إستماع
Getting your Trinity Audio player ready...
|
يشكل ثالوث الدين والمال والسياسة، سلاح رجال الدين في إيران للسيطرة على البلاد ووأد أي محاولة تغيير تستهدف السلطة الدينية الحاكمة، التي لم تكن لتصل إلى مثل هذا النفوذ لولا الاستياء العام، أولا من الإنكليز، ثم من سياسة القاجاريين الذين ساعدوا رجال الدين على الانقلاب عليهم وإحلال آل بهلوي محلهم. ثم انقلبوا على الشاه، وقادوا الثورة الإسلامية، مستغلين سلطتهم الدينية ونفوذهم الاجتماعي والمالي وتأثيرهم السياسي.
فما هي تفاصيل تمكينهم من الدولة؟
تمتّع رجال الدين في إيران، منذ أواخر القرن الثامن عشر، بمكانة هامة تجلّت بالأساس في أدوارهم المؤثّرة على المسرح السياسي. وتوصلوا لأن يتمتعوا باستقلالية إزاء الدولة والمجتمع معا. وصار بإمكان آيات الله أن يفتوا في سائر الأمور، وهذا يعني، في مجتمع إسلامي متدين، أولويّتهم بالنسبة إلى السلطة السياسية.
ربما يعود تمكين نفوذهم، في جزء منه، إلى السياسة التي اتبعتها الدولة العثمانية التي لم تعترف بالشيعة كملّة؛ ما سمح لرجال الدين بالقيام بتدبير أمور تابعي المذهب الشيعي بشكل مستقل عن هذه الدولة، بسبب إهمالها لهم وعدم الاعتراف بهم.
لكن الجزء الآخر والأهم يعود إلى خصوصية نشأة الدولة الصفوية وتطورها.
حصل تمكين رجال الدين الإيرانيين على مرحلتين؛ المرحلة الأولى، عن طريق السلطة السياسية، عندما فرضت السلالة الصفوية التشيع على إيران السنية بالقوة، وذلك إبان حكم القاجاريين من أواخر القرن الثامن عشر وحتى العام 1924. أما الثانية فمن فعل رجال الدين أنفسهم الذين قاموا بدور مميز طيلة القرن التاسع عشر، وعملوا على تنظيم تراتبية الهيئة الدينية الشيعية وتقويتها وقوننتها.
وخلال هذه المرحلة، أنشأ رجال الدين مراتب بطبقات ثلاث: حجة الإسلام وآية الله وآية الله العظمى. وهذا الترتيب الداخلي عزّز سلطة شاغلي هذه المراتب على رجال الدين العاديين، وفي الوقت نفسه قوّى سيطرة حاملي الرتب الدينية العليا على سكان الإمبراطورية. وهكذا فإن سلطة مضادة بدأت تتركز في البلاد، وهي سلطة قوية بمقدار ما هي مستقلة ماديا.
من الدين إلى السياسة
بعد ضعف الدولة (شبه المستعمرة من الإنكليز)، وجد رجال الدين أنفسهم يخرجون من الدائرة الدينية ليدخلوا الدائرة السياسية، عندما قاموا بمواجهة احتكار زراعة التبغ من قبل الإنكليز؛ التدبير الذي اعتبره الشعب إهانة. وهذا التدخل الفاعل لرجال الدين نقلهم من طور القوة الدينية ليصبحوا ضمانة للنزاهة وحقوق الأمة في وجه السلالة المتداعية.
وابتداء من هذه المرحلة أخذت هِبات الشيعة من خمس وزكاة وإرث وأوقاف تذهب إلى رجال الدين من دون المرور بالدولة. وهكذا نالوا حظوة فائقة في القرن التاسع عشر، لأن هذه الأموال والأوقاف كانت توزع على المحرومين بإشرافهم وتستعمل لإنشاء المدارس القرآنية.
ومع هيكلة الهيئة الدينية، وتأطيرها وتحديد مسؤولياتها ودورها في العمل الاجتماعي، وجدت نفسها في موقع قوة؛ إضافة إلى أنها صارت تستدرّ تقوى الجماهير، بتشجيعها زيارة أضرحة الأئمة كما لجأت إلى تشجيع ما يمكن أن يسمّى بالتأطير والاحتضان الاجتماعيين من خلال مجالس التعزية، مدعمة سلطتها على الجماهير، عن طريق المسرح الديني من خلال تمثيل كربلاء واستشهاد الحسين.
فربطوا الناس بهم باستدرار العاطفة الشعبية والأحاسيس الدينية حول مأساة كربلاء وتكرار تقديمها للناس. وبدا رجال الدين الشيعة أمام الجماهير وكأنهم ضمانة العدالة والحقيقة إزاء أي شكل من أشكال الطغيان. وهكذا سيفرض رجال الدين أنفسهم كسلطة مضادة إزاء السلطة القاجارية الواهنة.
أما المرحلة الثانية فحصلت في العام 1906. وفي تلك الفترة كانت العناصر المتنورة في المجتمع الفارسي، التي تستوحي الأنظمة الغربية، تحاول إيجاد دستور في الإمبراطورية القاجارية، وإنشاء مجلس نيابي والقيام بإصلاحات تحد من السلطة التشريعية المحصورة برجال الدين. في المرحلة الأولى خضع الشاه للإصلاحيين وسلّم بالإصلاحات تحت ضغط السلاح. لكن رجال الدين ما كانوا يرغبون بعصرنة إيران. ففجرّت هذه المطالب، الأزمة الدستورية -كما سميت في إيران- وانتهت بانكفاء رجال الدين وتراجعهم.
وأدّى الاستياء العام للطبقة السياسية ورجال الدين إلى الانقلاب على القاجاريين فأزيلت السلالة القاجارية وحل آل بهلوي. ووصل العقيد رضا خان، على رأس السلطة. وأعلن طرد المحتلين الأجانب مستندا إلى جيش قوي، مهمّته مقاتلة القوى الأجنبية وخنق الانتفاضات الداخلية المتتالية.
كان الشاه يسعى إلى وضع بلاده على طريق الحداثة متأثرا بتجربة تركيا. وكان هدف الشاه، أيضا، إرساء دولة على الأسس التي تقوم عليها الدولة الغربية مع الحفاظ على الخصوصية الدينية الشيعية. لكن إرادته في تحديث الدولة اصطدمت بمقاومة رجال الدين. لأن هذه الاندفاعات بلغت حدا لم يقبله رجال الدين بسهولة، خاصة قراره أو غلطته المميتة في فرض منع ارتداء الحجاب بالقوة. وهكذا احتفظ رجال الدين بتأثير كبير على الجماهير. وقاموا بثورتهم تحت قيادة الخميني.
ملاحظة: سجلت هذه الحلقة في الوقت الذي احتفل فيه الشعب السوري بالحرية.. فألف مبروك وعلى أمل التوصل إلى حكم تشاركي ديموقراطي