهم في الحياة العامة والحد من طموحاتهم السياسية والاجتماعية، الأمر الذي أنتج حالة إنسانية شديدة البؤس والتعقيد، حيث غدا هؤلاء المواطنون، بسبب قيود العمل والتملّك والسفر، خارج الحياة الطبيعية وقد امتدت آثار هذه القيود إلى أطفالهم، حيث يقدّر عدد المجردين من الجنسية بعد 4 عقود على الإحصاء بمئات الآلاف.
أفرزت السياسة السابقة، والحزام العربي الذي نفذ بعد سنوات بنقل مواطنين سوريين عرب من منطقة بحيرة سد الفرات في محافظة الرقة إلى الشريط الحدودي السوري التركي العراقي في أقصى شمال شرق سوريا حيث الكثافة الكردية المتصلة بالأكراد على الجانب الآخر من الحدود في تركيا والعراق، نتائج سلبية على مستويات عدة، فهي إذ دمرت حياة هؤلاء المواطنين، دفعت بعضهم إلى مواقف متشددة، تجسدت بمطالبة بعض منهم بحقوق سياسية خاصة مثل الحكم الذاتي أو الفدرالية أو دولة خاصة، فقد قادهم التشكيك بوطنيتهم وولائهم السياسي إلى الإحساس بالمرارة وإلى تحميل العرب مسؤولية ما لحق بهم من مظالم، ما نتج عنه حدوث انقسام في المجتمع السوري بين عرب وأكراد، وهذا، إلى جانب المظالم التي وقعت على قطاعات واسعة من المجتمع السوري بسبب السياسة التمييزية والقمع، أدى إلى إضعاف الاندماج الوطني، وإلى تكريس حالة من التفكك الاجتماعي والعودة بالمجتمع إلى تكتلات عشائرية وقبلية ومناطقية، عرقية وطائفية جعلت التركيبة الوطنية السورية شديدة الهشاشة والخطورة ـ تدين بولائها إلى بنى ما قبل الدولة (العشيرة أو القبيلة).
لم تجد السلطة السورية ما يبرر بقاء حالة الحرمان من الجنسية طيلة هذه المدة، إلا التذرع بأولوية ملفات أخرى، وبثانوية هذا الملف أمام ملفات أخرى أكثر أهمية و”خطورة” مثل الصراع العربي الإسرائيلي، الهجمة الأميركية، وكون البلاد في حالة حرب لا يستوي معها ـ من منظور وطني/بعثي ـ فتح ملفات أخرى أقل أهمية كملف المجردين من الجنسية، ناهيك عن ملف حقوق الإنسان وملف الديمقراطية وحرية الرأي والتعبير، ذرائع غدت ممجوجة وفقدت مصداقيتها وقدرتها على الإقناع وقد استخدمت كثيرا لقمع المواطنين السوريين عامة والنشطاء السياسيين والحقوقيين بخاصة، أو التذرع بضرورة التأني بدراسة الملف، الذي لم تنته دراسته منذ أربعة عقود ونصف العقد، طبعاً مع التأكيد الدائم على عزم السلطة حل القضية، وعلى بساطة القضية أصلاً فـ “القانون موجود… وهي قضية بسيطة” على حد تعبير رئيس الجمهورية في خطاب القسم الثاني.
تتلخص بساطة القضية بحرمان ما يقارب من 300 ألف كردي سوري من حقوقهم، ومن حياتهم عملياً، من حقهم في المواطنة إلى حقهم في التعليم مروراً بحقهم في العمل الوظيفي والتملك، دون نسيان حرمانهم من الرعاية الصحية واستحالة تسجيل زيجاتهم، الأمر الذي نتج عنه، بعد الولادات، زيادة عدد المجردين من الأطفال الذين يمنع تسجيلهم أيضاً، وبتجاهل القانون الدولي (وقانون الجنسية السوري أيضاً) الذي يمنح المقيمين في دولةٍ ما حق الحصول على جنسيتها بعد مرور فترة زمنية تختلف من دولة إلى أخرى، لكنها لا تصل إلى عدة عقود، إذ أصبح من حق هؤلاء المجردين وفقاً للقانون الدولي، حتى لو سلمنا بادعاء السلطة أنهم لم يكونوا سوريين آنذاك، وهذا أمر مشكوك فيه في حالة معظم المجردين، الحصول على الجنسية السورية.
لا يوجد حل عملي للمجردين من الجنسية إلا الاعتراف بهم ودمجهم في المجتمع وتسوية أوضاعهم والاستفادة منهم كمواطنين منتجين، واستيعابهم وتحويلهم ـ بإعادة الجنسية إليهم ـ إلى مواطنين كاملين لهم الحقوق نفسها وعليهم نفس الواجبات، بدلاً من تحويلهم ـ وتحويل حياتهم ـ إلى كابوس مرعب. ولسوف تكتشف السلطة فيهم إضافة ايجابية لبلدانهم بدلاً من اعتبارهم عبئاً عليها، الأمر الذي لا يحتاج ـ كما بات واضحاً ـ إلا لقرار سياسي.
دولة الإمارات اتخذت قرارها الوطني، فتحول “البدون” فيها إلى مواطنين، فمتى يتحول “بدون” سوريا إلى مواطنين؟؟
ma.abdallah2007@gmail.com
(*) كاتب وناشط حقوقي سوري
(المستقبل)