في مقال مخصّص للإنتخابات النيابية العراقية التي ستجري يوم الأحد، يتحدّث مراسل جريدة “لوموند”، باتريس كلود، عن “وريث للعرش ضد مصرفي شيعي سابق عائد من “السيتي”. والمقصود هو “الشريف علي بن حسين” من جهة، و”إياد جمال الدين” من جهة أخرى.
ويقول مراسل “لوموند”: “إن منزليهما الفسيحين، والمحاطين بحدائق كبيرة في بقعة خضراء على شاطئ دجلة، يقعان الواحد بلصق الآخر. المنزل الأول كان يملكه “عدي حسين”، إبن صدّام، الذي قُتِلَ مع شقيقه “قصي” في العام 2003. أما الثاني، فكان يقطنه النائب السابق لرئيس العراق، “عزت الدوري”، المتواري عن الأنظار حتى الآن. وكان الجاران قريبين من بعضهما البعض، وصديقين، في زمن الديكتاتورية. ولكنهما انقطعا عن التزاور منذ أن استقرّ كل منهما في منزله الجديد. (لا يفسّر مراسل “لوموند” كيف آل المنزلان، ومنازل مشابهة أخرى في بغداد، لشخصيات وأحزاب سياسية، وليس للدولة العراقية مثلاً…!). لجهة اليمين، يقيم الشريف علي بين حسين (54 عاماً)، السليل “السّنّي” لشريف مكّة “حسين بن علي”، الطامح لتولّي الملك في العراق. وإلى اليسار، يقيم “حجة الإسلام إياد جمال الدين” (49 عاماً) بلحيته الكبيرة، ومعطفه البنّي على الطريقة الإيرانية وعمامته السوداء الخاصة بمن يُفتَرَض أنهم من السلالة النبوية.
وكان الأول قد غادر العراق وعمره سنتان، إبان ثورة 14 يوليون 1958 التي تعرّضت فيها عائلته كلها للقتل، وأسفرت عن إلغاء الملكية. أما الثاني، فقد رحل بملء إرادته في العام 1979 لكي يعتنق الثورة الإسلامية في إيران ولكي يدرس علوم الدين في “قُم”.
الدين المنفصل عن الدولة
للوهلة الأولى، فلا يجمع الكثير بين الرجلين. ولكن كلا منهما في الدور الذي اختاره لنفسه يمثّل نموذجاً للتقلبات السياسية الجارية في العراق حالياً. فقد عاد الرجلان إلى العراق بعد الغزو في العام 2003، ويطمح الآن كل منهما للحصول على مقعد نيابي في الإنتخابات التي ستجري في 7 مارس. ويستفيد كل منهما من خدمات مستشارين إنتخابيين أجانب. وكلاهما يملك حظّاً كبيراً في الفوز بمقعد نيابي.
الوصول إلى النيابة لأي غرض؟ على غرار المرشحين الـ6000 كلهم تقريباً، فإن هدفهما هو “مواجهة الفساد والطائفية، وإعادة إعمار البلاد، ومساعدة الفقراء وتعزيز وحدة البلاد”. إن “الشريف علي”، وهو موظف كبير سابق في “بنك أوف أميركا” بمدينة لندن عاش حياة مترفة ويحمل شهادة من جامعة “ساسكس”، أعلن ترشيحه على “القائمة الشيعية” التي يسيطر عليها “المجلس الأعلى للثورة الإسلامية في العراق”، الذي تأسّس في العام 1982 في طهران.
وهو يقول: “الترشيح على القائمة الشيعية لا يزعجني، فزوجتي شيعية”. أما “حلم” إعادة النظام الملكي إلى العراق فليس الآن وقته: “إذا ما قرّر العراقيون يوماً العودة إلى النظام القديم، فأنا جاهز”.
