على شاشة الفضائية اللبنانية «ال بي سي»، كليب طويل نسبياً. يتكرّر أكثر من عشر مرات في اليوم الواحد. الكليب موجّه «الى كل لبنانية ولبناني». وعنوانه «ليس من السهل ان تكون لبناني» («مش هيِّن تكون لبناني»). المناخ في الكليب اقرب الى الدعائي. وموسيقاه التصويرية توحي مقدّما بعظمة إنعدام «السهولة» هذه. الصور العابرة للكليب لا تخرج عن الايحاء الموسيقي: وجوه لأفراد من الرجال والنساء والاطفال. كلٌ بمفرده، وحيد. وجوه نضرة، مليحة، معتزة بحزنها ومأساتها. بالاضافة الى شيء من خراب العمران اللبناني، نتيجة الحروب، وجمال طبيعته.
الكلمات تكمّل الصور. المصير والتاريخ يتحديان اللبناني. ينزف ولا يجف له دمع. يموت مرتين. يزرع ولا يحصد. يبذل جهودا فوق انسانية. يتجاوز محنته. وهذا يعني ان «قلبه لبناني». مشكلة اللبناني انه صغير ولبنان كبير. وان الغيورين منه كُثُر…الخ.
والبقية تقريبا على نفس المنوال: يجب ان يكون اللبناني «لبناني عن جدارة». الايادي المخربة كثيرة وهو وحده يعمّر. لا ينتظر العجائب ولا حسن النوايا. وليس له الا «ربه». هو وحيد دائماً وعليه الاعتزاز والافتخار بالجهد «فوق الانساني» الذي يبذله شخصيا.
الاستثناء الوحيد في هذا الكليب، هو اللقطة المتعلقة بـ»السياسيين»، كما نفهم. وجوه داكنة منكبّة على تقاسم المنافع وعلى فرض الصمت. صورة متـآمرين في غرفة مظلمة دخانها كثيف. على نقيض صورة «اللبناني» الندِية الرحبة المنطلقة في المدى. اما كلمات اللقطة، فتعيبهم: «هم (أي السياسيون) سياسة العبث ومنطق غير المعقول» («هنِّ سياسة العبث ومنطق المش معقول»).
ومجمل الكليب مبني على إحساسَين متعارضَين ومتداخلين. وعلى نفس الدرجة من القوة: الاشفاق على النفس، المحكوم عليها بحكم «التاريخ». اي بالتراجيديا. حيث مقدّر لأبطالها دوام العذاب. والذي يستحيل تغييره. لأن التاريخ اقوى. الاحساس الملازم الثاني: الاعتزاز بهذه النفس المشفَق عليها. إعتزاز اسطوري. يرفع «اللبناني» فوق غيره من الافراد غير اللبنانيين. ما يفيد ايضا وايضا بأن الفينيق العتيد يختبىء خلف كل لبناني ولبنانية.
الكليب جاء ربما في وقته. اللبناني الفرد متروك لمصيره. ويحتاج في ايامه العصيبة هذه الى شحنة، او طاقة حياة. إن لم يغرف هاتين الشحنة والطاقة من بلده… وهذا امرٌ واضح انه مستحيل: فعلى الاقل من نفسه، من فرديته. الكليب ملأ فراغاً نفسيا-سياسياً، احدثته الاعوام الثلاثة الماضية. الكليب يملأ الفراغ بهيبة وفخامة. المعنى تراجيدي اسطوري. ونشوة هذا المعنى على درجة عالية من العمْلقة. اللبناني هنا شاهق. نسر محلّق. جبار ومثابر على اسطوريته.
قد يكون اللبناني بحاجة الى معنى يعطي للطاحونة السياسية اللبنانية بعض القدرة على الاستمرار. يعطي معنى للدائرة المفرغة وللأتون. فالطاحونة والدائرة والاتون لها تأثير وجودي بالغ على اللبناني واللبنانية، بعد التأثير الحياتي واليومي والتفصيلي.
