صمت القبور!!
أن يكون المرء “محايداً” في أوقات النزاع، لا يعني بالضرورة أنه ليس منحازاً، ذلك أن الصمت في مثل ظروف كهذه ربما يعني واقعياً انحيازه إلى أحد الجانبين. وذلك بالضبط هو حال خطاب رجال الدين الشيعة تجاه العنف في سوريا، فهناك الآلاف من المسلمين الذين يقتلهم نظام بشار الأسد وحكومته “العلوية” التي تدعمها جمهورية إيران الإسلامية بقيادة آيات الله.
يتجاوز عدد المسلمين الذين فقدوا حياتهم خلال العامين الماضيين في عمليات القمع داخل سوريا عدد العرب الذين قتلتهم إسرائيل في الثلاثين عاماً الماضية. ومن الواضح أن صمت رجال الدين الشيعة يساعد بشار الأسد على تبرير سياسته العنيفة تجاه خصومه، ولكن فهم موقف الملالي ليس بهذه البساطة. فذلك يتطلب فهم السياسة الداخلية لرجال الدين الشيعة – وخاصة القوى المحركة بين حوزة النجف ومدرسة قم الفكرية – التي هي معقدة من ناحية التاريخ والسياسة والجغرافيا. وقد تم بناء هذه التوترات منذ سقوط الإمبراطورية العثمانية، ولكنها تفاقمت بعد قيام الجمهورية الإسلامية في إيران عام 1979. وفي هذا السياق، يشكل صمت رجال الدين الشيعة – عن العنف الذي يرتكبه الرئيس السوري العلوي ضد مواطنيه (من الأغلبية السنية) – أحد الأعراض الأخرى لنظام يشجع صمت الملالي إلا إذا تعرضوا لهجوم مباشر.
العمل البسيط لآية الله السيستاني
في واحدة من أولى زياراتها إلى والدها بعد سقوط صدام حسين، سألت ابنة آية الله علي السيستاني أباها عن سبب عدم شرائه مكيف هواء لمنزله خلال الصيف. فكان رد أبيها: “عندما يصبح جميع مواطني النجف قادرين على شراء مكيف للهواء في منازلهم، سوف أشتري واحداً لنفسي”.
يتلقى السيستاني من أتباعه في جميع أنحاء العالم ملايين الدولارات سنوياً باسم الزكاة. كما يمتلك عشرات الحوزات، والمكتبات، والمعاهد الدينية، والمراكز الدينية.. إلخ، في إيران، والعراق، ولبنان، وأوروبا. ومع ذلك، يعيش السيستاني حياة لافتة في بساطتها، بخلاف السلطات العراقية التي تعيش في أحياء راقية وتتبع نمط حياة فاخراً. إلا أن السيستاني لم يبتكر ذلك النمط من الحياة. ففي المذهب الشيعي، إذا أراد أحد أن يصبح فقيهاً أو آية الله، عليه أن يثبت تقواه وزهده في متع الحياة الدنيا على نحو عملي أولاً، ثم يتعيّن عليه تكوين شبكة واسعة من الأتباع والمعاهد لتحقيق العائدات. فالناس لا تمنح المال لشخص لا تثق في ذمته، ومن ثم، يجب أن يكون رجل الدين ورعاً.
ولكن الورع والزهد في العيش المترف لا يعني بالضرورة ألا يتعامل الفقيه مع مسألة السلطة بجدية. فتاريخياً، لم يتمكن الفقهاء الشيعة من جمع الأموال من الناس وإدارة مؤسساتهم الخاصة إلا إذا أقاموا علاقات وثيقة مع الحكام السياسيين. ولم يتعلق ذلك بموقفهم فقط تجاه السلطات السياسية التي جسدت اتجاهاتهم وأثرت حتى على آرائهم الدينية بشأن القضايا الاجتماعية والسياسية، بل كان ذلك يعكس أيضاً الصراع الداخلي على السلطة بين آيات الله.
وفي بداية التسعينيات، عندما كان السيستاني يحاول أن يعزز سلطته الدينية (المرجعية) في إيران، كان رد الفعل الأول لرجال الدين في “قم” سلبياً. فقد كان طموحهم ينصب على نقل السلطة الشيعية كلية من العراق إلى إيران وإنهاء عدة عقود من الصراع بين النجف وقم بعد وفاة آية الله أبو القاسم الخوئي. بيد أنه كان هناك سببان منعا رجال الدين في “قم” من إثارة مشاكل جدية أمام مشروع السيستاني في إيران. أولاً، كان السيستاني أكثر آيات الله ثراءً في العالم الشيعي دون اعتماده على الدعم الحكومي، وثانياً، كانت له شبكة واسعة من الممثلين والأتباع في جميع أنحاء العالم ورثهم عن معلمه الخوئي.
