الرجل ليس قديسا أو ملاكا، كما أنه ليس شيطان، خصوصا في حال مقارنته بقادة الميليشيات الأخرى في الحرب اللبنانية الذين يشغلون مواقع مهمّة منذ فترة لا بأس بها مثل الرئيس نبيه برّي أو الزعيم الدرزي وليد جنبلاط. من هذا المنطلق، يعتبر إعلان الدكتور سمير جعجع ترشّحه رسمياً لموقع رئيس الجمهورية اللبنانية ظاهرة صحّية في بلد لم يبق فيه من الممارسات الديموقراطية غير القشور. يكفي أن جعجع تخلّى عن البندقية باكرا وانضمّ إلى الموافقين على إتفاق الطائف وشارك عبر ممثّل عنه في الحكومة الأولى التي تشكّلت بعد الطائف برئاسة عمر كرامي…ثمّ أدخل السجن لرفضه أن يكون أداة من أدوات النظام السوري.
هذا لا ينفي أنّ سمير جعجع يظلّ شخصية سياسية موضع جدل حاد، حتّى في الوسط المسيحي. تعود حدّة هذا الجدل إلى أنّ جعجع، الذي تعرّض قبل سنتين لمحاولة إغتيال، ذو تاريخ سياسي مختلف في شأنه إلى درجة كبيرة. لكن، ما لا بدّ من التوقف عنده، أنّ الرجل لم يبدّل يوما مواقفه السياسية على الرغم من أنّه أمضى في السجن أحد عشر عاما. هذا ليس سهلا على انسان عادي، فكيف على سياسي لبناني في بلد تختلط فيه السياسة، في معظم الأحيان، بالإنتهازية.
تكمن أهمّية سمير جعجع في أنّه يسعى إلى أن يكون أكثر من زعيم لحزب مسيحي في لبنان. إنّه من السياسيين القلائل الذين سعوا إلى إختراق الطوائف. “القوّات اللبنانية” استطاعت الإنتقال من مجردّ ميليشيا، يرفضها قسم لا بأس به من الشارع المسيحي، الى حزب سياسي لديه مواقع بين المسيحيين اللبنانيين ولدى السنّة وبعض الشيعة وبعض الدروز الذين يعجبهم في سمير جعجع تمسّكه بمواقفه في أصعب الظروفو أقساها.
ما يجعل سمير جعجع مشروع رئيس جمهورية امتلاكه القدرة على التطوّر من دون التخلي عن الثوابت. في النهاية، إنه الزعيم السياسي الوحيد الذي اعتذر من مواطنيه الآخرين على ما يمكن أن يكون إرتكبه خلال الحرب اللبنانية. هذا أمر في غاية الأهمّية يكشف أن الرجل يعي أن فترة الحرب كانت مليئة بالأخطاء وأن لا أحد، بمن فيهم سمير جعجع، يمكن أن يعتبر نفسه معصوما.
لعلّ ما يثير الإهتمام بسمير جعجع ذلك الوضوح الذي جعله في فترة ما بعد خروجه من السجن صاحب خطاب سياسي يكاد أن يكون خاليا من الأخطاء. الدليل على ذلك أنّه لم يتخلّ يوما عن موقفه من سلاح “حزب الله” ومن النظام السوري. رفض، على نقيض النائب المسيحي ميشال عون، هذا السلاح غير الشرعي. هنا يكمن الفارق الكبير بين قائد سابق لإحدى الميليشيات من جهة وقائد سابق للجيش مستعدّ، من جهة أخرى، لأن يكون أداة لدى الأدوات من أجل الجلوس على رأس كتلة نيابية كبيرة ليس فيها نائب واحد يستطيع الوصول الى البرلمان من دون دعم “حزب الله”.
هذا هو أيضا الفارق بين سمير جعجع وقائد سابق للجيش اللبناني قاتل الجيش السوري من أجل الوصول الى رئاسة الجمهورية، وليس لأيّ سبب آخر، وما لبث أن تخلّى عن جنوده وضبّاطه في اللحظة الحرجة. أكثر من ذلك، لم يسأل عون عن مصير الجنود والضباط عندما ذهب الى دمشق للوقوف على خاطر بشّار الأسد بعدما أعتقد أن النظام في دمشق سيفتح أمامه أبواب قصر بعبدا.
لا يزال سمير جعجع، إلى الساعة، يطالب بإطلاق المواطنين اللبنانيين الموجودين في سجون النظام السوري. في المقابل ليس لدى ميشال عون ما يهزّ ضميره ويذكّره بأن لهؤلاء الجنود المنسيين أمّهات وآباء وإخوة يعرفون تماما الظروف التي رافقت إختفاء ابنائهم.