وإلا، فكيف يقنع اللبناني واللبنانية بمصير طائر الفينيق؟ الذي يتجازو الاعتزاز به الحدود الانسانية؟ كيف ينسى؟ كيف يكابد؟ كيف يبتلع طعم الغزل الدائم بفينيقه؟ اذا لم يهضم ان هذا انما هو قدره؟ تاريخه؟ «غيرة الآخرين» منه؟ كيف يعود فيبني من الصفر، من «جديد» (راجع راجع… يتعمّر راجع لبنان) من غير جرعات الاطراء والتملّق؟ ومن غير مديحه، هو صاحب المصيبة أو المأساة؟ كيف تكون بلاده «ساحة» برضاه؟
قدرة اللبناني العجيبة على «التأقلم». ليس الكليب كله مخادعاً. هناك شيء من الحقيقة بما يذكره عن صفات اللبناني. ليس بالمهابة التي يطرحها الكليب، ولا بالمبالغة. ولكن فيها من الواقعية ما يكفي ليعطي الكليب بعض المصداقية.
المشلكة في مكان آخر. المشكلة ان الكليب يريد بلورة تشكّل الهوية اللبنانية. فلا تأتيه هذه الا بصفتها هوية فردية. هوية الاعتزاز بالمصيبة، هوية المصاب باللكمة المفتوحة على الأفق البعيد. اللبناني هنا بمفرده، صاحب كل هذه الفضائل والملَكات. اما اللبنانيون كجماعة وطنية، اللبنانيون بمجملهم، فغائبون تماماً.
وعلى سبيل المقارنة فحسب: الكليبات «الوطنية» العراقية لا تتوجه الى الفرد العراقي الا لتضعه مع عراقيين آخرين في مواجهة الفساد او الارهاب.
اللبنانيون ليسوا هكذا. اللبنانيون جماعة غائبة عن المديح. فصورتهم الاجمالية، عكس الفردية، ليست على ما يُرام. طائفيون، مذهبيون، منقسمون، متقاتلون، اوفياء لـ»سياسيين» يشتمونهم بالجملة مئة مرة في النهار. كراهية وعنف وتعصب وتوتر وانهيار علاقات وصداقات… وفي افضل الاحوال، عاجزون عن التأثير على «تاريخهم» و»قدرهم». صورتهم غير مشرفة. اللبنانيون غير اللبناني… اللبنانيون فاشلون، هم عكس اللبناني مقتحم الصعاب وصانع العجائب. اللبناني الفرد، الاسطورة الخالدة.
ان تعظيم اللبناني وتجاهل اللبنانيين، والفصل بين اللبناني واللبنانيين لا يفعلان غير تقزيم اللبنانيين لحساب اللبناني. الجماعة دون الفرد. واللبنانيون يغالون احيانا في هذه الممارسة؛ ظنا منهم ان انقاذهم انقاذ فردي، وبهذا المضمون، اللبناني سوبرمان. يسحبها من فم الاسد. فينتفخ اللبناني ويزهو بقدره وبمصائبه.
المعاني التي يبثها الكليب قد تعين اللبناني في التعايش مع الاضطراب والاهتزاز والحروب. لكنها لا تخدمه على مدى الدهر. الغرور لم يكن يوما خشبة خلاص. واللبناني يبدو هنا مثل غراب لافونتين الذي ذابَ من شدّة ما تغزل الثعلب بصوته النشاز، ففتح فمه وسطقت قطعة الجبنة، غاية الثعلب ومنتهاه. وغزل اللبناني الآن لا يفيد غير دوام الحروب على ارضه. وهذه غاية اعدائه واصدقائه… ومنتهاهم.
dalal.elbizri@gmail.com
* كاتبة لبنانية- القاهرة
الحياة
«ليس من السهل ان تكون لبنانياً…»نعم ان الايمان باللاعنف يؤدي الى العدل والى الديمقراطية اي الى حضارة انسانية راقية فان الرسل وغاندي وغيرهم من الاصلاحيين نادوا وباعلى صوت باللاعنف والسواء اي احترام القانون وسيادته على الجميع دون تمييز. ان القران الكريم باعتماده على التاريخ كمرجع اساسي في عقوبة من يعتمد على الارهاب والعنف والمليشيات قال ايضا وباعلى صوت لا اكراه في الدين وقصة ادم الاول تعلمنا اللاعنف واحترام النفس البشرية مهما كان مذهبها واعتبر المفكر الجزائري مالك بن نبي أن الحضارة لها مخطط، رحلة الصعود فيه روحية، ومنحنى الانحدار تفلت الغريزة، وبقدر تفلت الغريزة من مرجل العقل الذي كانت تعمل… قراءة المزيد ..