المجتمع الشيعي
لم تكن لدى آيات الله في قم سوى دائرة محدودة من الأتباع، وبالتالي لم يكونوا بمستوى ثراء السيستاني، كما أن الفضل في قوتهم الاجتماعية والمالية لم يعد إلى الجمهورية الإسلامية. بالإضافة إلى ذلك أدرك رجال الدين في “قم” والحكام الدينيون في طهران أنه من المستحيل إقناع المجتمع الشيعي بالاتجاه بعيداً عن النجف بعد فترة الخوئي. وقد وجد هؤلاء الملالي أنفسهم عاجزين عن كسب انتباه الشيعة العرب أو غيرهم من الشيعة غير الإيرانيين الذين لم يكونوا بالضرورة معجبين بالجمهورية الإسلامية. كما أن وضع السيستاني في النجف كان أكثر جاذبية بالنسبة للطبقات التقليدية في المجتمع الشيعي.
ولكن لكي يتمكن السيستاني من إنشاء مكتب كبير في “قم” – يترأسه زوج ابنته “جواد شهرستاني” مع عشرات من المؤسسات الأخرى في قم والمدن الأخرى – كان يحتاج إلى أن يثبت بأن عمله لن يضر بالجمهورية الإسلامية، خصوصاً مرشدها الأعلى، آية الله خامنئي. وقد وعد رفاقُه المسؤولين الحكوميين بأن مشاريع السيستاني ونشاطاته في إيران سوف تقتصر على تقديم المساعدة المالية للمعاهد الدينية وغيرها من الخدمات مثل المكتبات. إلا أن ذلك كان الحد الأدنى المطلوب لإرضاء الحكومة الإيرانية. فقد توقع آية الله خامنئي أن تكون شبكة السيستاني خارج إيران والعراق متاحة للمرشد الأعلى كلما رأى ذلك ضرورياً – خاصة في بلدان مثل لبنان التي لها قيمة استراتيجية كبرى بالنسبة للجمهورية الإسلامية.
ويمكن لمثل ذلك النوع من الصفقات أن يكون مفيداً لكلا الطرفين، فمن دون رضاء خامنئي، سوف يفقد السيستاني الدعم الإيراني، ومن دون شبكة السيستاني خارج إيران، لن يبقى أمام خامنئي سوى شبكته السياسية وسيحرم نفسه من الشبكة الدينية الأكثر نفعاً في الأوساط التقليدية. وقد أصبحت تلك الصفقة أكثر أهمية بعد انهيار النظام البعثي في العراق عام 2003، وهو ما فتح الطريق أمام الجمهورية الإسلامية لتوسيع نشاطاتها في العراق.
وعلى الرغم من المفهوم الغربي الخاطئ بأن السيستاني يعارض مفهوم ولاية الفقيه – القيادة السياسية لآية الله – أثبت السيستاني أنه لم يكن ضاراً في معارضته للجمهورية الإسلامية خلال السنوات التسع الماضية. فلم يتحدث أو يتصرف على نحو يمكن تفسيره كتحدٍّ للجمهورية الإسلامية. كما أن سياسة السيستاني لتهدئة التوترات في العراق كانت ناجحة للغاية، ولكن على الرغم من تأكيده الدائم على أنه لن يتدخل في الشؤون السياسية الداخلية، إلا أنه كان يدعم بقوة “حزب الدعوة” وطموحاته السياسية خلال العامين الماضيين. ونادراً ما كانت أفكاره حول الحكومة العراقية تتعارض مع أفكار الجمهورية الإسلامية.
إن وصف السيستاني بـ”الميال للهدوء” أو بـ”غير الناشط سياسيا” ، كان وصفاً مضللاً استخدمته وسائل الإعلام الغربية في تصويرها لشخصيته. إذ أن واقعية السيستاني مكّنته من إنشاء علاقات وثيقة مع جماعات شيعية مختلفة، ومع الحكومة العراقية والجمهورية الإسلامية من أجل مواصلة عمله: وعمله هو أن يكون مرجعاً.
إن بوسع السيستاني أن يبرّر علاقته بالجمهورية الإسلامية بطرق عدة.
