أبعد أحلام قوى 8آذار اللبنانية عن أرض الواقع أن تهيئ قبرا للقرار 1559، ولا أريد أن أصدّق أنّ الرئيس نبيه بري كان جادا عندما اقترح إقامة مجلس عزاء يؤبنه فيه، ويرثي للبنانيين جميعا درة تاج اهتمام المجتمع الدولي ببلادهم، فمجرد تصور وفاة القرار أمر يتجاوز المنطق، ولا يعني إلا رفضا متماديا في عناده لقيم الدولة، وتغاضيا غنيّ المعنى، فقير المردود عن مؤشرات آخذة في الاكتمال لقيامها أيضا، ولبنان الذي حضر الشرق الأوسط فيه فكرا ودما وتفجّر فيه، وتنفّس من خلاله برهة، وتمدد عميقا في أدقّ خلاياه، لا يمكنه هذه المرّة أن يضيّع فرصة التكوين السيد المستقل الذي يلوح في الأفق، ومدمنو وضع العصي في عجلات صيرورته، فقدوا على الأرجح إمكانية تأجيل الدولة مجددا، عبر تأجيرها لمن اعتاد التقّوت على موائد غيبتها.
هذا حقيقي لا تخطئه الأعين، وشواهده أكثر من أن تحصى، فخروج القوى المسلحة السورية من أرض لبنان، كان ثمرة للقرار العتيد، وطاعة لا غنى عنها، ولا بديل، وانتخابات العام 2005 النيابية، لم تكن لتفرز نتائج أخرى لو أن الشهيد رفيق الحريري أخطأته يد الغدر، و قراءة الشعب اللبناني لما حدث ويحدث، صبّت في النهاية في صناديق من قرروا صناعة مستقبل مختلف للبنان، ولم يكن التحالف الرباعي الذي يوجّه العماد ميشال عون نصاله الحادة نحوه، الصانع الحصريّ للأكثرية النيابية كما يواظب على القول، فثمة تحولات عميقة تفاعلت وأنتجت الأكثرية النيابية الحالية، واستبسال الجنرال في نفيها، لم ولن يشطبها أو يخفف من مفاعيلها.
ولعلّ ما شهده لبنان يومي 23و 25 كانون الثاني الماضي من أحداث أخفت في ملامحها احتمالات خطرة، والسقوط المدوّي لخيارات هذين اليومين ومآلاتهما، برهان إضافيّ على حجم ومفعول هذه التحولات التي أنتجت الانسحاب السوريّ، والأكثرية النيابية، فقد أخذت تتجلى فعالا ومواقف داخل لبنان وخارجه على حد سواء، وتبين أنّ لقدرات تعطيل مسيرة بدأت بالقرار 1559 حدودا صعبة الاختراق.
الأدلة تتجاوز الانسحاب السوري والانتخابات النيابية واليومين الأسودين، إلى ما حدث بعد ذلك من صمود الحكومة في وجه محاولات سلبها الشرعية التي اكتسبتها بصناديق الناخبين، ولم تتسولها من الدوائر العالمية كما يحاول البعض التنويه والتمويه، فالثابت أن حكومة الرئيس فؤاد السنيورة، حظيت لدى تشكيلها رغم افتقارها إلى فريق العماد عون، بثقة نيابية لم تحظ بها حكومة من قبل، ولن يستطيع الرئيس نبيه بري أن يتنصل مهما حاولت إيضاحاته التنصل، من التصريحين اللذين سبقا ما تلاهما من ضغوط واعتصام وشائعات باستقالة هذا وذاك من وزرائها، الأول: أنها حكومة مقاومة سياسية، والثاني أنها شرعية ودستورية لنقص المستقيلين منها عن ثلثها.
