في احدى الحلقات المخصّصة لمصرع القذافي، شخصان يتقابلان: الاول معارض سابق، عضو في المجلس الانتقالي الوطني، لنَقُل ان اسمه رشيد. والثاني مثقف ومحلل، لا نعرف بالضبط ان كان ليبيا ام تونسيا، تشير القناة اليه بصفته استاذا وباحثا. ولنَقُل ان اسمه كامل.
الموضوع، او بالاحرى الخلاف بين الرجلين: رشيد يؤيد كل ما قام به «الثوار» بحق القذافي. وكامل يدينه، وفي جعبته المفاهيم الانسانية والقانونية الرامية الى اقناعنا بأن القذافي كان يستحقّ محاكمة عادلة. النقاش والمحاججة ليسا جديدين. الجديد، والملفت أيضا، هو أن رشيد، المعروف منذ عدة أشهر بصفته صاحب موقف معارض ونقدي على طول الخط، بدا وكأنه انقلب على نفسه في اللحظة التي صرع فيها طاغيته. بموقفه، بلهجته، وبتلاعبه الواضح بالالفاظ، وبتكرارها، كان يصوغ سلطته الجديدة القائمة على الدفاع عن سردية معينة بخصوص نهاية هذا الطاغية (كنا نقول في ايامنا « الدفاع عن الخط السياسي»).
اما كامل، فظهر وكأنه يرسم التوجه المقبل للمثقف غير المنخرط بحزب أو جهة: يؤيد الثورة، ولكنه لا يشعر، على ما يبدو، انه مضطر لغض الطرف عن تجاوزات يقوم بها رجالاتها، المنضبطون منهم والفالتون من الرقابة. في الثورات الدموية، هكذا مثقف يستحق الحماية المعنوية، فحريته تهدد الرواية الثورية الرسمية، التي اصبحت سلطة بسرعة البرق، مدججة بالشرعية والسلاح. اي ان هذا النمط من المثقفين خطر على السلطة الجديدة، كما كان خطرا على السلطة القديمة. كامل من هذا النوع. وليس بوسعك إلا ان تسجل مناقبيته العقلية.
رشيد لم يستطع ان يخفي حبه للثأر. كان يردد بأنه هو طبعا مع المحاكمة العادلة، ومع تسليم القذافي حيا الى الذين سوف يحاكمونه … الخ. ولكن عندما كان كامل يرد عليه بما لا يرَدّ، كان رشيد يعود الى لازمتين: بعد المرور التقليدي على «العناصر غير المنضبطة التي لم تستطع ان تسيطر على نفسها»، يختم قوله، مرة واثنين وثلاث بالـ»لكن» إياها: «ولكن جرائم القذافي… هل نسيت؟ كم قتل وفتك ودمر…؟» الخ. ليتحول بذلك هذا الثار من القذافي الى استنتاج منطقي، الى بديهة: من ان الطاغية المجرم يستحق الثأر، هكذا ثار، لا المحاكمة العادلة.
اللازمة الثانية اكثر غرابة: عندما يذكر كامل فوائد المحاكمة في الكشف عن الملفات وعن المسؤوليات السياسية، يردّ عليه رشيد بأن «كل شيء معروف في ليبيا، الناس تعرف كل شيء…. واذا كان هناك شيء غير معروف، سوف نلجأ الى رجال النظام او اجهزة المخابرات… ما زالوا أحياء يُرزقون».. الخ. رشيد مستغن عن معرفة كانت تُطرح بالحاح وقت الثورة. الثورة لم ترفع شعار اسقاط الاجهزة الامنية او رجالات هذه الاجهزة. الثورة لم تندلع الا لاسقاط القذافي…. ومعركتها كانت ضده، واعتبرت يوم مقتله هو يوم انتصارها، يوم تحرير البلاد منه. اذن رشيد كان يطالب باسقاط القذافي، والآن، بعدما حرمه شغف الثأر من الافادة من هذا السقوط، تفّه وسخف هذه الافادة… فقط لكي لا يلوم الطريقة التي انهى بها «الثوار» حياته. وهو بذلك، في اولى خطواته نحو سلطة جديدة، يخون صورة الديكتاتور نفسه، الذي هو، بالتعريف، المسؤول الاول عن كل ارتكابات حكمه وفظائعه. كل الرجالات القدماء، خصوصا المسؤولين منهم، سوف ينعمون الآن بتغييبه، ويجيبون على سؤال الفظائع: «هو الذي اعطى الامر»، «هو الذي رسم الخطة»، «هو… هو….».
رشيد لم يعرف ما يجيب على سؤال كامل عن وجود شخصيات في المجلس الوطني الانتقالي سوف تستهدف بنوعية اسئلته، ان هو قرر أن مسؤولية القذافي تجدها في رجالاته….
على كل حال، خسر الليبيون، خسرنا نحن من كل هذه الطريقة التي انهى بها الثوار الليبيون حياة القذافي.
خسروا، وخسرنا: محاكمة ستكون احد بارومترات الديموقراطية الوليدة. صدام حسين حظي بمحاكمة غير عادلة وباعدام ظالم، حوله الى شهيد في نظر الكثيرين، من بينهم اناس مرموقون. مبارك يحظى بمحاكمة ملتبسة. وفي الحالتين، الديموقراطية في العراق كما في مصر، ما زالتا في طور التخلص من الذهنية الما قبل ديموقراطية، الثأر على رأسها، والثار المضاد طبعا. لم تقلعا بعد. على العموم، حتى الديموقراطيات العريقة، الاميركية على وجه التحديد، التي تعدم مواطنيها وغير مواطنيها باسم التخلص من الجريميتين، الفردية (في بعض الولايات) والجماعية (بن لادن، أنور العولقي)، فان اوجه لا ديموقراطيتها تقع تحديدا في هذا المجال.