أولاً، يؤمن السيستاني بالرؤية التقليدية المنغرسة في الفقه الشيعي والمتعلقة بوجوب دعم حاكم إقليم شيعي (الإمام) طالما أنه يحمي مصالح المجتمع الشيعي. وقد شكك كثيرون في مصداقية خامنئي الدينية ولكن ليس هناك شك في أنه يترأس السلطة في إيران، وهي أهم بلد شيعي في العالم. وبالتالي فإن أي محاولة لتقويض سلطة خامنئي كحاكم لبلد شيعي تعد غير مشروعة دينياً.
ثانياً، تقدم الجمهورية الإسلامية منافع مالية واجتماعية وسياسية خاصة لرجال الدين الشيعة. وقد تم دمج ذلك الشكل من التمييز الإيجابي في الدستور. وهو ما جعل المؤسسة الدينية الشيعية الحالية الأكثر ثراء في تاريخ الشيعة كله. وبالتالي، فإن إضعاف مثل تلك الحكومة يمكن أن يؤثر على المؤسسة الدينية، ويعمق التوترات بين الفصائل المتنوعة، ويشوه سمعة رجال الدين بين الناس ولا يشجعهم على الثقة في رجال الدين وإرسال الزكاة أو الموافقة على الأمور الدينية.
ثالثاً، إن انتقاد الجمهورية الإسلامية من شأنه أن يعزز منتقديها. وهناك قوتان رئيسيتان تستطيعان تحدي الوضع الحالي للجمهورية الإسلامية وهما: الحركة الديمقراطية والنخبة العسكرية. وتتمنى كل منهما بأن يتم دفع رجال الدين بعيداً عن الساحة السياسية، حيث تناقض طبيعتهما سلطة الملالي. وفي عقول رجال الدين، يجب أن تبقى الحكومة الحالية في طهران طالما ليس هناك بديل محتمل للجمهورية الإسلامية من شأنه أن يوفر نفس المزايا لرجال الدين الشيعة.
رابعاً، إن تراجع سلطة الجمهورية الإسلامية يمكن أن يؤثر على معادلة القوى في المنطقة ضد المجتمع الشيعي. وهنا يمكن القول بأن الجمهورية الإسلامية حققت نجاحاً كبيراً في ربط نفسها بمصير رجال الدين الشيعة ومجتمعهم.
ولاية الفقيه ما بين “النجف” و”قم”
في السنوات الأخيرة، خاصة بعد الغزو الذي قادته الولايات المتحدة للعراق عام 2003، حاولت وسائل الإعلام الغربية التمييز بين حوزة “النجف” للفقه الشيعي ومدرسة “قم” الفكرية. ووفقاً لتلك الوسائل الإعلامية، تميل “حوزة النجف” إلى اتخاذ موقف صوفي تجاه السياسة، نظراً لأن رجال الدين فيها لا يؤمنون بنظرية “ولاية الفقيه”، وبالتالي لا يتطلعون إلى الاستيلاء على السلطة السياسية. بينما يؤمن رجال الدين في “قم”، الذين يمثلهم آية الله روح الله الخميني، بأن “الولي الفقيه” ليس لديه فقط الحق الديني لقيادة الحكومة بل الواجب أيضاً، وبالتالي فإنه يوفر لها الشرعية الشيعية.
ووفقاً للخميني، يجب أن ينتفض المسلمون في وجه الحكومات المتغرّبة الفاسدة، وبذلك يكونون قد بذلوا أقصى جهودهم لتطبيق الشريعة الإسلامية بتسليمهم الحكومة للسلطة الشيعية أو للإسلاميين. وبالنسبة للخميني، تمثل “الحكومة” الفلسفة العملية للفقه الإسلامي، ومن دون الوصول إلى الحكم تصبح الشريعة بلا معنى، كما يصبح تطبيق سنّة النبي كلاماً فارغاً. وبالتالي، يصبح الاستحواذ على السلطة السياسية عنصراً أساسياً من كينونة “المسلم”، وتصبح قلة الاكتراث بالسياسة، وفقاً للخميني، انحرافاً عن الإسلام ومؤامرة غربية لاستعمار العقول وروح المسلمين.