يمتلك سمير جعجع بعض الحياء. قليلة الأخطاء التي ارتكبها منذ خروجه من السجن في العام ٢٠٠٥ بعد اغتيال الرئيس رفيق الحريري ورفاقه وبعد اضطرار القوّات السورية الى الإنسحاب من الأراضي اللبنانية.
كان تأييد مشروع قانون الإنتخابات الذي سمّي زورا وبهتانا بـ”الأرثوذكسي” من بين هذه الأخطاء التي ما لبث أن عالجها بعدما أدرك أن هذا الطرح الطائفي ليس سوى صنيعة “حزب الله” الذي إستخدم، كعادته، ميشال عون من أجل إيجاد شرخ بين المسيحيين والسنّة في لبنان كخطوة على طريق انجاز المشروع الذي يحلم به الحزب ومن خلفه ايران. يتمثّل هذا المشروع بالمثالثة بين المسيحيين والسنّة والشيعة بدل المناصفة بين المسيحيين والمسلمين بغض النظر عن التعداد السكّاني وعدد أبناء كلّ طائفة من الطوائف.
سمير جعجع الذي بات من صلب مكوّنات “حركة الرابع عشر من آذار”، ليس طائفيا. إنه مقبول، نسبيا، من كلّ الطوائف، لكنّه لا يزال مرفوضا من أولئك الذين يسعون الى تغيير طبيعة المجتمع اللبناني على غرار تغيير طبيعة قسم لا بأس من المجتمع الشيعي. وهذا ما نجح به “حزب الله” الى حدّ كبير.
مجرّد وقوف سمير جعجع في وجه هذا المشروع الخطير الذي يستهدف تمكين ايران من امتلاك جزء من القرار السياسي اللبناني عن طريق “الثلث المعطّل”، أي عن طريق “حزب الله”، يعتبر نقطة لمصلحته. هذا ما يفسّر موقف الحزب المذهبي المسلّح الذي يصرّ يوميا على أن يكون في مركز القرار لتعطيل أي مشروع يمكن أن يحسّن الوضع المعيشي للمواطن اللبناني بدل دفعه الى الهجرة.
حاول سمير جعجع إستكشاف كيف يكون تجاوز الماضي. سعى إلى تطوير نفسه. قد يكون نجح في ذلك. الثابت أنّه عرف، على الأقلّ، كيف يطوّر حواسّه وأن يبني منزلا على علاقة بالذوق من خارج ومن داخل. إنّه انسان لبناني حاول إعادة النظر في تجارب الماضي والإستفادة منها، على العكس من ميشال عون وهذا النوع من أشباه الأمّيين الذين يرفضون الإعتراف حتّى يومنا هذا بأنّ الرهان على صدّام حسين في ١٩٨٨ و١٩٨٩ و١٩٩٠ كان خطأ في مستوى خطأ الرهان على بشّار الأسد ووجود مستقبل له في السنة ٢٠١٤.
هل آن أوان أن يكون للبنان رئيس صنع في لبنان؟ يفترض في سمير جعجع أن يحسن الإنتظار في حال لم تسمح له الظروف بالوصول الى الرئاسة قريبا لأسباب غير لبنانية. يكفيه أنّه طرح إسمه للرئاسة وقبل التحدّي وقال للبنانيين أنّهم يستحقون رئيسا صنعته أصواتهم يستجيب لرغباتهم وطموحاتهم.
الأسابيع المقبلة كفيلة بتوفير ردّ على السؤال المرتبط بما إذا كانت الظروف الموضوعية الداخلية والإقليمية تسمح برئيس من نوع سمير جعجع وفي حجم طموحاته. الأمر الوحيد الثابت إلى الآن، اضافة إلى أنّ ميشال عون مرفوض من قسم كبير من اللبنانيين، لا سيّما في الوسط المسيحي، كما أنّ جهات عربية لا تحبّذ وصوله إلى الرئاسة إن لم ترفضه، إنّ الظروف تتغيّر نحو الأفضل في لبنان على الرغم من أن “حزب الله”، ومن خلفه إيران يريد الفراغ…
إلى أي حدّ يمكن أن تتغيّر الظروف في المستقبل القريب؟ هل تتغيّر إلى الحدّ الذي يسمح بأن يكون في لبنان رئيس صُنع في لبنان أي من طينة سمير جعجع أو غيره من الزعماء المسيحيين الذين رفضوا أن يكونوا أدوات لدى النظام السوري أو توابع لـ”حزب الله” الإيراني؟