أما حلم “إياد جمال الدين” فقد تحطّم حينما اصطدم بوقائع النظام الإسلامي في إيران. ففي العام 1995، اقتنع بعد 16 عاماً من العمل بـ”إستحالة إقامة دولة إسلامية حقيقية قبل ظهور المهدي على الأرض”. ولهذا السبب، فقد رحل رجل الدين الشيعي إلى دبي للعمل في “البيزنس”. وقد صرّح لنا “إباد جمال الدين”، الذي تطالعه دعايته الإنتخابية على شاشات التلفزيونات العراقية، أنه أنفق 10 مليون دولار من جيبه على حملته. وقد أسّس جريدته الخاصة، “الأحرار”، في خريف 2009، وهو يخوض حملته تحت يافطة بناء نظام أكثر علمانية “يكون فيه الدين، الذي تنبغي صيانته من السياسة، منفصلاً كلياً عن الدولة”. وهو يأمل في الحصول على 45 مقعد (من أصل 325). أما إذا لم يحصل على مثل هذه الكتلة النيابية، فإنه لن يمتنع عن التفاوض للدخول إلى أحد الإئتلافات. هل ينضم إلى “الكتلة الشيعية”؟ يجيب “لمَ لا؟”. في مثل هذه الحالة، سيكون للجارين القاطنين على ضفاف دجلة سبب للعودة إلى التحادث.
أحمد الجلبي، أو عودة “الفينيق” السياسي العراقي
ولكن رسالة مراسل “لوموند” في بغداد كانت مخصّصة بمعظمها لأحمد الجلبي الذي “كان خصومه يأملون في أن يكون قد مات سياسياً، وأنه فقد مصداقيته، وبات مكروهاً من الناس إلى أبعد درجة، ومنقطعاً إنقطاعاً تاماً عن مفاصل السلطة العراقية. ولكنهم، بذلك، ارتكبوا خطأ كبيراً”.
“فالجلبي، الذي تجاوز سن الـ65، ما يزال غنياً، وصاحب شعبية، وبارعاً بالحسابات السياسية، وموهوباً فكرياً، وفي وضع صحي ممتاز. إن أحمد الجلبي عائد حتى لو لم يعجب ذلك أصدقاءه السابقين من الأميركيين، الذين يتّهمونه اليوم بأنه كان دائماً، في حقيقة الأمر، “في خدمة طهران”.
إن أحمد الجلبي، المرشّح الذي يملك حظّاً في الفوز بانتخابات 7 مارس، وهي الإنتخابات الثانية منذ سقوط صدام حسين ولكنها الأكثر أهمية لتحديد مستقبل البلاد، لأن الجنود الأميركيين باتوا على وشك الرحيل، يملك خطة، وبرنامجاً، بل وحتى هاجساً..
“فالمرشح الجلي يقترح “جعل السياسة العراقية مستقلة من جديد، وتقليص النفوذ الأميركي وبناء تحالف إقليمي راسخ مع إيران وسوريا وتركيا”. ويكاد هذا الطرح أن يكون إعترافاً لاحقاً بـ”اللعبة المزدوجة” التي تتهمه واشنطن بأنه لعبها ببراعة، ولصالح طهران..، طوال عشر سنوات وحتى غزو العراق في مارس 2003.
” إن أحمد الجلبي، الذي استقبلنا في صالون منزله الأنيق في بغداد- وهو واحد من حوالي 10 منازل يملكها في العراق، ولندن، وبيروت- ببذلته الفاتحة وربطة عنقه الملوّنة، يبتسم بصراحة: “الإتهامات تعني أنني استغفلت الإدارة الأميركية، والسي آي أي” والبنتاغون، ووزارة الخارجية، والبيت الأبيض، من أجل الإطاحة بصدام حسين لصالح إيران؟ أنا لوحدي قمت بذلك كله؟ هذا هراء. لقد استغفل الأميركيون أنفسهم بأنفسهم. لقد صدّقوا دعايتهم. أما أنا، فإن لعبتي كانت واضحة منذ البداية، وكنت أريد تحرير بلادي وتحرير شعبي”.
“وحتى لو اقتضى الأمر اللجوء إلى الكذب واستحضار عدد من الشهود العراقيين المزوّرين الذين زعموا أنهم “شاهدوا” البرنامج النووي والبيولوجي العراقي المزعوم، بل و”تعاونوا” معه- وكثير من هؤلاء قدّمهم السيد الجلبي إلى الإستخبارات الأميركية-، فالنتيجة واضحة. فقد مات الديكتاتور، وانتهى نظامه. أما الآن، فإن الرجل الذي يُفتَرض أنه جرّهم إلى المغامرة، يقول أن على “محرِّري” العراق أن يرحلوا.
