جرت الأمور فى مصر، على اضطراب وغموض، إلى أن وصلت – حتى الآن – إلى مسارات ثلاث، قد تنتهى إلى نتائج جدّ وخيمة.
هذه المسارات تتحدد فيما يلي:
أولاً: فتح ملفات الأشخاص المرشحين للرياسة، وفتح ملفات الجهات المعاونة لهم، بما يُسمى – إعلامياً – بفتح الصناديق السوداء.
ثانياً: الخلط بين الفقه الثورى والفقه الدستورى أو فقه الدولة.
ثالثاً: الركون إلى العنف المنظّم الذى قد يكوّن بلطجة سياسية تتمسح بالدين وتلتحف بالشريعة، بدلاً من التنازع القانونى والتشريعى الذى يرتضى حكم القضاء، باعتباره الحل النهائي –فى الدول المتحضرة – لأى نزاع قانونى وأى صراع مادى.
أ.. وعن فتح ملفات الأشخاص المرشحين لرياسة الدولة، فهو أمر ضرورى ولابد منه، على أن يحدث فى مجال من اللياقة واللباقة والتهذيب ويتضمن حقائق وليس إدعاءات. ذلك بأنه من حق الشعب أن يتعرف على من يتقدم إليه بطلب التصويت له، فيتحقق من قدرته وكفايته ونزاهته، بتقديم وقائع وليس باللجوء إلى الأسلوب الدعائى الرخيص والقول الكاذب المبتذل.
وما دام هذا الأمر يقتضى – فى تقدير البعض – عزل من يسمى بالفلول الذين ساهموا فى الفساد الذى إتسم به العهد البائد، فإن النظر السليم فى هذا المضمار لابد أن لا يقف عند الوظائف التنفيذية، لكنه يتعين أن يمتد ليشمل التمثيل النيابى، ذلك لأن مجلسى الشعب والشورى كان لهما أبلغ الأثر فى ترسيخ الظلم والفساد وتعضيد الطغيان والجبروت.
ففى انتخابات مجلس الشعب التى تمت عام 2005 كان للأخوان المسلمين حوالى 80 عضواً، ومن ثم فإنهم يكونون مساءلين عما أبرمه مجلس الشعب فى الدورة بين 2005 حتى 2010 من قوانين وقررات، وتشمل المسئولية عملهم الإيجابى كما تشمل فعلهم السلبى – بالإمتناع عن قول الحق أو تقديم مشروعات بقوانين تكون ضرورية ولازمة لإحقاق العدل الإجتماعى ومنع ظلم السلطة وتحيّف الإدارة.
• فوجود أعضاء كثْر لجماعة الإخوان المسلمين فى مجلس الشعب الزائف أضفى شرعية على المجلس الذى كان ليكون بغير شرعية لولا وجودهم، وأضفى دستورية على نظام الحكم يخوله حق الدوام؛ وهو ما يعنى الإشتراك السلبى فى كل الخطأ الذى صدر عن النظام أو فَصَل عن السلطة التشريعية التى كان يستند إليها – ففعل الإخوان المسلمين يكون إشتراكاً بالسلب فى منع الحق وبسْط الظلم، والساكت عن الحق شيطان أخرس.
• وهذا المجلس هو الذى أقر أسوأ تعديلات للدستور قصد تمكين الإبن من وراثة الدولة. ولم يكن يكفى لإحقاق الحق أن يمتنع أعضاء الإخوان المسلمين على التصويت – إن أدعوا ذلك – بل كان عليهم لو كانوا صادقين أن يذودوا ولو بدمائهم عن حق الشعب الذى بدأ يتآكل إثر تقنين مشروع التوريث، خاصة وأن ذلك كان يتعارض ويتناقض مع الدستور الذى أقسموا بالحفاظ عليه.
