من يحترف الكتابة يعرف صعوبة الكتابة الساخرة التي تمتزج فيها روح الكوميديا مع تمرد كامل وجاد على الأوضاع التي يلاحظها الكاتب الساخر. قال الكاتب الأردني يوسف جيشان عن هذه الكتابة: “هي سلاح الشعب الضعيف في مواجهة الغاشم، وهي سلاح الطبيعة الفعال ضد القتامة والفساد والخواء، وهي سيف يعيد الأشياء إلى حجومها الطبيعية ويفقع بالونات الدعاية الفجة ويطهر الأمكنة من فسادها”. كما أن علم النفس في أحد فروعه تحدث عن الكتابة الساخرة واصفها بأنها سلاح ذاتي يستخدمه الفرد للدفاع عن جبهته الداخلية ضد الخواء والجنون المطبق، إذ إن السخرية رغم هذا الامتلاء الظاهر بالمرح والضحك والبشاشة، إلا أنها تخفي خلفها أنهاراً من الدموع.. إنها مانعة صواعق ضد الانهيار النفسي.
وحين قرأت هذا التعريف في علم النفس أدركت تماما ما كتبه ويكتبه الزميل الكاتب الصحفي ماجد سمير في معظم كتاباته وآخرها كتابه الصادر حديثا-بريشة الزميلة الفنانة هبة عادل- عن دار أكتب للنشر والتوزيع:” حكاوي الضحك المر والقلم المسنون… كلمة ورد غطاها”.
ولنلاحظ عنوان الكتاب (الضحك المر)… لنكتشف أن سمير يعي تماما أن الكتابة عنده ليس بغرض الضحك أو المرح فحسب بل هي تمرد وسلاح وحيلة دفاعية لما يعنيه كمواطن مصري ولما يلاحظه كصحفي أي أنها فن الالتفاف على المحظور.
وقبل البداية في عرض الكتاب لابد من الإشارة إلى دور ناشر هذا الكتاب..دار أكتب للنشر والتوزيع التي يرأسها الكاتب يحيي هاشم والذي يقوم بدور مهم وفعال في نشر إبداعات الكتُاب الحقيقيين، فله فلسفة للنشر مفاداها:” فى ظل آلية النشر الظالمة التى لا تمنح المبدع حقه فى ظل الصراع بين الكتاب و قنوات الأغانى والتفاهات أنشأنا دار اكتب للنشر والتوزيع”.
يحتوي الكتاب على رصد لحكاوي القلم المسنون، مبرزا هموم الوطن فيضحك عليها ضحكاً مُراً مادام التغيير لم يأت حتى الآن، محتويّاً على كلمات ساخرة خارجة من نبض الشارع المصري. ينقسم إلى عدة أجزاء، الأول مقالات- 21 مقالة ساخرة- تسخر من واقع المجتمع المصري ثم يليها شكة باعتبارها تلخيصاً لواقع مر وكأنها حقنة تحت الجلد ثم باختصار وهي كلمات صغيرة ولكنها معبرة بالإضافة إلى كلام حلمنتيشي وهي قصائد نثرية لا تخضع لجمود أوزان الشعر أو لتقاليد بحوره المتعارف عليها، متحررة في عباراتها لنقد تصرفات البشر.
ويعد هذا الكتاب من الكتب القليلة التي يمكن أن تندرج تحت مسمى الكتابة الساخرة بحق، فمعروف أن “ماجد سمير” خفيف الظل سريع البديهة يكتب بأسلوب يشبه الأستاذ الكبير “أحمد رجب” دون تقليده بالطبع. ويجنح في بعض كتاباته إلى أسلوب الكاتب الكبير “علي سالم” خاصة في مقالاته، ليبدع في النهاية أسلوباً فريداً في الكتابة الساخرة.
في الواقع صعب على أي كاتب أن يعرض لمثل هذه الكتب الساخرة، حيث تمتلكني الحيرة لاختيار ما أقتطفه في هذه السطور، ولأني أعرف ماجد سمير جيدا وأعرف ما يمثل له أفضل ما كَتب وهو مقال “مناقصة لشراء شعب”، هذا المقال يمثل له تحديا قويا لتحيز القائمين على الصحافة في مصر.