و لا يصبّ استمرار الحكومة في الخانة الطائفية كما يروّج البعض همسا، رغم أنّ مضامين هذا الطرح المؤسف لا تساعد مروّجيها على أي حال، فلم يكن الاصطفاف السنّي إلى جانبها، أمرا عارضا أو هامشيا أو عديم المعاني الوطنية حتى يصنّف في مستوى عصبويّ، والراجح أنّ من يتحدثون عن عصبوية مكّنت الحكومة من البقاء، لا يريدون الاعتراف بالتبدّل الذي أفصح عنه اغتيال الرئيس الحريري، وعبّر عن مواكبته له قبل ذلك القرار 1559، ويعملون بسبل محمومة على إسقاط ما تظفر به الحسابات والقراءات وتجليات المشهد، وإعادته إلى نظرية مفرطة في بؤسها، خلاصتها أنّ الاصطفاف الحالي خلف الحكومة محض مشاعر طائفية! وكأن الذاكرة معطوبة، ألم تسقط حكومة الرئيس كرامي بدواليب حزب الله المشتعلة؟! ألم تستقل حكومات لبنانية بما فيها تلك التي ترأسها الرئيس الشهيد، دون أن يرف جفن طائفي مرارا؟؟! استمرار الحكومة لم يأت من فراغ، ولم ينبع من الدعم الدوليّ، الذي ستضع الفوز به حكومة يرأسها عبد الرحيم مراد مثلا على رأس مطامعها! آن أن يقرّ المشككون بجدوى ما حدث، فتراجع الوصاية خلف الحدود، أعاد للمؤسسات القدرة على التنفس، وبرهن بقاء الحكومة، رغم المعاناة والظلم الفادح الذي لحقها، أنّ التعطيل، وإعادة عقارب الساعة إلى الوراء لم يعودا ممكنين.
فليواجه المعاندون الحقائق بعينها، ولا يراهننّ أحد على تعميم قراءة لا أقدام راسخة لها في الأرض، الطائفية والعصبوية لا تفسران ما يحدث، ولا فرص واقعية للتهرّب من مواجهة التبدّلات العميقة، أو مواكبتها، ولا بدّ من الاعتراف بها قبل ذلك كلّه، والقبضات الملوّحة ولغة الإمساك بالرقاب لن تهدم ممرّات احتفرتها الدماء، وشقّتها سنيّ الوصاية، والتخفّي عن الشموس بالغرابيل، سيبقى ظرفيّا، و مؤقتا، وفعلا عبثيّا لا جدوى حقيقية منه.
أمّا ما حدث في مخبم نهر البارد، فقد يهدي من تاهت أقدامه وزاغ بصره، والنصر الذي حققه الجيش اللبناني على مئات المقاتلين المدربين باحتراف أمر مهيب حقّا، وذو مغزى يتجاوز معركة وانتصارا، لأنّ الثابت أن هؤلاء القتلة المنظمين لم تفاجئهم نيران الجيش الصارمة على ضراوتها، ولم يظهر لطرفة عين أنّهم غير مهيئين لاحتمالات حرب، فمعداتهم وجهوزيتهم القتالية ومؤونتهم كانت في أحسن حالاتها، وعديدهم وآلية تخيّرهم مربعات انسحابهم، وفجاجتهم في احتفاظهم الطويل بزوجاتهم وأطفالهم ولغة التحدّي التي صدرت عنهم، أظهرت بمجموعها أنهم توقّعوا أسوأ المواقف، وأنّ صدمتهم لم تسببها تشكيلات الجيش التي حاصرتهم، بل العداء الشرس الذي أظهره تجاههم لبنانيون لم تتورع الحسابات البائسة عن اتهامهم في وطنيتهم، صدمة وضعت هؤلاء المغامرين المجرمين أمام مصيرهم الدمويّ.
أسقط في أيدي هؤلاء الإرهابيين، ووقعوا وأسيادهم الذين أرسلوهم، في شباك قراءة بائسة ارتكبوها، فسوّلت لهم نفوسهم جرّاءها أنّ تحركهم سيلاقي أذرعا مفتوحة، وأنّ الغريزي العصبوي سينتصر مجددا في لبنان على الجيش والدولة والوطن!
انتصر الجيش اللبناني على قتلة ” فتح الإسلام “، لأنه دخل المعركة، واقتحم خطوط المخيم الحمراء بغطاء حكومي لبناني، وتبين للجميع أنّ الدخول ممكن، والحرب ممكنة، والنصر المبين ممكن، وأنّ المتغيرات التي جعلت ذلك كلّه ممكنا، تتلاءم مع رغبات اللبنانيين، وتجسّد طموحاتهم، فالقرار1559 الداعي إلى سلطة واحدة على الأرض اللبنانية، بدأ يورق ويثمر.
