عاد رمضان أو عدنا إلي رمضان وهو الأصح. عدنا لرمضان محمّلين بكل ثقل عاداتنا السيئة والتي تفرز كل عام عادات أكثر قبحاً. فحياتنا كلها صارت عادات. عادات نخلقها بأيدينا، نعجنها بماء قداسة مزيف ونزرعها في عمق لا وعينا المؤمن. عادات صارت تُشكل نمط حياتنا بدل أن تتشكل وفق نمط حياتنا التي يجب أن نصنعها نحن ولا نسمح لقديس أو حاكم أن يصنعها لنا ولو ادعى انه سيصنعها لنا وفق مقاييس الله. فالله لا يمنح مقاييسه لأحد.
عادات نمارسها بإيمان مطلق,إيمان لم يُراجع ولم يُحقق ولم يتحقق منه حامله، فصار الصيام عنده عادة والصلاة عادة وكل أشيائه الروحيه عادات يكررها في رتابة مملة يكون فعلها على الروح معاكساً تماماً لما وجدت لأجله. يدخل علينا اليوم شهر العادات بامتياز عكاظنا الرمضاني المقدس الذي نعرض فيه كل بضائعنا المادية والروحية على موائد الرحمان والتي تنتصب جنباً لجنب مع موائد القيان.
يعود رمضان ونعود كطوابير النّمل نُكرر ذات الحركات المضحكة والمبكية من ملاحقة المعدنوس وطوابير المخابز إلي التراويح والتهجد والتبتل وتكرار ذات الدعاء الذي نعرف انه لن يلبى ولكن يقتضي المقام قوله والسلام . نحن لا زلنا نفقأ عين كل من حاول أو يحاول أن يخبرنا بما نعرف عن أنفسنا. نحتمي بدثار من التقوى لكنها تقوى مصطنعة دثارها لا يواري شيئاً من سوءاتنا التي تنكشف كل يوم أمام الله وخلقه.
أيها السادة نحن لسنا نملاً، ولم نخلق لنعيش حياة النمل، لم نخلق لتتوالى علينا الدهور ونحن فقط نحاول ان نومّن مؤنة الشتاء من قيظ الصيف.
يجب أن نتوقف هنا فالأمر جلل ولا يمكن لسكوتنا عليه إلا ان يكون جريمة نرتكبها بحق أنفسنا وبحق أبنائنا الذين ترتبط حياتهم ومستقبلهم وكل احلامنا فيهم بحياة او موت حاكم لا يعرف أحد متى يداهمه أجله.
بعيداً عن كل صراخ وعن كل مطالب غير مشروعة بحسب شرعتهم هناك. بعيداً عن كل القبضات المُهددة والمُتوعدة بالسحل والمحل والقتل والشنق. بعيداً عن أحلامنا الكاذبة برؤية ساحتنا تمتلئ بالمعتصمين المحتجين على حياة أصبحت لا تطاق وعلى دولة ليس لها من عمل إلا إصدار كل قرار يحاول تهييج الشارع والناس. بعيداً عن صمتنا المخجل وعن جبننا حتى على المطالبة بجثامين أبنائنا وأبائنا أو بقوت أطفالنا. بعيداً عن كل تخاذلنا وعن فجيعة السلطة نفسها في كمّ التخاذل الذي نملكه.
بعيداً عن كل هذا، ونزولاً عند رغبة السلطة هناك التي لا تزال تنفي مسؤوليتها عن كل ما حدث ويحدث للبلاد، بل تتبرأ من قبضها على أية سلطة من أي نوع وتحميلها لنا نحن أفراد الرعية كل هذه الكوارث المأساوية لعجزنا عن ممارسة سلطة ممنوحة لنا مجاناً .