ومع ذلك، لم يقم أحد في تاريخ البشرية بإهانة رجال الدين الشيعة الذين عارضوا وجهات نظره السياسية بقدر ما فعل الخميني؛ فقد نعتهم بالمتخلفين ووصفهم بذوي “العقول المستعمرة”، وبأنهم موالون للولايات المتحدة، وأغبياء جاهلون. ومن جهة أخرى، ووفقاً لوسائط الإعلام الغربية، إن رجال الدين الشيعة في النجف الذين يمثلهم آية الله علي السيستاني، لا يشاركون الخميني في آرائه السياسية. ومن ثم، فإنهم يؤمنون بأن الحكومة الملائمة لا تحتاج لأن تحصل على الشرعية الدينية، وبإمكان الحكومة العلمانية أن تصبح مقبولة إذا لم تنتهك الشريعة الإسلامية.
لكن ما لم تأخذه وسائل الإعلام الغربية في الاعتبار هو التاريخ، سواء كان ذلك يتعلق بمدرسة “قم” الفكرية أم “حوزة النجف”. فالمدرستان كانتا ناشطتين في السياسة عندما كانتا تشعران بأن المشاركة فيها لن تضر بالمؤسسة الدينية، وبالتالي ستفيد في تعزيز سلطتهما. وقد كان رجال الدين الشيعة الذين عاشوا في ظل الإمبراطورية العثمانية حتى بداية القرن العشرين يشاركون تماماً في السياسة الإيرانية.
إلا أنهم انقسموا حول دعم الملكية أو الحركة الدستورية، وكل معسكر لعب دوراً مهماً في تشكيل التطورات في إيران. فخلال القرن الثامن عشر، أصدر ميرزا الشيرازي فتوى بتحريم التبغ، لكي يجبر الحاكم (الشاه) قاجاري على التوقف عن منح احتكار لشركة بريطانية. وكانت تلك مناورة قوية كشفت كيف بالإمكان استخدام السلطة الاجتماعية لرجال الدين الشيعة في الأغراض السياسية.
وبعد سقوط الإمبراطورية العثمانية، لعب رجال الدين الشيعة في العراق دوراً مهماً في حشد الناس ضد القوى الغربية. وفي عهد صدام حسين، أصبحوا أكثر حذراً نظراً لموقف صدام العنيف وغير المساوم، لكنهم لم يتخلوا تماماً عن النشاط السياسي.
ومن جهة أخرى، كانت “حوزة قم” حريصة تماماً على أن لا تتورط في السياسة في العقدين الأولين من القرن العشرين. فقد كان الشيخ عبد الكريم الحائري اليزدي، مؤسس حوزة قم الحالية، قلقاً للغاية بشأن أجندة رضا شاه المعادية لرجال الدين. فيومذاك فرض رضا شاه قواعد جديدة على رجال الدين مما دفع كثيرين منهم إلى ترك مهنتهم والعمل كرجال أعمال أو موظفين في الحكومة. كما أن رضا شاه كان يحاكي نموذج أتاتورك في الدولة السلطوية المعاصرة، بالإضافة إلى ميله إلى تغريب المجتمع والثقافة.
وكانت أجندة رضا شاه المناهضة للحجاب، التي فرضها رجال الشرطة بالقوة وأدت إلى قيام عدد من حوادث العنف، من بين العديد من القضايا التي أزعجت رجال الدين. وكان الحائري بين من لم يتجرأوا على معارضة سياسات رضا شاه المناهضة للملالي والإسلام نظراً لأن رجال الدين لم يكونوا في موقف قوي في ذلك الوقت، مما يعني أن معارضة الحكومة كانت ستتسبب في تقويض المؤسسة الدينية. وعندما سأل الطلاب الحائري عن احجامه عن انتقاد مبادرة رضا شاه المناهضة للحجاب علانية ، قال: “كانت لدينا أولوية وهي حماية استمرارية حوزة قم”. ومن ثم، يمكننا أن نستنتج أنه لا يوجد خلاف نظري حقيقي بين حوزة النجف وقم. فعندما يتعلق الأمر بحق الفقهاء الشيعة في التدخل في السياسة، يصبح العامل الحاسم هو الأوضاع الاجتماعية والسياسية. وفي رده على سؤال طُرح على موقعه الإلكتروني، قال آية الله السيستاني، إنه يحق للمرشد (الولي الفقيه) قيادة المجتمع إذا سمحت الظروف بذلك. وبالتالي، فإن الاختلاف الأساسي بين السيستاني والخميني ربما لا يكون وجهة نظرهما المختلفة حول العلاقة بين السياسة والدين بل ظروفهما التاريخية والجغرافية.