• وفى فترة وجود هذا المجلس 2005 – 2010 – صدرت أسوأ القوانين التى مكنت للفساد بالإستيلاء على أراضى الدولة، وتخصيص (خصخصة) بعض المشروعات ببيعها بثمن بخس، والقضاء على صناعة النسيج أهم صناعة فى مصر، وإستمرار تعويم الجنية – الذى أدى إلى خفض إيرادات أغلب أفراد الشعب إلى النصف، كما أنه أثرى إلى درجة كبيرة أولى الحظ الذين علموا بالأمر قبل حدوثه. يضاف إلى ذلك تضخيم الأسلوب الإحتكارى لبعض السلع المهمة كالحديد والأسمنت، والتصرف فى الأراضى البكر بمبالغ رمزية؛ إلى غير ذلك مما يطول حصره.
• وقد أقروا فى هذه الفترة خمس موازنات (ميزانيات) على الأساس المخطئ الذى إبتدعه نظام الحكم الإنقلابى، بالموافقة على الموازنة أو رفضها (وهو ما لم يحدث أبداً)؛ مع أن رقابة مجلس الشعب للموازنات هى الأساس فى وجوده، وفى ذلك تقول القاعدة:
No Taxation Without Representation
أى إنه لا يمكن فرض ضريبة إلا بعد وجود تمثيل نيابى عن الشعب.
• ولم يحاول أعضاء الإخوان المسلمين فى مجلس الشعب المشار إليه إلغاء أو تعديل قانون الطوارئ، الذى كانوا يسامون العذاب عبر تطبيقه عليهم؛ ولم ينقذهم منه إلا القضاه الشرفاء المدنيين.
• هذا بعض تاريخ الإخوان المسلمين حين اشتركوا بأعضاء منهم فى المجالس النيابية، وبالذات المجلس الذى إستمر من 2005 حتى 2010. وعن السيد المسيح أنه قال: من كان منكم بلا خطيئة فليرمها بحجر.
ب.. تبدأ الثورات بلا فقه، لكن بفعل منظم ممنهج يعمل على تحقيق أهداف معينة، وفى هذه الفترة فإنها لا تتقيد بفقه الدولة التى قامت لهدمها. وبعد أن تصل الثورة إلى هدفها أو إلى شطر منه فإنها تتحول إلى فقه الدولة بدلاً من فقه الثورة، ومالم يحدث ذلك فإن النتيجة تكون إستعمال وسائل الدولة (ومنها سلطة التشريع) فى أعمال مجانبة لإستقرار الدولة ومؤديه إلى إستمرار الثورة، وهو وضع خطير، يؤدى لا محالة إلى عدم إستقرار الدولة وعدم إستمرار الثورة، وإنما نشوء وضع هجين تكون سلطة الدولة فيها قلقة ويكون العمل الثورى ضد نفسه.
وعند مناقشة مجلس الشعب الحالى لقانون منع الفلول من الترشح للرياسة، نبه وزير العدل وبعض المشرعين إلى أن بالقانون عوار دستورى، لأنه لا ينطوى على قواعد عامة، بل يصدر من أجل شخص أو شخصين. فى هذا المناخ الواضح الصريح، قال أحد أعضاء المجلس: إننا فى ثورة لا نلتزم فيها القواعد القانونية ولا الفقه الدستورى. ومؤدى هذا الفهم والتقدير أن عمل مجلس الشعب يخالط ويداخل بين العمل الثورى الذى لابد أن يكون بعيداً عن المجلس التشريعى وبين الفقه الدستورى أو فقه الدولة الذى لابد أن تلتزمه وتتبعه المجالس التشريعية، حتى وإن كانت باقى أهداف الثورة لم تتحقق. ففى الميدان يكون الفقه الثورى وفى البرلمان يكون الفقه الدستورى.
ج.. فى سبتمبر 1952، وبعد بدء إنقلاب 23 يوليو 1952 بأقل من ثلاث شهور، نشر أستاذ جامعى مقالة فى جريدة الأهرام المصرية، أقامها على ما سماه الفقه الثورى، مدعياً أن هذه الفقه يجيز للإنقلاب (الذى سُمىّ بعد ذلك ثورة تزييفاً وتزويراً) أن يتخذ أى إجراء أو يصدر أى قانون دون إلتزام منه بالقواعد الدستورية؛ لأنه لن يحقق أهدافه وأغراضه إن إلتزم هذه القواعد ولم يتحلل منها بما سماه الفقه الثورى.
