يمكن القاء كلّ اللوم على نص اتفاق أوسلو الذي لم يكن واضحا وقصّر في معالجة المسائل الاساسية العالقة بين الفلسطينيين والاسرائيليين. ولكن يمكن أيضا البحث عن اسباب اخرى لفشل الاتفاق في ايجاد تسوية. من بين هذه الاسباب التعنت الاسرائيلي والتحولات التي طرأت على المجتمع من جهة وعدم الوضوح الفلسطيني، حتى لا نقول غياب الجدّية لدى هؤلاء من جهة أخرى.
قبل عشرين عاما، كان في تونس ما يزيد على ستمئة صحافي من مختلف انحاء العالم جاؤوا لمعرفة ما اذا كان ياسر عرفات، الزعيم التاريخي للشعب الفلسطيني، سيذهب الى واشنطن للمشاركة في توقيع اتفاق اوسلو في حديقة البيت الابيض. كانت هناك تساؤلات في هذا الشأن، لكن الذين كانوا يعرفون “ابو عمّار”، ولو قليلا، كانوا يعرفون أنه لا يمكن أن يفوت على نفسه فرصة دخول البيت الابيض بغض النظر عمّا اذا كان اسحق رابين، رئيس الوزراء الاسرائيلي وقتذاك، سيحضر للتوقيع أم لا.
كانت الرحلة الى واشنطن هدفا بحدّ ذاته. أخيرا، استطاع ياسر عرفات تحقيق الاختراق الذي عمل من اجله طويلا وذلك بعد اعطائه الضوء الاخضر بالتوصل الى اتفاق مع الجانب الاسرائيلي. جاء الاتفاق نتيجة محادثات سرّية استضافتها العاصمة النروجية وادّت، بين ما أدّت اليه، الى بدء مفاوضات مباشرة بين الفلسطينيين والاسرائيليين من أجل التوصل الى تسوية “دائمة وعادلة وشاملة”. لا تزال هذه التسوية حلما يراود كثيرين كانوا يعتقدون أنّ الشعب الفلسطيني الموجود على الخريطة السياسية للشرق الاوسط، لا بدّ أن يكون موجودا أيضا على الخريطة الجغرافية مثله مثل أي شعب من شعوب المنطقة.
ما الذي حال دون التوصل الى هذا الاتفاق الذي ينهي النزاع بين الفلسطينيين والاسرائيليين؟
ثمة كلام كثير صدر في مناسبة مرور عشرين عاما على توقيع اتفاق اوسلو وعلى المصافحة المشهورة بين ياسر عرفات واسحق رابين في ظلّ ابتسامة الرئيس الاميركي بيل كلينتون.
هناك من ألقى اللوم على اتفاق اوسلو نفسه الذي حدّد مرحلة انتقالية مدتها خمس سنوات تخصص لحلّ المشاكل العالقة بين الجانبين، وهي مشاكل لا تزال الى يومنا مستعصية الحل. من بين هذه المشاكل الحدود النهائية للدولة الفلسطينية المستقلة والقدس واللاجئون. لا يزال حوار الطرشان بين الجانبين مستمرا الى يومنا هذا. هناك مفاوضات فلسطينية- اسرائيلية استؤنفت مجددا قبل اسابيع قليلة ولم يوجد ستة صحافيين يهتمون بها!
لكنّ هذه المفاوضات تبدو أقرب الى مفاوضات من أجل المفاوضات في غياب الرغبة الاسرائيلية في تحقيق تقدّم ما. هناك بكل بساطة رغبة اسرائيلية في تكريس الاحتلال لجزء من الضفة الغربية بصفة كونها “أرضا متنازعا عليها” لا أكثر. وما المفاوضات سوى وسيلة لتحقيق هذا الهدف في غياب أي اهتمام عالمي حقيقي بالتوصل الى تسوية معقولة الى حدّ ما على أساس “حل الدولتين” الذي يبدو، الى اشعار آخر، أنّه لم يعد خيارا اسرائيليا.
لا شكّ أن “أبو عمّار” تعرّض الى حرب شعواء منذ توقيعه اتفاق اوسلو. لم يكن اليمين الاسرائيلي وحده معارضا للاتفاق ومعترضا عليه. كانت هناك جبهة رفض عربية- ايرانية ذات امتدادات فلسطينية. لم يكن لدى هذه الجبهة من هدف سوى افشال اوسلو ومنع الفلسطينيين من تحقيق أي تقدّم. عملت هذه الجبهة على تغيير طبيعة المجتمع الاسرائيلي، المريض أصلا، كي يتحوّل الى مجتمع معاد لايّ عملية سلمية من أي نوع كان.
