قديما، قال الشاعر العربي “هل غادر الشعراء من متردم أم هل عرفت الدار بعد توهُّـم؟”، ومنذ ذلك الحين صار مطلع هذه المعلقة عبارة مأثورة، ترمز إلى المُعاد والمكرر والمستهلك.
لم يخرج الوضع الليبي في 2010 عن كلمات الشاعر القديم. فالملامح الأساسية للمشهد ظلّـت هي هي تقريبا، عدا إطلاق سبيل أعداد كبيرة من أعضاء التنظيمات الدِّينية المتشدِّدة في أعقاب إجراء حوارات معهم في السجن، أسفرت عن تخلِّـيهم عن استخدام العنف.
وفي هذا السياق، وجّه نعمان بن عثمان (أبو محمد الليبي)، القيادي السابق في «الجماعة الإسلامية المقاتلة» الليبية «رسالة مفتوحة» إلى زعيم تنظيم «القاعدة» أسامة بن لادن، دعاه فيها إلى وقف العنف المسلح الذي يقوم به تنظيمه في أنحاء العالم، على أن يبدأ ذلك بهُـدنة من جانب واحد تدوم ستة أشهر. وقال في رسالته: “إن العنف المسلح وصل إلى نهايته”.
وحذّر بن عثمان، الذي شارك في الجهاد الأفغاني وكان على علاقة صداقة مع بن لادن في السودان وأفغانستان، من أن عمليات «القاعدة» لا تخدم الإسلام، بل تسيء إليه أمام الشعوب الغربية وتُـسيء إلى المسلمين أنفسهم في العالم العربي والإسلامي.
غير أن هذا الجانب الذي حققت فيه ليبيا تقدّما قياسا على جارتيها تونس والجزائر، لم يُخف جانبا آخر أماطت عنه اللِّـثام المنظمات الدولية، للدفاع عن حقوق الإنسان، ومنها منظمة “هيومان رايتس ووتش”، التي ذكرت في تقرير لها إن ليبيا ما زالت تسجن أشخاصا بسبب آرائهم السياسية، بعد سنوات من تعهُّـدها بالإصلاح.
واعتبرت المنظمة في مؤتمر صحفي عقدته في ليبيا في وقت سابق من هذا العام، أن نظام الحُـكم لم يُجر سوى تحسينات محدودة، لكن سجله في مجال حقوق الإنسان لا يزال بعيدا عن صورة التغيير التي طرحها منذ أخرج البلاد من العزلة الدولية. وجاء في التقرير “على مدى السنوات العشر الماضية، غيرت ليبيا بدرجة كبيرة وضعها على الساحة الدولية كدولة منبوذة”. ومع ذلك “لا يزال هناك إطار قانوني قمعي أساسا، كما تتمتع قوات الأمن الحكومية بالقدرة على التصرّف ضد المعارضة مع حصانة من العقاب”.
غير أن الجديد في هذا التقرير، أنه رسم خطاً بارزا للمسافة بين الزعيم الليبي معمر القذافي (69 عاما) ونجله سيف الإسلام (37 عاما)، الذي أشارت “هيومان رايتس ووتش” إلى إسهامه في إقرار بعض التغييرات، مُـعتبرة إياه “ثاني أقوى شخصية في البلاد والصوت الإصلاحي البارز”.
مع ذلك، شددت المنظمة على أن السلطات الليبية لم تنشر تفسيرا شاملا لعمليات القتل التي وقعت عام 1996 في سجن أبو سليم، والتي قُـتِـل فيها أكثر من ألف سجين رميا بالرصاص. وقالت المنظمة إن نتائج تحقيق وعدت به السلطات، لم تعلن حتى الآن ولم يجْـر تحديد المسؤولين عن القتل. وذكر التقرير أيضا أن “مئات الأشخاص ما زالوا في السجن، رغم انتهاء مُـدد عقوبتهم أو تبرئتهم من جانب المحاكم”، مؤكِّـدا أنهم “مُـحتجَـزون في سجنيْـن تديرهما وكالة الأمن الداخلي وأن بينهم سجناء معارضون سُـجنوا بعد محاكمات غير عادلة”.
