ذكر فخري صالح في مقالة نشرها مؤخراً بأننا “لم نوف إدوارد سعيد حقه”. والمقصود، هنا، بطبيعة الحال، العالم العربي. وقد جاءت ملاحظة صالح في سياق كلامه عن الاهتمام المتجدد بميراث إدوارد سعيد في مناطق مختلفة خارج دنيا العرب، والذي لم ينقطع منذ رحيله قبل سبع سنوات.
القول بأننا “لم نوفِ إدوارد سعيد حقه” يحرّض على طرح أسئلة من نوع: وما حقه، بالضبط، وإذا عرفنا طبيعة وحدود ذلك الحق فمن هي الجهات المرشحة للقيام بأمر كهذا، وما هي الطريقة الأمثل للتعبير عنه؟
هذه أسئلة على قدر كبير من التجريد، وتحتمل أكثر من جواب، بيد أنها تنطوي على دلالة يصعب تجاهلها. والمقصود أن أحداً لن يتمكن من طرح إجابات محتملة دون دراية كافية بمعنى إدوارد سعيد. بعض المعنى يُستخرج من كتابات سعيد، ومن سيرته الأكاديمية والسياسية، والمعنى الآخر يُستخرج من تداعيات محتملة لكل ما تقدّم.
والمعنى الآخر هو ما يثير اهتمامي بشكل خاص، ولعل في الكلام عنه ما يمكننا من تفسير لماذا “لم نوف إدوارد سعيد حقه”. والمقصود أن إدوارد سعيد لا يحتمل التبسيط والاختزال. فهو نموذج فريد للفكر النقدي المركّب. وغالباً ما يغيب هذا المعنى عندما يُوظّف ميراثه، ويُختزل، في مرافعات سياسية وثقافية يُراد منها الدفاع عن الخصوصيات المحلية، ونقد الغرب.
للتدليل على هذا الأمر أسوق مثلاً واحداً، وأعتبر نفسي محظوظاً لأنني لم أعثر عليه في الكتب، بل سمعته من إدوارد نفسه في رام الله قبل سنوات. قال لي لقد ترجموا كتابي “تغطية الإسلام” إلى اللغة الفارسية في إيران، وتطوّع المُترجم فأضاف من عنده فصلاً جديداً إلى الكتاب، على اعتبار أن الفصل الجديد الذي يشيد بالثورة الإيرانية جزء من الكتاب الأصلي. ولعله فعل ذلك لاعتقاده بأن الكتاب يهاجم الغرب ويدافع عن الإسلام. وفي هذا السياق تجاهل المُترجم بأنني لست مسلماً، أنا علماني، وما جاء في الكتاب لا يُختزل تحت عناوين الدفاع والنقد، فموقفي مركّب وأكثر تعقيداً من ذلك بكثير. انتهى كلام إدوارد سعيد.
ويمكن، دون كثير من العناء، القول بأن كتابه “الاستشراق” قد تعرّض للقدر نفسه من سوء الفهم، فأصبح مقوله جاهزة وفارغة يمكن لمن شاء حشوها بما شاء من كلام في نقد الغرب. وفي ذلك الغرب الوهمي والمُتخيّل، يضيع الفرق بين القرن التاسع عشر والقرن العشرين، كما يضيع الفرق بين رومانيا وبريطانيا، ويضيع الفرق بين اليمين واليسار، وبين النساء والرجال، وبين كارل ماركس وجورج بوش، الكل غرب، الكل مشبوه والكل مطلوب.
مقابل الغرب المطلوب والمشبوه ينتصب شرق جريح ومريح. لا طبقات فيه، ولا نساء ولا رجال، شرق بلا تاريخ، بلا طوائف ولا حروب أهلية، بلا سياسة ولا رياسة، بلا طغاة ولا دجالين، شرق مجرّد ومعلّق في فضاء مطلق وخاص.
لم يكن إدوارد سعيد جزءاً من ذلك الغرب الوهمي والمُتخيّل، ولم يكن حليفاً أو متعاطفاً مع شرق جريح ومريح. كان أميركياً بقدر ما كان عربياً. في مقابلة أخيرة مع جريدة جيروزاليم بوست الإسرائيلية قال لهم: “أنا آخر المثقفين اليهود”.
وبقدر ما يتعلّق الأمر بمعنى إدوارد سعيد، فإن في عبارة كهذه ما يستحضر ميراث ثيودور أدورنو ووالتر بنيامين، وما يعيد التذكير بمدى ما أبداه إدوارد من افتتان بسيرة وأعمال البولندي ـ البريطاني جوزيف كونراد. بمعنى ما يصبح المثقف المعاصر يهودياً إذا استحضر ميراث ومعنى هؤلاء، وإذا تصادف وكان أميركياً وعربياً في الوقت نفسه، يكون معنى اليهودي، حسب تعريف إدوارد قد اكتمل. في زحزحة معنى اليهودي ما يفسر معنى المثقف، وفيه ما يفسر معنى المعاصرة، ومعنى الثقافة في فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية.