حساسيات فكرية ودينية
لكي نفهم وجهة نظر رجال الدين الشيعة، من الضروري للغاية أن نحدد أولوياتهم التي تتبلور دائماً في ردهم تجاه أحداث معينة. فإذا ما فحصنا، على سبيل المثال، ماهية الحوادث التي كان لآيات الله في قم ردود فعل تجاهها في السنوات الأخيرة، فمن الممكن فهم الحساسيات الفكرية والدينية. لقد عارض رجال الدين بشدة موافقة إيران على المعاهدة الدولية التي تحد من كافة أشكال التمييز ضد المرأة، ومنعوا البرلمان الإيراني من تبنيها. وفي عام 2001 عندما أراد البرلمان الإصلاحي أن يضم أعضاء برلمان سنة إلى قيادة البرلمان، اعترض آيات الله لأن إيران، حسب رأيهم، دولة شيعية وبالتالي لا يجب على السنّة أن يتولوا أي منصب قيادي فيها.
وعندما أعرب الرئيس الإيراني محمود أحمدي نجاد عن استعداده للسماح للنساء بحضور المباريات الرياضية في الملاعب الرياضية، انتقده رجال الدين علانية نظراً لما اعتبروه تقويضاً للأحكام الإسلامية واستهانة بخطر اختلاط الرجال والنساء في مثل تلك الأماكن. ولكن عندما أعلن آية الله خامنئي علانية أن الحكومة لن تتسامح مع قيام مظاهرات ضد نتائج الانتخابات عام 2009 – وكنتيجة لذلك، قامت قوات الشرطة وميليشيات “البسيج” بقمع المظاهرات السلمية التي جرت في الشوارع بعنف حتى إن الحكومة نفسها أقرت بأن عدداً من المتظاهرين الذكور قد تعرضوا للاغتصاب في السجون – التزم رجال الدين في قم الصمت.
إن رجال الدين ـ الذين يزعمون تأييدهم للقضية الفلسطينية انطلاقاً من كون الفلسطينيين مسلمين وأن لدى الملالي واجبا دينيا في الدفاع عن حقوق جميع المسلمين في العالم ـ لم ينطقوا بكلمة، عندما قتلت الحكومة الصينية أكثر من 150 مسلماً في الصين، لأن ذلك قد يهدد علاقة إيران مع حكومة الصين. وتعد الأزمة السورية المثال الأخير لذلك الصمت، ولكن يجب ألا يكون ذلك مفاجئاً لأي متابع للحساسيات الدينية. فرجال الدين الشيعة، كونهم تنظيماً دينياً ـ اقتصادياً لا يتجاوزون أياً من الخطوط الحمراء لجمهورية إيران. كما أن أي رجل دين يعبر تلك الخطوط الحمراء يمكن أن يتعرض للقمع الوحشي ـ إذا كان يعيش داخل إيران ـ أو للتهميش إذا كان يعيش خارجها.
كذلك يمتد الطيف الكثيف لآية الله خامنئي إلى المجتمع الشيعي في الشرق الأوسط بأسره. وبخلاف ذلك، لا يهتم رجال الدين بشيء لا يمثل تهديداً أو منفعة مباشرة لهذا المجتمع. وفي مذكراته ـ التي نشرت في ثلاثة أجزاء ـ كان صادق طباطبائي، شقيق زوجة أحمد الخميني (ابن آية الله الخميني) يستدعي رحلته إلى النجف التي كان يعيش فيها الخميني منفياً. ففي حوار معه، اشتكى الخميني من قلة اهتمام رجال الدين في النجف بالنزاع الإسرائيلي الفلسطيني. وقال إنه عندما سأل رجال الدين عن ردهم تجاه ذلك الموضوع، تساءلوا عن السبب الذي يجعلهم يردون على شيء ليس من شأنهم. فإسرائيل لن تقوم بشن هجوم على العراق أو النجف. فلماذا يهتمون بشأنها؟
هيمنة المؤسسة الدينية
بالإضافة إلى ذلك، هناك عوامل أخرى مهمة تشرح سبب تردد رجال الدين بصفة عامة في معارضة الجمهورية الإسلامية أو توجيه انتقاد صريح لها.
أولاً، يجري الإعلان عن أن المرشد الأعلى هو “الولي الفقيه” بخلاف أي شخص آخر. ولكي يعزز حكمه داخل السلطة الدينية، يستطيع المرشد الأعلى ممارسة سلطته عبر عدد من الأدوات القسرية ـ بما في ذلك، وربما أكثرها أهمية، من خلال هيئة معروفة باسم “محكمة رجال الدين الخاصة” تعمل تحت الإشراف المباشر للمرشد الأعلى ولا تتبع الإجراءات القضائية والقوانين السائدة في بقية أنحاء البلاد.