وأكملت “هيومان رايتس ووتش” هذه الصورة القاتمة، بالإشارة إلى أن الأحزاب السياسية ما زالت محظورة قانونا”، ولا توجد منظمات غير حكومية مستقلة. وجاء في التقرير أن مجموعة من المحامين والصحفيين كانوا حاولوا إنشاء منظمات غير حكومية، تخلَّـوا عن محاولتهم بعد خطْـف أحد المحامين.
هشاشة الخط الإصلاحي
من هذه الزاوية، تحوّلت قضية الحريات إلى قطب الرّحى في الحُـكم على أي انفتاح في ليبيا، إيجابا أم سلبا، غير أن مَـن نُسِـبت له ريادة الخط الإصلاحي، أي مجموعة سيف الإسلام والمؤسسة التي تحمل إسم والده، كانا ضحية الاعتداءات والإجراءات القمعية، إذ أن سنة 2010 اتَّـسمت بأعنف هجوم على الصحفيين العاملين في مجموعة “الغد” الإعلامية، بعد اعتقال نحو عشرين منهم، أمَـر القذافي الأب لاحقا بإطلاقهم، بالإضافة لوقف إصدار صحيفتيْ “أويا” في طرابلس و”قورينا” في بنغازي واكتفائِـهما بطبعة إلكترونية. ووصل هذا التصعيد إلى حدِّ طعْـن الصحفي محمد الصريط بسكّـين في عملية اعتُـبرت تحذيرا لهذا السِّـلك المتمرِّد.
وقال الكاتب الليبي رمضان جربوع، تعليقا على تلك الحادثة “يحدث في بلادي شيء مخيف. فبعد الاستدعاءات والاتهام بالتشهير وخلخلة الأمن الاجتماعي، وبعد الاعتداء بالضرب من قبل البلطجية والهروب، ها هُـم اليوم يشرعون في محاولة القتل طعْـنا بالسكاكين. فبالكاد، اعتدنا على بهرة بعض حرية رأي، وما في بداية طريق، التحقيق الصحفي لكشف فضائح الفساد والمفسدين وانتهاكات حقوق الإنسان واستغلال المناصب لأغراض التربح وممارسات عصبية القبيلة وانعدام الجدارة والكفاءة والتسيب والإهمال والاستخفاف بالشعب عموما”.
ويواصل: “ما كدنا نبدأ في الاعتياد على ذلك، حتى خرج علينا الطابور المُـناوِئ لكل تقدّم أو إصلاح أو محاولة للخروج من التخلّـف واللِّـحاق بركب القرن الحادي والعشرين، يلفقون التُّـهم السياسية والجنائية بكل أشكالها وينسجون بالكيد والحقد لغيرهم، ويُـجنِّـدون البلطجية للاعتداء البدني المباشر، ركلا ولكْـما وضرْبا بالنبابيت، ثم هاهُـم اليوم تطوّروا ودخلوا نطاق الطعن بالسكاكين والخناجر الحادة”.
فعندما يكتب بدافع الواجب وحب الوطن، صحفي متألق مثل محمد الصريط تحقيقات صحفية عن ممارسات مشينة في دار رعاية بحق فتيات الوطن أو عن الفقر في البلاد، يُـستدعى للتحقيق ويستمر الأمر معلقا، ثم يتبعه آخرون في ذات الموضوع وغيره من المواضيع التي تهُـم الشأن العام، مثل خالد المهير وعاطف الأطرش ونعيم العشيبي ومحمد طرنيش وآخرين، بذات المِـنوال يُـلاقون مِـحنة السين والجيم المعتادة… وكأن هنالك من يريد أن يلجم هذه النخبة من الجيل الجديد الواعد من الإعلاميين، الذي رأى طفرة تشهدها البلاد من حرية رأي وتحقيق واستعراض لما يجري في البلاد، خصوصا فيما لا يُـرتَـضى عنه.