فلنتوقف هنا ونساير السلطة على قياس عقلها ونمارس سلطتنا ولو لمرة واحدة. نمارسها دون الحاجة الي نظريات او لجان صياغة. نمارسها كما أوصانا حكيم قديم من خلال الجامع، أن نختصر قليلاً تراويحنا المقدسة التي نراوح فيها منذ أمد بعيد ونجلس في مساجدنا تحت منبر نبينا الذي ندعي حبه ونناقش حياتنا وما يجري من حولنا ونوجه أسئلة للسلطة الفعلية هناك القابضة على كل شيء والمتمثلة في العقيد القدافي الذي يعلم خائنة أعينكم. أن تتوجهوا اليه كما ظللتم تفعلون لأربعة عقود او يُفعل ذلك باسمكم ولا فرق، من برقيات التهاني والمبايعة المخطوطة بدمائكم. أن تتوجهوا اليه هذه المرة بشيء مختلف، يتمثل في سؤال واحد فقط وهو .. إلي متى سيستمر هذا العبث؟
أن توجهوا له رسالة واضحة تقول له أنت تعبث بمصير أمة، إلي أين ترغبون المضي بهذه البلد؟ ألم يئن لهذا الشعب الذي خضتم كل حروبكم بإسمه وعلقتم نياشين نصركم من دماء ابنائه، ألم يئن لهذه الأمة أن تلتقط أنفاسها قبل أن تجتاحها حالة سُعار للقتل والتدمير، حالة سُعار وفّرتم أنتم كل الدعائم لظهورها.
مارسوا سلطتكم ليست التي منحها لكم “الكتاب الأخضر” بل التي منحتها لكم كل الكتب المقدسة، وحولوا مساجدكم الي جوامع، تجتمع فيها كلمتكم وتتحد فيها رغبتكم في بناء أمة وحضارة، وأنتم الآن أمامكم الامكانيات العظيمة لإقامة صرح لحضارة جديدة في موطن الحضارت الذي تعيشون فوقه.
لا أحد يطالبك بالثورة ولا بالقتال ولا بالتظاهر. فقط اجتمع في جوامعك وتوحّد مع أخيك على المحبة في هذا الوطن واعرف إمكانيات بلادك التي تغنيك عن كل هذه الأحقاد والصراعات والتطاحن لأجل حفنة نقود وسخة. ثروة بلادك تكفيك لتعيش بسلام مع من حولك ولا أحد يمنعك عنها إلا اذا منعت أنت نفسك.
فلنتوحّد حول سؤال واحد لنجعله يصل الي السلطة هناك ولتكون هذه السلطة مُجبرة على الإجابة عليه. سؤال حول معنى كل هذه الإعلانات الرخيصة لحفلة التبرعات الداعرة التي تمتد حول العالم. مئات الملايين تُرمى هنا وهناك. يحصل هذا في الحين الذي تختنق فيه البلاد بروائح عرق المستجدين لحقوقهم. ما معنى أن يعلن عن هذه الأموال المُتبرع بها في وقت يتأخر فيه صرف المرتبات بدعوى خواء الخزينة؟
وحتى لا تجرح أسئلتنا أصحاب النيافة والفخامة ولا تُصاغ بصيغة المساءلة لمن هو فوق المساءلة في الدنيا والآخرة بحسب الشيوخ، وحتى لا تكون مجرد أسئلة ترمى على أسئلة أخرى عديدة لا أمل في وجود جواب شافٍ يشفي هذه الحرقة في أنفسنا عن سبب كل هذا العبث بالإنسان، حتى لا نعود للصراخ فقط، علينا أن نتوجه للسلطة هناك ومن خلال اطروحاتها العديدة ايضا ليكون سؤالنا فقط من كلمتين: لمَ لا؟
سؤال ينطلق من رؤية السلطة هناك للاصلاح والنماء. سؤال لا يتعارض مع رؤية السلطة المقدسة بل ينطلق من الأساس الذي بنت عليه السلطة دعواتها نحو الهجرة من الوطن والتبشير بتحولّه الي سبخة ملح ومحاولاتها الإنقاذية ببناء صرح الأعجوبة الثامنة وكل ما أُنفق عليه ومنه لأجل أن ننتهي الي إزدهار صناعة الجالونات التي تصطف في طوابير طويلة أمام صنابير عابري السبيل. نحن لا تُحاسب ولكن تُذكر بكل اطروحاتكم عن حرب المياه القادمة وبكائكم على جفاف بحيرة تشاد. سؤالنا للسلطة لا يبنى على تكهنات تقوم على توقعات ليست مثبتة لتُتخذ قرارات وفقها بجلاء شعب عن دياره فذلك لم يكن من الحكمة في شيء. فها هي التوقعات تَكذب وها هي البشائر العلمية تبشرنا بأن ليبيا لن تتصحر ولن تصبح سبخة ابداً ولن تتخلى عن إطلالتها الجميلة على المتوسط ابدا. ها هو العلم يقول لكم إن عقولكم هي التي ستصير سبخة لكثرة التطرف وإدعاء المعرفة.
