كتب المحرر الدبلوماسي لصحيفة “الواشنطون بوست” والأكاديمي المتخصص في العلاقات الأمريكيةالآسيوية “وليام وان” مؤخرا مقالا في صحيفته جاء فيه أن الصين تسعى إلى حماية وتعزيز وسائل وصولها إلى مصادر الطاقة في الشرق الأوسط وذلك من أجل ضمان إزدهارها ونموها الإقتصادي المتصاعد. وبطبيعة الحال فإن هذه المعلومة معروفة ولا تحمل جديدا، لكنها تفتح بابا للتساؤل عما يجب على بكين أن تتبناه من مواقف سياسية تجاه المنطقة العربية بصفة عامة ومنطقة الخليج بصفة خاصة كثمن مقابل تدفق النفط والغاز عليها من دول الخليج العربية تحديدا.
فالسياسة الخارجية الصينية تستند إلى برغماتية فجة، تبعث على الكثير من الحيرة، بل إنها تبدو في أحايين كثيرة كما لو كانت غير مكترثة بمصالح بلدها على المدى البعيد. ويمكن في هذا السياق طرح أمثلة عديدة، إبتداء من موقف بكين إزاء ثوار ليبيا في خضم انتفاضتهم ضد نظام العقيد القذافي، ثم موقفها الغبي الحالي في مساندة النظام السوري المجرم، دعك مما تقدمه لنظامي طهران وبيونغيانغ المارقين من أسباب الحياة عبر الإلتفاف على القرارات الدولية بطرق ملتوية.
قد يبلع المراقب بمرارة مواقف بكين ازاء نظام “آل كيم” الستاليني في بيونغيانغ، ويفهمه من باب التقاطع الايديولوجي او العداء المشترك ضد واشنطون أو إغاظة الكوريين الجنوبيين، لكن كيف يمكن تفسير سياسة المناورة والإزدواجية (قول شيء ثم الاتيان بعكسه) التي تتبعها بكين إزاء دول الخليج العربية التي تمدها بالجل الاعظم من حاجاتها من الطاقة، بل التي يمثل إستقرارها وسلامتها عاملا حيويا لإستمرار نمو الصين إقتصاديا.
وإنطلاقا من الحقيقة التي أنهينا بها الفقرة السابقة، فإن على دول الخليج العربية الست أن تقوم جماعيا بإتخاذ موقف أكثر تشددا حيال سياسات بكين الخارجية ذات الصلة بإنقاذ إيران من ورطتها مع المجتمع الدولي، وبتسهيل الطريق أمامها للإلتفاف على العقوبات الاممية المفروضة عليها. وبعبارة أخرى، تستطيع دول مجلس التعاون – إنْ أرادت – أن ترسل رسالة واضحة إلى الصينيين الباحثين عن كل قطرة من النفط وكل مترمكعب من الغاز، أنها لن تكون بديلة عن طهران لجهة امدادات الطاقة، أو لجهة إستقبال إستثماراتهم ومشاريعهم وبضائعهم، إنْ لم يتخلوا بوضوح عن سياسات اللف والدوران فيما يتعلق ببرنامج طهران النووي والعقوبات الدولية المفروضة عليها، أو فيما يتعلق بالدفاع عن ممارسات حلفاء طهران في المنطقة العربية وعلى رأسهم نظام الأسد المترنح.