محمد الصريط، كان نصيبه أشد وأنكى. فقد تعرض إلى اعتداء سافِـر وطعن بسكين وقذف على زجاج تهشم وتسبب له بعدة جروح، إلا أنه أسعف وأجريت له عملية تطلّـبت 36 غرزة، ثم قيل إن المذنب المفترض أتى شاكيا من شجار مع الصحفي، وأدخل هو الآخر إلى المستشفى وبقي فيه. واقتيد محمد الصريط إلى التوقيف بدون إذْن خروج من الطبيب ولم يفرج عنه إلا بعد وصول الموضوع إلى أمين (وزير) العدل فخرج رهن التحقيق”.
مصير غامض للمنتقدين
وأضاف جربوع ملاحظة في غاية الأهمية، حين قال “إن الشواهد تجعل كل من يكتب أو يحقق في مسألة، يخاف على نفسه وحياته. وأشد ما يُـخيفنا أن “يتكلفت” الموضوع ويُصاغ على صورة شجار عادي ثم تصالح”. وفي هذا السياق، ذكر جربوع بالمصير المأسوي لصحفي آخر مُشيرا إلى “حادث مشابِـه حدث للشهيد ضيف الغزال، الذي اختطف واغتيل بسبب ما كان يكتب، مدفوعا بالمرارة والألم فلم يُـمهِـلوه”. وأوضح أنه تم القبض على الجناة فيما بعد “وقيل لنا إنهم حوكموا، ثم تصالح القوم”.
بالطبع، نحب التصالح بين فئات المجتمع، فذلك من دواعي استقراره، ولكننا نُـصرّ على الحق العام، حتى لا يُـهدَر القانون ويُـنهك، وحتى يستطيع الكتَّـاب والصحفيون متابعة أداء واجبهم نحو الوطن، بدون خوف من القتل بسكين أو بطلقة نارية”.
بهذا المعنى، يبدو المنحى الإصلاحي الذي يرمز إليه سيف الإسلام، غضا وهشا أمام سطوة الأجهزة، التي اعتادت على قبض الأمور بيَـد من حديد. ولعل جربوع اختزل مِـحنة الإعلام والإعلاميين في ليبيا حين قال “إن كان الأمر هو الضيق ذرعا ممن يبحث عن الحقيقة، فيا ليْـت يقال لنا ذلك، فسنصمت كما كنا صامتين طوال سنين، قيل لنا اكتبوا واجهروا برأيكم، ها قد فعلنا، هل نطمع ببعض الحماية يا سادة؟”.
ومن الوقائع التي تؤكِّـد وَجاهة هذا السؤال، أن مشروع القانون الجديد للصحافة الذي تمّ عرضه على المؤتمرات الشعبية الأساسية وإقراره منذ عام 2006، لم يخرج بصيغته النهائية، بل لم يُنشر حتى الآن.
ومن المفارقات، أن سيف الإسلام برّر إلى حدٍّ ما المضايقات التي تعرّض لها الصحفيون، عندما أكد خلال لقائه الرمضاني بالفعاليات الإعلامية في سبتمبر الماضي، أن الاعتداء على بعض الصحفيين التابعين للشركة، هو شيء يحدُث مع الصحفيين دائماً في العالم كله، لأن الصحافة مِـهنة المخاطر والجُـرأة، وأن “على الصحافي أن يبحث عن الحقيقة، وفي سبيل ذلك، يتحمَّـل تبِـعاتها، مؤكِّـداً أن ما حدث لضيف الغزال ببنغازي، كان درساً للجميع، ومَـن يريد أن يتجاوز حدوده، فسيجد له شهاباً رصْـدا”.
وأشار في هذا المِـضمار إلى الحاجة إلى “وجود ميثاق للصحافة ينظّم العاملين في هذا المجال، من حيث حقوقهم وواجباتهم”، وشدّد على “الخطوط الحمراء، التي أقرّها الليبيون وعدم السماح بتجاوزها لأيٍّ كان، مُشيداً في الوقت ذاته بمشروع قانون العقوبات الجديد، معتبِـراً أنه سيكون، في حال صدوره، إنجازاً كبيراً في مجال الحقوق والحريات وقفزة كبيرة في اتِّـجاه الحرية والانفتاح”، غير أن سنة 2010 مضت ولم تتحقّـق القفزة، هذا إن ثبت أنها فِـعلا قفزة إلى الأمام.
رشيد خشانة – تونس