ومنذ تأسيسها، عُرفت تلك المحكمة بمعاملتها الوحشية والمهينة لرجال الدين من مختلف المناصب. على سبيل المثال، محاكمتها لآية الله محمد كاظم شريعتمداري. فقد كان متهماً بالمشاركة في انقلاب عسكري لخلع النظام واغتيال الخميني بينما كانت تهمته الحقيقية هي تحدي شرعية الخميني باعتباره “الولي الفقيه”. وقد جرى إغلاق الملف بعد اعتقال العديد من أتباعه وأقاربه أو محاكمتهم، كما تم إظهار شريعتمداري نفسه على قناة التلفزيون الحكومية كما لو كان يدلي بـ”اعتراف” ويتوسل للحصول على عفو من الخميني.
وبالإضافة إلى المحكمة، طوّر النظام الإسلامي مجموعة من الأجهزة الأخرى لتعزيز هيمنته على المؤسسة الدينية. فقد تولى النظام الإسلامي المسؤولية المباشرة عن إدارة الشؤون اليومية للمؤسسات الدينية، من بين عدة أمور أخرى، وهو ما غير تماماً من قدرة رجال الدين على الوصول إلى الموارد الدينية. كما صادرت الحكومة الإسلامية معظم الممتلكات التي كانت تخص السلطات الدينية التقليدية في إيران، ووضعتها تحت هيمنة المرشد الأعلى. فعلى سبيل المثال، أصبحت “دار التبليغ” التي يمتلكها آية الله شريعتمداري مقراً لـ”مكتب التبليغ الإسلامي في قم” الذي يتم تعيين رئيسه من قبل المرشد الأعلى.
وفي وقت لاحق، تبنى مكتب خامنئي حوسبة إدارة المؤسسات الدينية وهو ما ساعد المرشد الأعلى على فرض المزيد من السيطرة على الموارد والصفقات المالية لرجال الدين. فقبل خامنئي، كان لدى كل مرجع قسم للموارد المالية خاص به حيث يقوم رجال الدين التابعين له بالتسجيل فيه لتلقي رواتبهم. ولكن في ظل النظام المالي لخامنئي، بات يتوجب أن تمر جميع المدفوعات من المرجعية إلى رجال الدين، أو من مؤسسة دينية إلى أخرى، أولاً من خلال مكتب مركزي يديره “مركز إدارة حوزة قم العلمية”. وبالتالي، أصبحت تلك المدفوعات تحتاج، إلى حد كبير، إلى موافقة ممثلي المرشد الأعلى. كذلك يحتفظ “مركز إدارة حوزة قم العلمية” أيضاً على قاعدة بيانات شاملة حول ممتلكات المرجع، وأصوله ودخله. وقد استخدم المرشد الأعلى تلك البيانات لإدارة النشاطات المالية للمرجع.
وحتى أن آية الله السيستاني ـ المرجع البارز في النجف الذي كان يتمتع دائماً باستقلالية واسعة النطاق عن السلطة الإيرانية ويمثل الشيعية التقليدية ـ لا يستطيع إدارة مكتبه أو شبكته الدينية المالية داخل إيران (وفي بعض الحالات في بلدان أخرى في الشرق الأوسط مثل لبنان وسوريا) دون التعاون مع النظام الإيراني.
جيل جديد من “المراجع”
قبل الثورة، كان رجال الدين العاديون يعتمدون مالياً على المرجعية. أما اليوم فمعظمهم يحصل على الدعم المالي من خلال المؤسسات التي تديرها الدولة أو يشرف عليها ويتحكم بها المرشد الأعلى. وفي استعراض هيمنته المالية والدينية، يدفع خامنئي رواتب لرجال الدين هي أعلى بكثير من تلك التي يدفعها المرجع، وعلى الرغم من أن معظم المرجعيات تعتمد أساساً على أموال الزكاة، يهيمن المرشد الأعلى على أكثر المؤسسات الاقتصادية ثراءاً وربحية في إيران مثل “مؤسسة المحرومين” وضريح الإمام الرضا، والشركات التابعة لهم.
واليوم، لا تغطي المرجعيات الدينية سوى نسبة محدودة من الاحتياجات المالية لرجال الدين. وعلى النقيض من ذلك، أصبحت الحكومة وخامنئي نفسه هما المسؤولَيْن الرئيسيين عن القضايا المالية للحوزات الشيعية خاصة في إيران. وبالتالي، أخذ الدور الاقتصادي للمرجعية وسلطتها يتقلصان على نحو منهجي، تماماً كما تعززت سلطة النظام على الشبكات المالية الشيعية.