ان تفوق الربيع العربي عالميا هو في تجنّبه العيوب اللاديموقراطية المتداولة حتى في الانظمة الديموقراطية. لا يعطي الربيع العربي اكثر من تمرده على الديكتاتورية اذا تشبث بحق الثار هذا، مولّد الثأر المضاد.
أيضا، خسروا الدرس التربوي الترويضي، الذي كان يمكن ان تمنحه المحاكمة العادلة، لو حصلت: كان يمكن لشوائبها ان تطلق العنان للنقد القانوني والمؤسساتي وتتوسل التشريعات الجديدة. كما كان يمكن لإيجابياتها وسريانها الطبيعي، ان تربّي على النفس الطويل، على الصبر والاستماع، على التمكن من القانون والمؤسسات والاجراءات. درس ترويضي ضروري للمشاعر بعدما تفجرت واطلقت العنان لنفس الغريزية التي كانت حجر الزاوية للقذافية. الديموقراطية حالة ثقافية، لا تلقينية؛ انها تفترض، من بين ما تفترض، تأطير النوازع السلطوية البدائية. وهذه تتم بالتمرين والمراس، لا الاسترسال في لذة الثأر وشرورها.
والواقع ان انهاء حياة القذافي على هذا النحو حرمنا ايضا من تربية الديكتاتوريين الحاليين واللاحقين. فان يقتصر الموضوع على بضعة ساعات من الالم الجسدي والضياع، على نحو ما تطلبه اعدامه، لا يساوي شيئا امام سنوات من محاكمة، لو حصلت، سوف يعرف خلالها القيود والاحراج والاذلال والخوف والضياع والانهيار النفسي. اذا جاز التكلم عن ثار له طعم، له اضافة، له معنى جديد، هو بالضبط ذاك الذي ينزع عن الديكتاتور اعز ما يملك، اي سلطته، العذاب النفسي الذي نتصور انه سيكون من نصيبه… ولكن لا… وألف لا… بدلا من ذلك، نفضل الثار السريع والتفرج على الجثة. فيما الجثة لم تعد تشعر او تعقل او تدرك.
الجانب المعرفي ايضا فوّتوه، أيضا: الفنانون والروائيون والمحللون انكبوا على شخصية الديكتاتور. حللوه، شرحوه، تخيلوا لحظاته، ارّخوا له. أمر ما في قدر بعض الديكتاتوريين جعلهم يموتون بسرعة او بتسرع، انتحارا او اغتيالا او اختفاء…. فوق غموض سلطتهم، غموض نهايتهم. لم تستفد البشرية من رسم دقيق لملامحهم. الديكتاتوريون العرب ضربوا ارقاما قياسية في طول العمر وفي تأسيس الخراب. لذلك فان الفضول بمعرفتهم اكبر، ثم الجهد المبذول لسبر بسيكولوجيتهم وآلية اشتغال عقلهم، أو عدم اشتغاله، أو فرادته…. كل هذا يستحق معرفتنا. يقول احد الاستاذة من بيننا: «الديكتاتوريون عميان، لا ينظرون الى الاشياء كما ينظر اليها الشعب. انهم منفصلون عن الواقع. انهم يعتقدون بأنهم ابديون». الديكتاتوريون الخاضعون لمحاكمة عادلة، لو سكتوا او كذبوا او تلاعبوا، او صدقوا (هل يصدقون؟)…. فهم يفتحون امامنا كتابا جديدا عن النفس البشرية، عن يقظة العميان، يتفوق على الشكسبيرية بفرادة الطبائع التي يكشف عنها. وقد يتوسل كل هذا الفن، خصوصا المسرح، حيث تأخذ الطبائع مجالها.
اما ان يكون الذي فاتت علينا محاكمته هو القذافي نفسه، الديكتاتور الكاريكاتوري، فهذا ما نحتاج الآن الى تعويضه عن طريق الخيال وحده: كأن نغرف من صوره وهو مطلق السلطة الى صورته الفقيرة والمبتذلة وقد نزعت منه تلك السلطة بفعل ثورة شعبية اضطرت، من دون اعداد ولا تدريب، الى مواجته بالسلاح.
دروس بأكملها فوتها الليبيون كان يمكن ان تنضج ديموقراطيتهم الوليدة، وتحرم مشاريع الديكتاتوريين الى سلوك النهج نفسه. فيكون رشيد هو السلطة الجديدة القامعة للسرديات المختلفة عن تلك التي صاغتها، ويكون كمال، المثقف النقدي، الذي بوسعه ان يناقضه لأن هناك مسرحا وفنونا ومعاني، ربما تكون اقوى من القوانين والمؤسسات والانتخابات، لو أنصتنا اليه كما يجب.
dalal.elbizri@gmail.com
* كاتبة لبنانية
المستقبل
ليس القذافي وحده الذي يستحق محاكمة، الليبيون أيضاً.. ونحن كذلك الحقيقة يدور في ذهني تساؤلات كثيرة عن الطريقة النمطية في الاستنتاج النظري و التي لا تتفق مع الأحداث على أرض الواقع , الكاتب محق نظريا فيما قال لكن حتى نظريا هناك احتمالات و تجارب عملية قد تدحض هذه الاستنتاجات , فمثلا لو أن سيدنا معاوية أعدم الخوارج الذين حاورهم بدل إرسالهم إلى عبدالله في حمص ليردعهم و اعلنوا توبتهم و عادوا و شكلوا قوة جديدة اقلقت راحة الأمة و كانت سببا في انهيار الدولة الأموية التي خسر بسقوطها العالم كله و ليس المسلمون فقط , ما أود قوله أن الأفضل… قراءة المزيد ..