” وكان الجنرال “راي أودييرنو”، قائد القوات الأميركية في العراق (التي انخفض عددها إلى 93000 رجل، وهو أدنى عدد منذ العام 2003) قد طرح “إمكانية” تمديد بقاء القوات الأميركية إلى ما بعد 31 أغسطس “إذا ما دعت الحاجة”. ولكن السيد الجلبي يجزم بأن ذلك “ليس وارداً على الإطلاق. فقد أعطى السيد أوباما الأمر بسحب كل الجنود المقاتلين قبل آخر أغسطس، على أن يغادر العسكريون المستشارون والعاملون في الشؤون اللوجستية العراق في 31 ديسمبر 2011. ينبغي التقيّد بالروزنامة المتّفق عليها مع العراق”.
“إن هذه النبرة الوطنية التي تتردّد في كل إجتماعاته الإنتخابية لا يمكن أن تضرّ “الجلبي الجديد”. وهذا عدا أنه، حسب كلام السفير الأميركي السابق في العراق حتى العام 2009، “فمن الخطأ الإعتقاد بأن الجلبي كان عميلاً لإيران أو لأي جهة أخرى. إنه شخص إنتهازي ووطني يمكن أن يتسخدم أية وسيلة وأي برنامج لصالح برامجه”.
“هل يكون نزع أهلية 500 مرشح للإنتخابات في الشهر الماضي- معظمهم من السنّة ومن الشيعة العلمانيين- على يد “لجنة إلغاء البعث” التي يرأسها الجلبي- وهي تمثّل أخر منصب رسمي له- نموذج لأسلوب الجلبي؟ لقد أثارت القضية ضجة كبيرة، وأجرت كل الأحزاب، بما فيها الحكومة، على المزايدة حول مطاردة أنصار الديكتاتور السابق.
“ولكن أحمد الجلبي، الذي كانت عائلته الثرية قد غادرت العراق منذ سقوط النظام الملكي في العام 1958، قبل 11 عاماً من وصول البعث إلى السلطة، ينفي أي تلاعب في الموضوع: “المحكمة العليا العراقية قالت أننا على حق. إن الدستور يحظر الدفاع عن البعث. صدقوني، إن عملنا لم ينته بعد. هنالك ألوف البعثيين الذين تسللوا إلى مؤسساتنا وإلى أجهزتنا الأمنية”.
“وأحمد الجلبي ليس بعيداً عن الظن، مثل كثيرين غيره، بأن الأميركيين، بغية تسهيل انسحابهم المعلن وعرقلة الطموحات الإيرانية في العراق، لن ينزعجوا من السماح بعودة بعثيين “جرى إصلاحهم” إلى السلطة. ولكن الجلبي يقول أن ذلك لن يتم طالما ظل هو حياً.
“إن هذا المصرفي السابق، والعميل المزدوج السابق، والإبن المدلل السابق لإدارة بوش، يحتل الرقم 3 على قائمة “الإئتلاف الوطني العراقي”- وهو أقوى إئتلاف شيعي ديني في العراق- مما يعني أن فوزه مؤكد.
“ولكن إذا ما عدنا بالذاكرة إلى إنتخابات 2005، فإن الجلبي، رغم المبالغ الطائلة التي أنفقها لم يحصل- على مستوى العراق كله- سوى على 30 ألف صوت، وأخفق في الحصول على مقعد نيابي.
“لكن ذلك لم يثبط همّته، وها هو يعاود الصعود. وهو يرغب في منصب رئاسة الحكومة. وفي محيطه، وأبعد من محيطه، فإن كثيرين يعتقدون أنه سيصبح رئيس الحكومة المقبل، أيا كانت التطورات”.
“والسبب هو أنه ما لم تحصل مفاجأة كبرى، فإن أياً من الإئتلافات الكبيرة لن يكون قاراً على الحصول على الأغلبية الضرورية لتشكيل الحكومة بمفرده بعد إنتخابات 7 مارس. وهذا يفرض عليها التفاوض. وفي ميدان التفاوض، فإن الجلبي هو الأبرع.