وعلاوة على ذلك، أنشأت الجمهورية الإسلامية منذ قيامها شبكة جديدة تماماً من المؤسسات ـ الحوزات الدينية، وعشرات من المراكز البحثية، والمراكز المجتمعية، والمكتبات ـ والتي كان الغرض الرئيسي منها الترويج للأيديولوجيا التي يفضلها النظام. وكان النظام يستخدم ذلك النفوذ بفعالية من أجل الترويج للأفكار التي تخدم تلك الأهداف بينما يعمل في الوقت نفسه على إقصاء الأفكار والمثل الدينية التي لا تخدمها. وهو ما سمح إلى حد كبير للنظام الإسلامي بالهيمنة على الحياة الفكرية للمؤسسة الدينية في إيران.
لقد كان ذلك هو الحال منذ وفاة آيات الله العظمى، أبو القاسم الخوئي، ومحمد رضا الكلبايكاني، وشهاب الدين المرعشي النجفي ـ بالإضافة إلى جميع العلماء البارزين الذين عارضوا العديد من مناحي أجندة الخميني. ففي أعقاب وفاتهم، بدأت تتراجع المراكز التقليدية للسلطة الدينية التي كانت تعمل كرقيب ديني- سياسي للسلطة الدينية المُشكّلة حديثاً، وبزغ جيل أصغر من رجال الدين الذين نشأوا في رعاية نظام الخميني، وشغلوا المناصب ذات النفوذ السياسي والديني القوي.
وبالنسبة لرجال الدين الذين كانوا على قوائم رواتب النظام الإيراني، كانت الحياة تعج بالمزايا الخاصة والمخصصات المالية. فقد خصصت الحكومة موازنات كبيرة للمؤسسات الدينية، مما جعل المنظمات الدينية الإيرانية الحالية أكثر ثراء من أي فترة أخرى في التاريخ. وكان رجال الدين ذوو الصلات الواسعة والمرجعيات التي يحابيها النظام، يشاركون في صفقات مالية مربحة، ويتلقون مزايا حكومية حصرية، ويستطيعون اقتراض أموال طائلة من المصارف من دون الاضطرار إلى تقديم ضمانات كافية. والأهم من ذلك، هو امتلاك المرجعيات للعديد من المؤسسات الخيرية في إيران، كما أن علماء الدين البارزين يعقدون صفقات “فاسدة” مع الحكومة.
ومن جهة أخرى، تقتضي المعتقدات الخمينية حول ولاية الفقيه، أن يخضع جميع رجال الدين لأوامر المرشد الأعلى والولي الفقيه ـ كما يفعل أي متعبّد شيعي آخر. وهي العقيدة التي تأسست على فكرة أن الولي الفقيه هو الوريث للنبي محمد وممثل الإمام الغائب المعصوم، وبالتالي يحظى بالسلطات المقدسة كافة.
وبناء على ذلك، فللمرشد الأعلى السلطة على كل شيء بما يتجاوز الشريعة ودستور البلاد، مما يمنحه سلطة هائلة على المجتمع بصفة عامة وعلى السلطة الدينية بصفة خاصة ـ وهذه السلطة هي على الأقل نظرياً رغم وجود حدود لتلك الممارسات على المستوى العملي. إن مصالح النظام تبرر سلطة الولي الفقيه التي تتجاوز الشريعة أو الدستور. فوفقاً للخميني، هناك أولوية لمواءمات النظام أو مصالحه على جميع القوانين الإسلامية.
ومن ذلك المنطلق، ادعى البعض، على سبيل المثال، بأنه لا يمكن للمرجعيات استخدام أموال الزكاة من دون موافقة الولي الفقيه. بالإضافة إلى ذلك يقال إنه: “لا يمكن تطبيق الفتاوى التي أصدرتها المرجعيات والتي تعالج القضايا العامة إلا بعد موافقة الولي الفقيه”.
وبالتالي، فإن ما يؤمن به المرجع الفرد داخل الجمهورية الإسلامية أو مدى تفقهه، ليس لهما سوى أهمية محدودة؛ فالذي له أهمية أكبر هو ماهية العلاقة التي حددها له الولي الفقيه داخل هيكل السلطة الدينية مع باقي المرجعيات الأفراد. وبمعنى آخر، لا يتعامل هؤلاء مع المرشد الأعلى ومكتبه باعتبار أن المرشد زميل أو حتى عضو بارز في المجتمع الديني، ولكنهم يتعاملون معه كرئيس للمؤسسة العسكرية الاقتصادية السياسية الهائلة.