استُخدمت العمليات الانتحارية التي استهدفت مدنيين اسرائيليين أفضل استخدام وصبّت في خدمة المعادين للسلام، علما أن العمل الارهابي الاوّل الذي استهدف عملية السلام كان اسرائيلي المصدر. من يتذكّر باروخ غولدشتاين ذلك الارهابي الذي قتل تسعة وعشرين مصليا في الحرم الابراهيمي في الخليل يوم الخامس والعشرين من شباط- فبراير 1994، اي بعد أقلّ من نصف سنة على توقيع اتفاق اوسلو؟
كانت هناك دائما مشكلة لدى الجانب الفلسطيني ولدى “أبو عمّار” نفسه الذي سبق وارتكب خطأ فادحا في حق شعبه وقضيته عندما رفض اتخاذ موقف حازم وواضح من الاحتلال العراقي للكويت في العام 1990. كان الزعيم الفلسطيني يعتقد أن الوقت يعمل لمصلحته. لم يقدم على خطوات تقطع الطريق باكرا على المتطرفين في الجانبين. الاكيد أن الزعيم الفلسطيني لم يحسب يوما أن هناك من سيغتال اسحق رابين في تشرين الثاني- نوفمبر 1995 وأن شمعون بيريس لن يكون قادرا على متابعة عملية السلام، بل سيفعل كلّ شيء من أجل تمكين بنيامين نتانياهو من العودة الى رئاسة الحكومة في العام 1996.
ظهرت هذه المشكلة بوضوح لدى اندلاع الانتفاضة الثانية اواخر العام 2000 والتي كانت انتفاضة مسلّحة استخدمها الاحتلال أفضل استخدام.
في النهاية، لم يحسن ياسر عرفات ادارة لعبة معقّدة، خصوصا انه لم يستطع يوما فهم الولايات المتحدة من داخل، كما تعاطى مع اسرائيل على طريقة تعاطيه مع خصومه في لبنان أيّام “جمهورية الفاكهاني” السعيدة الذكر. الاخطر من ذلك، انه تعاطى مع “حماس” وغيرها من التنظيمات المتطرفة بطريقة توحي بأنّ في استطاعته احتواءها. لم يدرك الاّ متأخرا خطورة “حماس” وخبث الاخوان المسلمين، علما أنّها جزء لا يتجزّا منهم. لم يدرك حتى أن زوال الاحتلال واقامة الدولة الفلسطينية آخر هموم “حماس” وانها مستعدة للتحالف مع ايران واليمين الاسرائيلي والنظام السوري من أجل منع أي تقدّم لعملية السلام…ومنع الشعب الفسطيني من الحصول على الحدّ الأدنى من حقوقه.
ذهب ياسر عرفات ضحية المتطرفين الذين تكالبوا عليه من كلّ حدب وصوب. ولكن ما لا بدّ من الاعتراف به في نهاية المطاف أن خطوة توقيع اتفاق اوسلو كانت خطوة شجاعة، لكنّه كان يفترض أن تتبعها خطوات سريعة أخرى. من بين هذه الخطوات عمل كلّ شيء من أجل تحقيق تقدّم على أي صعيد، حتّى لو كان معنى ذلك ضرب المتطرفين بقسوة بدل الاستخفاف بهم والاعتقاد بأنّ في الامكان استغلالهم وتوظيفهم في خدمة أهداف معيّنة.
بعد عشرين عاما على توقيع اتفاق أوسلو، تغيّرت المنطقة كلّها. مصر التي عرفناها لم تعد موجودة، كذلك العراق وسوريا. ولكن يبقى أن ياسر عرفات لا يزال القائد التاريخي الذي استطاع وضع فلسطين على الخريطة. حقق جزءا من حلمه بفضل أوسلو. من كان يصدّق أنه سيعود الى أرض فلسطين يوما وأنه سيدفن فيها وسيعيد معه الى الضفة وغزة مئات العائلات الفلسطينية؟ من يصدّق انه كان هناك في يوم من الايّام مطار في غزة…وذلك بفضل أوسلو؟
الاكيد أن التاريخ لم يقل بعد كلمته الاخيرة. لم يكن أوسلو سوى بداية. كان تجربة لا بدّ منها. كان تجربة مفيدة لشعب عظيم اسمه الشعب الفلسطيني لا يمكن الاّ أن يقيم دولته يوما، خصوصا انه استطاع المحافظة على هويته الوطنية برغم كلّ الكوارث التي مرّ بها وتعرّض لها.