أنس الإنقلابيون إلى هذا التخريج المرهق، ما دام يجيز لهم أن يتحللوا من القواعد المستقرة – دستوراً كانت أو قوانين أو إجراءات – فلجأوا لها وتمسكوا بها. منذ هذا الوقت وإلى الآن سقط حكم القانون نهائياً، وتوارت مبادئ الأخلاق وآداب السلوك وعفة الحديث، وأصبح الأمر موكولاً إلى الإدارة، التى غالباً مالا تكون متوازنة، وإلى عُنف القول وفُحش الحديث، على تقدير أن هذا الإتجاه المتدنى البذئ هو ما يمكن أن يؤثر على حشد يجتمع فى ميدان أو ساحة أو فى حشود تحلل إليها الشعب، ولم يعد له وعى صحيح. وإستمر الحال وزاد وإشتد، مادام لا يجد من لا يقفه (يوقفه). وصدر قانون يسمى قانون البلطجة مما يفيد أن البلطجة صارت ظاهرة عامة تحتاج إلى قانون يعالج آثارها، ولم تعد عملاً فردياً يمكن أن يعالج بعيداً عن القانون، بالتربية أو بالنهج المهذب الرفيع للقادة وكل من يأتم بهم المجتمع.
وأصبح الكذب وقلب الحقائق أسلوباً عادياً، ربما ارتآه البعض قوة.
ووصل الوضع إلى قلب المسائل على عقبيها. فالذى يحصل على شئ بغير الحق يرفع جهيرته بإمتداح العدل ، والذى يخسر شيئاً بحق يلوح بالقوة وهو يشجب الظلم.
وفى هذا الغبار والعوار تاه الشعب بين الحق والضلال، بين العدل والظلم، بين السديد والخاطئ، وسوف يتزايد الغبار حتى يصبح ظلمة خانقة.
ويتكاثر العوار إلى أن يتوراى السلام ويصبح أمرا من الماضى يجهله أغلب الناس .
إن المشكلة – فى الحقيقة – مسألة أخلاقية تتعلق بالتربية.
هذه هى الحقيقة التى لا بد أن تكون واضحة ظاهرة كالشمس فى يوم لا غيوم فيه. لابد من التربية الصحيحة والتنمية السديدة لتكوين الخلاق السليمة والضمائر الحية والنهج المتزن والتصرف العادل، وبغير ذلك فلا فائدة على الأخلاق.
الأمر كله يتحدد فى عبارة واحدة: إما الضمائر وإما المقابر.
saidalashmawy@hotmail.com
القاهرة
ماذا يجرى فى مصر؟ (21)
بدات مصر تعرف التربية السليمة فى ال 30 سنة السابقة على انقلاب 52 فيما يعرف ب الحقبة الليبرالية والتى توجت ب دستور 23 والذى اقر بان الملك يسود ولا يحكم وانطلقت مصر بقيادة مصطفى النحاس العاشق للديموقراطية وكانت على وشك جنى ثمار مجهود ابنائها المحبين لها –الا ان زلزالاحدث وهو انقلاب يوليو فسادت الانانية وارتفعت راية الاكاذيب خفاقة وضاعت التربية على ايدى عسكر الكوارث –شكرا لكاتبنا العظيم ونحن فى شوق لمتابعة دراستة الرائعة
ماذا يجرى فى مصر؟ (21)
سيدى الفاضل:
التربية الصحيحة التي تنادى بها تحتاج لأساتذة ومدرسين هم إنفسهم تربوا التربية الصحيحة، وهذا في نظرى غير متوفرإلا في أفراد قلائل، لن يمكنهم التأثير الفعال علي شعب يزداد تعداده بأكثر من مليون نسمة في السنة. ولهذا فإنه لا يكفي القول بأن المجتمع المصرى محتاج للتربية الصحيحة دون الإفصاح عن الطريق الذى يمكن الوصول للنتائج المنشودة.