يقول في هذا المقال:
(أتمنى أن يأتي يوم يقوم فيه الشعب المصري بتوكيل محام متخصص في قضايا الخلع من أجل رفع قضية “فلسعة” من الحكومة أمام محكمة العدل الدولية، مطالبين بالحصول على حق الهجرة واللجوء إلى بقية دول العالم تاركين “الحق والمستحق” لحكومتنا العظيمة، فلم تعد معيشتنا مع حكامنا ممتعة والأنسب هو أن نتركها ونتنازل لهم حتى عن النفقة أو أي حقوق لكي يتمتع المسئولون بالحياة بدون شعب، فأغرب ما يحدث في مصر هو صبرنا غير العادي على الحكومة واستجابتنا الملائكية لأحلام و”شطحات” أصحاب القرار في مصائرنا، والأكثر غرابة هو عدم التفكير في أي نوع من أنواع الاعتراض على أصحاب المعالي، ولكن ماذا سيحدث لو تحققت هذه الأمنية وتركنا الجمل بما حمل للحكومة وقررنا الهجرة إلى الخارج بعد حصولنا على الحكم المأمول.
يرى البعض أن الحكومة ستصاب بصدمة بسبب الهروب الكبير لأن الفراغ لم يعد “دماغها” فقط كما هو معروف ولأن الوضع الجديد يشير إلى وجود ما يزيد على مليون كيلو متر مربع خاوية تماماً.
صحيح أن ما يسببه الشعب دائماً من تلوث وزحام وإزعاج واستنفاد لكل طاقة الحكومة من تفكير –إذا كانت تفكر من الأساس- لن يكون له وجود إلا أن الوحدة ستصيب السلطة بأزمات نفسية عديدة، ومن الممكن أن تجد أفرادا من الحكومة يجلسون على الإنترنت لعمل “شات” مع حكومات صديقة بهدف التسلية وقتل الوقت، فبعد أن كان كل فرد منهم يتحكم في مصيرعدة ملايين من البشر أصبح وحيداً، في ظاهرة فريدة لم تشهدها المعمورة من قبل فلأول مرة في التاريخ توجد حكومة دون شعب ودولة بلا مواطنين.
وربما يبدأ بعض أفراد الحكومة في مراجعة أنفسهم والاعتراف بما ارتكبوه من ذنوب في حق الشعب المسكين الذي تخلى عن المعيشة معهم، معترفين بخطاياهم في رفع الأسعار وكبت الحريات ومشكلة البطالة وبيع أصول البلد وغيرها من الآثام، ومؤكدين أنهم لا يملكون حق البيع ورغم ذلك باعوا لمن لا يستحق الشراء.
ومشكلة هروب الشعب وخلعه للحكومة لها جانب ثان شديد الأهمية لأن المستثمرين “سيخسرون الجلد والسقط” وستنقل الفضائيات لقطات طويلة لمستثمر وهو “ماسك في رقبة مسئول كبير” ويجري به في الفضاء الشاسع أو لقطات متنوعة لمسئول آخر وهو يحاول إقناع مستثمر ثان بأنه لو اشترى “بورسعيد” سيحصل على “الدلتا” هدية ولو اشترى الاثنين سيأخد البرج ومسلتين فوق البيعة.
أما سيد قراره فسيكون له قصة أخرى فلن يكون هناك قلق من قزقزة اللب أو النوم أثناء الجلسات، ولكن المشكلة الحقيقية أن كل نائب قد يتخيل أن دائرته أصبحت ملكية خاصة له، وقد يفكر في تأجيرها أو بيعها، ولكن الجميل أنه لن يصبح هناك أغلبية أو معارضة أو نواب محظورة لأن الكل بات في “الطراوة” وفي مقولة أخرى في “الوسع”.