ورغم اني اشك كثيرا في اقدام دول التعاون الخليجي على مثل هذه الخطوة، هي التي لم تحرك ساكنا حينما رضخت بكين لمطلب ايراني بتغيير مسمى الخليج من عربي الى فارسي اثناء أولمبياد 2008 التي استضافتها الصين، فإن إشتداد الخناق على النظام الإيراني بسبب تزايد العقوبات الدولية عليها وعلى من يشتري نفطه او يساعده ماديا وتكنولوجيا من جهة، وتخوف الصينيين من إنقطاع إمدادات الطاقة بسبب غرور وعنجهية طهران حيال جاراتها وتهديداتها باغلاق مضيق هرمز، قد خلق وضعا جديدا بالامكان إستغلاله للضغط على بكين كي تغير سياساتها المؤيدة لإيران وحلفاء الأخيرة، خصوصا مع وجود شبه حالة مستجدة من القلق والتذمرفي أوساط القيادة الصينية إزاء التداعيات المستقبلية لتصرفات النظام الايراني الهوجاء. وتتجلى حالة القلق في قيام بكين في الأشهر الأخيرة من عام 2012 بإرسال وفود إلى دول الخليج العربية للإتفاق على صفقات نفطية طويلة الاجل كتعويض لإنخفاضات قسرية في معدلات وارداتها من الطاقة من إيران. أما حالة التذمر فقد تجلت في إرسال الصينيين لرسالة إلى الإيرانيين مفادها ضرورة عدم المس بإستقرار وأمن مضيق هرمز الحيوي لوارداتهم وصادراتهم، كما تجلت في ما تناقلته الأخبار عن قيام الرئيس الصيني “هو جينتاو” بحث نظيره الايراني “محمود أحمدي نجاد” حينما إلتقيا في أواخر العام المنصرم على ضرورة تبني طهران لمواقف أقل حدة وتشددا فيما يتعلق ببرنامجها النووي أثناء إجتماع ممثليها مع ممثلي وكالة الطاقة الدولية ومجموعة (5+1)، أي الأعضاء الدائمون في مجلس الأمن وألمانيا، علما بأنه لا يمكن الوثوق بتلك الأخبار لأن الصينيون إعتادوا أن يقولوا لحلفائهم شيئا داخل القاعات المغلقة، وشيئا آخر في القاعات المفتوحة، على نحو ما درجوا على فعله مع الكوريين الشماليين.
والمعروف أن إيران بمجرد نجاح ثورتها الخمينية أطلقت شعار “لا شرقية ولا غربية، بل جمهورية إسلامية” إستجابة لأصوات جماهيرها التي كانت وقتذاك معترضة على سياسات الشاه الراحل المتماهية مع الاستراتيجيات الغربية. وهكذا عمدت إلى توطيد روابطها مع مجموعة من الدول النامية الكبرى، لكن مع إيلاء أهمية خاصة للصين التي كان الشاه هو أول من سمح لها بموطيء قدم في منطقة الخليج. وقد تم كل ذلك وفق مبدأ التوجه شرقا الذي صار ركنا من أركان السياسة الخارجية الإيرانية، خصوصا مع تدهور علاقات طهران مع الغرب. وقد إتخذ هذا التوجه زخما أكبر مع مجيء “محمود أحمدي نجاد” إلى السلطة، والذي خالف سلفيه رفسنجاني وخاتمي اللذين تفاديا حرق كل الجسور مع الغرب الصناعي، والذهاب بعيدا في معاداته وإثارته.
أما الصينيون فقد غمرتهم السعادة جراء هذا التوجه الإيراني، لعلمهم أن إيران هي كبرى دول الشرق الأوسط لجهة الإحتياطات النفطية، وثاني أكبر دولة لجهة إحتياطيات الغاز الطبيعي، فتمادوا في إطلاق مشاريعهم وإستثماراتهم في إيران ولا سيما تلك المتصلة بالبحث والتنقيب عن النفط والغاز(خصوصا في حقل بارس الضخم)، بل زادوا على ذلك بمد طهران بمساعدات تقنية وعلمية في مجالات تطوير القدرات النووية والصاروخية، وبناء السفن الحربية، وناقلات النفط، وتطوير البنى التحتية.
وقتها لم تكن بكين تتوقع ان ترتكب طهران حماقات تجعل المجتمع الدولي يقف لها بالمرصاد من خلال حزم متتالية من العقوبات التي باتت تطال أيضا المتعاملين معها والمزودين لها بأسباب الحياة. لكن بما أن المستبعد في نظر الصينيين، ونعني به عقوبات أممية تحول دون وصول النفط والغاز الإيرانيين إلى الصين، قد صار حقيقة واقعة، وبما أن مخالفة الصين لتلك العقوبات تجعلها معرضة هي الأخرى لعقوبات معطوفة على غضب الولايات المتحدة الإمريكية التي تعتبرأكبر مستورد عالمي للسلع الصينية المصنعة وأكبر مستثمر أجنبي في الأراضي الصينية، فإن الصينيين اليوم أمام مأزق كبير، دفعهم – كما أسلفنا – إلى خطب ود دول الخليج العربية لتعويضهم عن وارداتهم النفطية من إيران. فهل تستجيب دول الخليج العربية للطلب الصيني دون مقابل سياسي؟ هذا هو السؤال!
• باحث ومحاضر أكاديمي في الشأن الآسيوي من البحرين
elmadani@batelco.com.bh