مونترو الواقعة على ساحل الريفييرا السويسري، ومقر مهرجان الجاز الشهير، شهدت يوم الأربعاء 22 يناير عزفا من نوع آخر في افتتاح «مؤتمر جنيف 2» حول الأزمة السورية. وهذا الحشد الدبلوماسي النادر لكبار العالم والمعنيين بهذا الملف، تصادف انعقاده مع التئام دورة جديدة من منتدى دافوس الاقتصادي في جبال الآلب. هكذا تجذب سويسرا المحايدة الأنظار لتصبح عاصمة العالم السياسية والاقتصادية لبرهة من الزمن لعل مصيرا أفضل لسوريا والمشرق، بعد تسعين عاما على اتفاقية لوزان (ترسيم حدود دول في الإقليم عام 1923)، يرتسم بين جبالها وبحيراتها، وبعد أقل من قرن على أفول الحقبة العثمانية وتكريس غلبة الأوروبيين ووأد “المملكة السورية العربية” في المهد.
هذه المرة في عاصمة أوروبية، لا يقود اللعبة في هذا القرن منتصرو بدايات القرن الماضي، بل نعود نحو الثنائية وكأننا في الحرب الباردة. تحت رعاية الأمم المتحدة الرمزية، يقود أوركسترا مونترو وجنيف العرّابان وضابطا الإيقاع الأميركي جون كيري والروسي سيرغي لافروف. لم تكن ولادة هذا الحدث يسيرة، إذ تطلبت حوالي سنة ونصف من المناورات والتجاذبات سال خلالها شلال الدم، وزادت المعاناة من الكارثة الإنسانية وتحول النزاع السوري إلى أول نزاع إقليمي- دولي متعدد الأقطاب في القرن الحادي والعشرين.
قبل يومين من الاستعراض السياسي- الإعلامي في مونترو، كادت مسألة دعوة إيران أن تنسف أو تؤخر الموعد المنتظر، وهنا ينكشف ميزان القوى الحقيقي على الساحة الدولية. لم تتمكن روسيا الاتحادية من تمرير مناورتها لأن فرنسا والمملكة العربية السعودية كانتا يقظتان، ولأن واشنطن التي كانت تخشى ضياع جهدها طلبت إعلانا، ولو من على رؤوس الشفاه، توافق فيه طهران على محددات جنيف 1، كما استنتج الأمين العام للأمم المتحدة بان كي مون من خلال مداولاته مع وزير الخارجية الإيراني محمد جواد ظريف. ومن الواضح أن المرشد الأعلى آية الله العظمى السيد علي خامنئي هو الذي يقرر ولا ينوي أبدا التخلي عن الورقة السورية. ولذا ضحّت موسكو بحضور طهران، واعتبرته مجرد خطأ لأنه ليس هناك من تناغم كامل بين الطرفين إزاء مستقبل الرئيس السوري وشكل المرحلة الانتقالية. ومن دافوس أتت الكلمة الفصل للرئيس الإيراني حسن روحاني الذي اختصر اقتراح الحل في سوريا في إجراء انتخابات حرة في بلد ربع سكانه مشرد وبنيته مدمرة والنزاع الأهلي فيه مستشر تحت سطوة آلة التسلط وغول العنف. هكذا عكس ما كان يتعجل البعض في استنتاجاته، ليست هناك حتى الآن صفقة شاملة أميركية- إيرانية تبعا للاتفاق النووي المرحلي، ولا يزال الدور السعودي وازنا عندما يتصل الأمر بخيارات واشنطن في قضايا مشتركة.
في قاعة فندق قصر مونترو كان من المهم التقاط الإشارات المعبرة في المهرجان الخطابي الافتتاحي. لوحظ من خطاب لافروف استمرار روسيا في دعم النظام بشكل واضح ورزين دون إصرار، مما يترك اللعبة مفتوحة ولو على المدى المتوسط. في المقابل كلمة كيري كانت حازمة حول نزع شرعية الأسد في تكرار لمواقف سابقة مع التلويح بخيارات بديلة، وهذا التلويح دبلوماسي الطابع من أجل عدم إفشال المسار ولأن ذلك يستدعي تأييد أوباما وعدم عودة فرض الفيتو في مجلس الأمن. ومقابل «استفزاز» المعلم، لفت الأمير سعود الفيصل النظر بتوجهه إلى رئيس الائتلاف المعارض بلقب فخامة الرئيس، أما لوران فابيوس فبرهن عن صلابة الموقف الفرنسي مع ترويجه للقبول بمقاربة واقعية من أجل تحديد سقف زمني لمسار معقد لأن الجربا كان على حق في قوله إن “ثمن وقت السوريين دم”.
مع انتقال الوفدين السوريين إلى جنيف بدأ وقت الجد ولحظة الحقيقة المنتظرة. للوهلة الأولى، كل مناورات النظام لتحريف المؤتمر عن هدفه والالتفاف عليه لحصره في الشأن الأمني لم تفلح. وعلى عكس إشارات مرتبكة ومتناقضة بين أعضاء وفد النظام (بثينة شعبان تقول إنها جاءت فقط لبحث الحرب ضد الإرهاب، بينما يقول فيصل المقداد إن سوريا موافقة على جنيف 1)، بدا موقف الائتلاف متماسكا لجهة الإصرار على التزام واضح ببحث مسألة تشكيل هيئة الحكم الانتقالي، وبعدها إجراءات عملية مثل عمليات وقف إطلاق نار وتبادل معتقلين وإدخال مساعدات إلى المناطق المحاصرة.
في أحسن أحواله، إذا تيسر لمؤتمر جنيف 2 الاستمرار في أعماله لن يقود إلا إلى ترتيبات مؤقتة وهشة، وليس من الضرورة أن يضع اللبنات لحل سياسي متوازن يحفظ ما تبقى من سوريا ووحدتها ودولتها. سيتوقف الأمر على تغيير في الموقف الروسي وعلى مقاربة أميركية أجرأ وهذا لا يبدو في متناول اليد. ولذا نخشى ألا تكون الحوارات أو التجاذبات على ضفاف بحيرة ليمان ثرثرة دون طائل في ظل نكسة الحوكمة العالمية وغياب الزعامة الدولية وعدم توافر حد أدنى من التوافق الإقليمي.
khattarwahid@yahoo.fr
أستاذ العلوم السياسية، المركز الدولي للجيوبوليتيك- باريس