ومع مرور الوقت ستصاب الحكومة بالملل الشديد، وطبقا لمبدأ “الإيد البطالة نجسة” سيبدأ أفرادها في التحايل من أجل الحصول على حكم أي من دول العالم عن طريق المشاركة في مزادات بيع أي دولة مصابة بفيروس الحكومات الشبيهة، والمزاد هو الاسم الأصلح والأنسب لانتخابات دول العالم النايم في مياه البطيخ، ولكن الصدمة ستكون هي عدم حصولهم حتى على أصواتهم الشخصية لأنهم سيدركون أن مصالحهم الشخصية ستتطلب التنازل لأشخاص آخرين لديهم الخبرة الكافية في حكم البلاد الأخرى، فيعودون مرة أخرى للمحروسة جارين أذيال الخيبة دون خفي “حنين” لأن أحدهم سيكون قد باع “الخفين” إلى أحد المستثمرين.
ولن يقف الأمر عند هذا الحد لأن عبقريتهم ستصل إلى حلول أخرى منها استيراد أو شراء شعب يعيش تحت سلطتهم في دروب المحروسة الخاوية على عروشها، وسيرفضون طرح ممارسة عامة لعملية الشراء لأن الممارسة تنتقي الأنسب بصرف النظر عن السعر، وحكومتنا تريد الشراء بأرخص الأسعار، وستصل السلطة إلى أن الحل الملائم هو طرح مناقصة لشراء شعب، والمفاجأة أن المناقصة سترسو على شركة عالمية متخصصة في الأحوال الشخصية ستقوم بنقل وتوريد نحو 72 مليون مصري هاجروا ولجأوا إلى دول أخرى لإجبارهم على العودة لبيت الطاعة).
أما أفضل إختصار لديه فهو:
(مر الجنيه المصرى عبر تاريخه المديد بعدة مراحل أهمها مرحلة “اللحلوح” واتسم فيها الجنيه بالقوة والعنفوان ثم جاءت مرحلة ” الملطوش” وكان فيها الجنيه ينازع من أجل البقاء والظهور والآن نحن نعيش فى مرحلة “الأهيف”).
وكلمات الإشادة بما كتبه سمير لا تمنع أن يكون لديّ بعض الملاحظات على الكتاب وأسلوبه:
*الكتاب به بعض التكرارات في ألفاظ معينة، ولعل هذا جاء نتيجة أن الكتاب كُتب على فترات زمينة بعيدة، وخاصة في قسم بإختصار-كلمة ونصف، فنجد مثلا تكرار لعبارة “الحيطان/ الختان لها ودان” في مقال “واحد آخرة جنب الدكتور” ثم تكرارها في إختصار حين قال:” أكد صديق ليّ أن المشكلة ليست فى الحكومة فقط فالشعب أيضا مسئول ، فعندما تعلن منظمة “اليونيسيف” أن 97% من فتيات مصر يتعرضن للختان وأن بلدنا تحتل المرتبة الثانية على مستوى القارة الأفريقية بعد “غينيا” فى ختان البنات ، وبالرغم من جهود الدولة الحثيثة للقضاء على الختان فلا أحد يسمع مع أن الجميع يعلم جيدا أنه حتى “الختان” ليها ودان”.
ونفس الأمر مع كلمة “مرتدة” التي تكررت في مقاله عن إمارة غزة وقطاع مصر ثم في إختصاره التي يقول فيها:” طالب أعضاء البرلمان الممثلون للتيار الدينى فى دولة هوس ستان بتحريم ممارسة لعبة كرة القدم فى كل انحاء الدولة سواء على المستوى الرسمى أو غير الرسمى بسبب قيام الفريقين اثناء اللعب بشن هجمات مرتدة”.
* لم يعجبني بدرجة قوية الكلام الحلمنتيشي، فهو أقل بكثير من المقالات الساخرة أو شكة أو إختصار
* تفاديا لعدم تقليد الأستاذ الكبير أحمد رجب جعل ماجد سمير يعنون كلمة ونص أو نص كلمة تحت عنوان “إختصار”، وأعتقد أن كلمة ونص أو نص كلمة أصدق تعبيرا لما يكتبه سمير من كلمات ساخرة.
samhssamy@yahoo.com
* القاهرة