لا يستطيع الإنسان أن يتصور كيف يمر خبر مثل خبر ذاك الاكتشاف العظيم الذي تناولته وكالات الانباء عن اكتشاف نهر عظيم بحجم مساحة ربع جمهورية مصر، فلا يهتم أحد ولا يتابعه لا سائل ولا مسؤل. رغم أننا نحترق في طوابير وراء الجالونات ونتصارع لأجل صهاريج المياه بعد أن ثقبنا مؤخرة الوطن بالاف الابار، ورغم أننا نتدافع لنصلي صلاة الإستسقاء لأجل بخة مطر، ورغم أننا نتذابح لأجل مواسم الحرث والحصاد. فلماذا لا تهتم عندما يستجاب دعاؤك وتأتيك البشارة بانك تقيم في جنة تجري من تحتها الأنهار، أنهار عظيمة لها دلتا عظيمة تصلح لتقوم عليها قرطاجنة جديدة.
هنا نريد ان يكون سؤالنا واضحاً للسلطة في ليبيا، خاصة بعد أن أخبرتنا السلطة عن الفائض عن ميزانيتها وعن مبلغ المئة بليون دولار التي تبحث عن مكان تُستثمر فيه. ليكون السؤال المحدد: لماذا لا يتم الشروع في إنشاء مدن متكاملة على الضفاف المفترضة لهذه الانهار ورصد الميزانيات لدعم العلماء الذين يبحثون في هذا الحقل. أنتم هنا أمام إستثمار حقيقي يجب أن تتقدم اليه انت كليبي ومصري لتبني حضارة متعافيهة تمتزج فيها عبقرية الفراعنة مع عزيمة محاربي الصحراء لبناء حضارة جديدة للإنسان على شاطئ بحر الحضارات.
لمَ لا؟
هذا السؤال نستطيع أن نتوحد حوله، أن نكسر هذه الدائر المجوفة الفارغة ونؤسس لمشروع جديد. مشروع له كل مقومات النجاح. مشروع يُبنى على طرح ودراسة علمية وله إمكانيات ماديهةوبشرية غير ناضبة. فلنطرح سؤالنا هذا دون تحدٍ لأحد ولكن سعياً للخير. فلنطرحه من خلال أحاديثنا في الشارع والسوق والبيت والمدرسة، أن تتوحد حوله نقاشاتنا، وأن نتناوله في خطب جمعنا الرمضانية ونتدارسه ونتذاكره ونوصل للسلطة رسالة واضحة بأننا لن نتزحزح عن هذا السؤال حتى نحصل على إجابة، وبأنه يجب أن يكون في رسالتنا تحذير واضح للسلطة بأن لا تضطرنا للخروج من الجوامع للبحث عن الإجابة.
ولكننا لن نتوحد حول أية كلمة ما لم نطهر بيوت الله من شيوخ الأربعين ملطوش وأئمة الدجل ونطردهم بعيداً عن منبر رسول الله، وأن تتخير من بين رجالات بلادك رجال تعرف خُلقهم ونزاهتهم وعشقهم للحرية وللحق ليتقدموا ويعتلوا المنابر ولينذروا الناس بهذا الشر المستطير الذي نمشي أو نُقاد نحوه ونحن سامدون. وليبشروهم بهذا الخير العميم الّذي لن يحققه لهم أحد إذا عجزوا عن فعل ذلك بأنفسهم.
نُشِرَ في “ليبيا وطننا”