وهناك مكافآت وفيرة لأعضاء هذه المؤسسة [المرجعيات الأفراد] من ذوي المكانة. فدستور الجمهورية الإسلامية نفسه يعتمد على سلسلة من التمييز لصالح رجال الدين. فعلى سبيل المثال، يجب على رئيس الحكومة، ورئيس الهيئة القضائية، وجميع أعضاء “مجلس الخبراء”، والأعضاء الستة في “مجلس صيانة الدستور”، ووزير الاستخبارات والعديد من المناصب الأخرى، أن يكونوا بالضرورة من المرجعيات الفقهية أو المجتهدين. ولن تكون الحكومة الديمقراطية – التي تلغي جميع أشكال التمييز – حكومة مثالية بالنسبة للأغلبية العظمى من رجال الدين، سواء كانوا معجبين بالنظام السياسي الحالي أم لا. وتشمل أشكال التمييز هذه السياسات التي تحابي الملالي. إن ما يمكن أن يعتبره الشعب الإيراني بديلاً مثالياً للنظام الحالي، ليس هو النظام المثالي في رأي أغلبية رجال الدين. لقد سعت الجمهورية الإسلامية بشكل منهجي إلى حرمان الملالي من استقلالهم وتلويث سمعتهم. وبغض النظر عن تلك الحقيقة، ما زال يُنظر إلى الجمهورية الإسلامية باعتبارها أكثر الحكومات تفضيلاً لرجال الدين في تاريخ الإسلام.
إن استخدام النظام الإسلامي لمجموعة من الأدوات القسرية لعقاب المناهضين للنظام، بالإضافة إلى تقديم الحوافز والمخصصات الأخرى لتشجيع ومكافأة السلوك الموالي للنظام ـ ناهيك عن رغبة المؤسسة الدينية في الحفاظ على بقائها وسلامتها ـ يساعد على تفسير سبب التزام الأغلبية العظمى من رجال الدين الشيعة الصمت، ليس فقط بشأن عنف الحكومة ضد المظاهرات السلمية التي أعقبت الانتخابات الرئاسية في 12 حزيران/يونيو 2009، بل أيضاً حول عنف الحكومة السورية ضد آلاف المواطنين المسلمين. ويجدر بالذكر أن رجال الدين الشيعة يضحون بسمعتهم مقابل المصالح المادية، ويضرون بصورتهم كرجال ذوي تقوى يهتمون بسلامة المسلمين الآخرين.
ولن يكتمل تفسير صمت رجال الدين الشيعة تجاه تلك القضايا الخطيرة من دون ذكر ترددهم في تبني مفاهيم قانونية ليبرالية حديثة مثل “العدالة” و “المواطنة” و “حقوق الإنسان”. وفي غياب مثل هذا التفهم، يصبح منظور رجال الدين حول السياسة قَبَلياً إلى حد ما. فهم ينظرون إلى المجتمع الشيعي باعتباره قبيلتهم، حيث يوفر لهم مختلف أنواع الحقوق للدفاع عن هيمنتهم كلما وحيثما استطاعوا. وربما يؤدي مثل هذا المنظور الخاطئ إلى خسارة نفوذهم تدريجياًعلى الأجيال الشيعية الشابة، التي تتوق إلى العيش في ظل حكومة ديمقراطية ليبرالية، كغيرها في معظم البلدان الأخرى في العالم.
ومن خلال غض نظرهم عن العنف الذي تمارسه الحكومتان الوحشيتان في إيران وسوريا، يعزز رجال الدين على نحو غير مباشر رغبة الشيعة في أن تكون لهم حكومة علمانية في بلدان – مثل إيران – كانت خاضعة لحكومات تحت إدارة شيعية منذ بعض الوقت.
مهدي خلجي هو زميل أقدم في معهد واشنطن.
لماذا تسكت المرجعيات الشيعية على قتل المسلمين في سوريا؟
لماذا سكتت المرجعيات السنية – وهو أكثر وأعظم تأثيراً – عن جرائم صدّام بحق الشيعة والأكراد السنّة على مدى ٣٠ عاماً؟ هذا هو السؤال الذي يبحث عن مجيب, فإن وُجد, فقد المقال مغزاه وهدفه وهي الفتنة فقط!