انسحاب عسكريّ مدوّ، وأكثرية نيابية مختلفة، وحكومة استقلالية تتشكّل بإرادة ناخبيها، فتتجذّر خياراتها الاستقلالية، وتعجز عواصف الانقلاب والاغتيالات عن اقتلاعها، وجيش ينتصر لبلاده، فيحميها من شياطين يتربصون بوحدتها أفظع الشرور، يتقدّم ليستأصل الخطر غير عابئ بالحسابات الموهومة والخطوط الحمراء، جملة مؤشرات لا تقدّم دلائل على تمكّن فريق لبناني يمثله الرئيس برّي من دفن القرار 1559 الذي يؤكد سيادة لبنان، ويرمي في منطوقه على الأقل، إلى تظهير هذه السيادة في: انسحاب عسكريّ سوريّ، وانتخابات حرّة يقرر اللبنانيون نتائجها لا قوى الوصاية، وحكومة تعكس الانتخاب فتهزّ الانقلابيين وخياراتهم ولا يبلبل شرعيتها الترهيب، وجيش وطنيّ ينتشر في البلاد؛ شمالها وجنوبها، ويجعل محال الأمس ممكنا اليوم.
لمن العزاء وسرادقاته إذن؟!
أيقصد الرئيس بري أنّ انتخاب رئيس استقلالي للبلاد أضحى وهما؟ وأنّ الرابع والعشرين من تشرين الثاني سيكون محطة ستشهد انهزام القوى المصممة على إنجاز استحقاق انتخاب رئيس سيد حر ومستقل لبلاد حرة سيدة مستقلة، ولن يرث تاليا الرئيس إميل لحود إلا الفراغ، الأمر الذي يعني موت القرار1559، وإقامة مجلس عزاء للمأسوف عليه؟؟
أم أنّ دولة الرئيس يذكّر اللبنانيين والعالم أنّ الميليشيات التي يناقض وجودها سيادة لبنان واستقلاله الناجزين، عازمة على الاحتفاظ الأبديّ بسلاحها، الأمر الذي يعني إعلانا فجائعيا حقا بوجوب دفن القرار، والتهيؤ للنواح عليه؟؟!
أيتوقع عجز البلاد عن اختيار رئيس لبناني جديد، ويبشّر بانتصار منطق الميليشيا على منطق الدولة؟! أم أنّه يرفع رايات مبكرة لانتصار الماضي على الحاضر والمستقبل؟؟
أيواسي الرئيس بري فريقا لم يبق في جعبته إلا خيام خاوية على عروشها من البشر والخيارات، ويستبق فوز لبنان بإعلان هزيمته؟؟ أم أنّه يتلمّس وسط الضباب تحركات مشبوهة قادرة على قلب المعادلات وتغيير الاتجاهات؟؟
أيغامر الرئيس برّي بالتوقّع؟ أم أنّه يقامر هذه المرّة؟؟ أهي آخر الأوراق أن يستبق ما استيقن ” حدوثه ” وتلمّس مؤشراته عبر ثلاث سنوات من المعاناة والدماء والترهيب الفاشل والترغيب الساقط والاحتيال المكشوف والعبث المهزوم بأمن البلاد بغية تغيير اتجاه سفائنها؟! أيستبق مشهدا لا تخطئ عيناه الاستراتيجتان صدق حضوره، بتحايا مبكرة وأهازيج قبل الأوان تواكب ما قد ” يحدث “؟؟
أنعي بدون جنائز؟؟ أم بشرى للأيام العشرة الأخيرة؟!
أسئلة عديدة لا تناقض بينها، ولا يمكن اختصارها، ومشاغل تساوي زفرات شعب لا يريد أن يعيد الماضي ليعتاده، ولم يعد يستطيع احتمال النكوص والارتداد على عقبيه، أسئلة لا يجيب عنها القرار1559 رغم فتوته وحيويته ويفاع شبابه، أسئلة أجاب عنها دفعة واحدة تصريح وئام وهاب بعيد لقائه شيخ السياسة اللبنانية الدكتور سليم الحصّ ظهرا، وصادق عليها خطاب السيد حسن نصرالله بمناسبة يوم القدس مساء.
إذا قدّر للقرار1559 أن يموت حقا، فلن يشارك لبناني حرّ في مجلس عزائه، لا تأخّرا أو استهتارا بالميّت لا سمح الله، ولا انكفاء عن المشاركة بيوم جلل بالطبع، أحرار لبنان لن يشهدوا مراسم الدفن والعزاء لأن الأرض ستكون قد أخرجتهم من ساحاتها وميادينها، وطوتهم يا دولة الرئيس في غياهبها.
khaledhajbakri@hotmail.com
* كاتب سوري