هذا هو إدوارد سعيد. فهل في مقدور العالم العربي الواقع بين فكي كماشة، بين أنظمة الطغاة من ناحية والأصوليات الدينية والقومية من ناحية أخرى، أن يستوعب ميراثاً نقدياً كميراثه بطريقة أبعد من التبسيط والاختزال؟
هل في مقدور العالم العربي أن يستوعب فكرة تمثل ركيزة من ركائز الفكر السعيدي (إذا جازت التسمية) والمقصود أن الإمبريالية قد وحّدت العالم، وأن تواريخ الشعوب ومعها الهويات والمصائر، توّحدت وتقاطعت وتشابكت، وفي هذا التقاطع والتشابك بالتحديد يكمن معنى الأزمنة الحديثة؟
في الهند، حيث جرت أكبر عملية استيعاب لميراث إدوارد سعيد خارج الغرب، يحاولون كتابة تاريخ جديد، وإعادة تمييز العناصر المتداخلة التي تشكّلت منها هوية الهند الحديثة. فهل نستطيع الفصل بين ما يعيشه الهنود في الوقت الحاضر من نهضة اقتصادية وثقافية واجتماعية، وبين استيعاب الميراث السعيدي بطريقة خلاّقة؟
المثل الهندي وما ينطوي عليه من دلالات يسهم في تفسير لماذا فشل العرب والباكستانيون في استيعاب الميراث السعيدي. فالنهضة بالمعنى الاقتصادي والاجتماعي والثقافي تعني في التحليل الأخير الاعتراف بمركزية الفكر النقدي المركّب، أما الانحطاط فلا يُنجب سوى الاختزال والتبسيط.
ولعل في هذا ما يُفسر لماذا “لم نوفِ إدوارد سعيد حقه”. أما كيف ومتى فلن نتمكن من طرح أسئلة كهذه قبل الاعتراف بمركزية الفكر النقدي المركّب، وقبل تحويله إلى وسيط بيننا وبين العالم، حتى دون استعادة إدوارد نفسه، وحتى لو تعلّق الأمر بالكلام عن مباراة في كرة القدم. فالمشكلة ليست في الاستشهاد بإدوارد سعيد، والاستعانة بسلطته الثقافية، أو ترجمة وطباعة أعماله، بل في ممارسة النقد المرّكب للواقع، وفي الاعتراف بحقيقة أن العقل الإنساني محافظ بطبيعته، وأن الممارسة الثقافية تعني نقد ونقض البداهة. أليس كذلك؟
Khaderhas1@hotmail.com
كاتب فلسطيني يقيم في برلين
عن جريدة الأيام
لماذا لم نوفِ إدوارد سعيد حقه..!! – ملحق (ربما هام .. ولكنه – بالتأكيد – ليس مفاجأة) (ياجماعة كل الي بصير فلم اخراجو هالسياسيين) … القارىء :ابو جبريل “في تعليقه على عنوان القدس العربي : نجاد يؤكد ان بن لادن في واشنطن والغرب يقول انه في طهران” يوم اعلان مقتل “المصري والبغدادي : القاعدة” نشرت تعليقا هنا ذكرت فيه ان الفجوة بين الاعلام العربي والامريكي حوالي (48) ساعة , وهذا ليس له علاقة بالسبق الصحفي وسرعة النشر , ولكن له علاقة بحيوية حركة الخطابين في عصر العولمة , وسيتضح ذلك في نهاية هذا التعليق “قتل الميت” في سياق التعريف بأنظمة… قراءة المزيد ..
لماذا لم نوفِ إدوارد سعيد حقه..!! – قتل “الميت” (1) لكشف طحلبية (فخري صالح) وأمثالة ممن أسس لهم الخطاب العربي “الحداثي والغير معاصر : (المستعصر)” دكانا بكارمة “ناقد” , يكفي ان نذكر ان الايطالي “المسيحي” امبرتو ايكو (Umberto Eco) يملأ كلمة (ناقد) بلا ازاحة لافتة , وكذلك الامريكي “اليهودي” نعوم تشومسكي (Noam Chomsky) .. فالأول “روائي” الشهرة والنجومية والثاني (ألسني) النهج و”يساري , سياسي” الشهرة والنجومية .. أما “ناقد” عربيا فهي طحلبية الاساس والاتجاه . فالنقد – اعزك الله – جزء لا يتجزأ من (رباعية) : المعرفة – العقلانية – السببية – النقد . كتب (الياس خوري) منذ بضعة اشهر… قراءة المزيد ..