مؤسف ومحزن جداً أن يزحف الإرهاب الديني إلى بلد عربي يسعى للتطور اقتصادياً وسياسياً مثل المغرب. إن الإسلاميين المغاربة ينقلون إلى بلدهم تجارب فشلت في الشرق، ولم ينتبه القائمون بها إلى طابعها التخريبي القائم على الوهم إلاّ بعد أن خلفت سلسلة طويلة من الدمار وسفك دماء المواطنين العاديين، وجلبت كراهية عامة لكل تحرك سياسي باسم الإسلام.
كان بإمكان الإسلاميين في المغرب المساهمة في ما يدعونه الإصلاح السياسي والاقتصادي عبر التحرك السلمي، بالإعلان عن مطالبهم وشعاراتهم وهم مرفوعي الهامات عبر المظاهرات القانونية، وبالتوافق مع الأحزاب والمؤسسات المدنية الأخرى، بدل العمل في الظلام، أو عن طريق إغراء عدد من الشبان لتفجير أنفسهم وقتل الأبرياء ثم الاختفاء عن الأنظار، كما فعل الإخوان المصريين في الماضي من دون تحقيق أي شعار من شعاراتهم، لأن أسلوب الإرهاب الذي اتبعه الإخوان لم يمكنهم، ولن يمكن غيرهم، من تغيير الحكومات والأنظمة التي حاربوها باسم الدين والشريعة والتقاليد!
وبالإضافة إلى تجربة الإخوان المسلمين في مصر، التي تعد من أضخم التجارب من ناحية تراكم أخطائها وسلبيات نتائجها بسبب استخدامها للعنف، كان على الإسلاميين في المغرب أن يقيّموا تجربة الحكومة الإسلامية في أفغانستان التي دمرت البلد، وتجربة الجمهورية الإسلامية الإيرانية التي جعلت إيران أشبه بجزيرة معزولة مهددة بالأخطار من الخارج وبالتذمر الشعبي في الداخل، وأخيراً تجربة حركة حماس التي جوعت الشعب الفلسطيني على مدى سنة كاملة دون أن يعترف بها أحد!
لقد عشت في المغرب فترة ليست بالطويلة، إلاّ أنها كانت كافية لمعرفة الطبيعة الهادئة لهذا الشعب العربي، الخالية من التوتر الذي تتسم به المجتمعات الشرقية. فالمغاربة دءوبون، غير فضوليين، يختلفون في طبيعتهم عن الطبيعة الشرقية للعرب، بل ويختلفون حتى عن الشعب المجاور لهم (الجزائريين) وقد أقمت صداقات حميمة مع كثير من مثقفيهم وكتابهم يندر إقامتها في الشرق، واكتشفت أيضاً أن الشعوب التي لم تُحرم من أسباب الاستقرار الأمني، كما حدث لعدد من شعوب الشرق العربي التي ابتليت بالانقلابات العسكرية والأنظمة الدكتاتورية الشمولية والاضطرابات الأمنية والعنف والتشدد الديني، لا تقدّر أهمية الحرية الاجتماعية والسياسية النسبية التي تتمتع بها إلا عندما تفقدها! وأن بعض الأفراد الذين يميلون أحياناً إلى تقليد التجارب الأخرى دون التمعن في خسائرها وما تسببه من آثار بغيضة، هم ناس أنانيون، ينقصهم الوعي، ويبنون حساباتهم وتقديراتهم على خيال لا يوجد ما يسنده على أرض الواقع لا في الماضي لا وفي الحاضر!
فباستثناء المغامرة الانقلابية الرعناء التي قام بها الجنرال بوفقير الذي كان يقلد هو الآخر يقلد الضباط الانقلابيين في الشرق، لم تشهد المملكة المغربية منذ الاستقلال 1956 حتى 2003 أعمالاً إرهابية سببت القلق والفزع لشعب المغرب، أو اضطرابات أمنية عطلت مسيرته السياسية والاقتصادية. ويجب الاعتراف بأن المغرب، وبسبب قلة مياهه وافتقاره إلى الثروات النفطية أو المعدنية الكبيرة، اعتمد بالدرجة الأولى على السياحة والاستثمارات الأجنبية وتصدير بعض محاصيله الزراعية وعلاقاته المتميزة بدول أوربا، وكان الاستقرار أداته المهمة في كل المجالات. فلماذا يتسلل الإرهاب الديني إلى هذا البلد الكبير في مساحته، وعدد سكانه، وطموحاته في دفع التنمية إلى مستويات تخفف نسبة العاطلين عن العمل وتنعكس على حياة الجميع؟
ربما نجد جزءً مهماً من الإجابة على هذا السؤال في مقال الأستاذ سعيد الكحل المنشور في “الشفاف” بتاريخ 16 أبريل الجاري، الذي يشير فيه إلى تقاعس وزارة الأوقاف عن تنفيذ قراراً صدر منذ عام 2004، رسم فيه الملك محمد السادس هدفاً واضحاً يدعو إلى الإصلاح الديني، أراد منه: “ترسيخ قيم ديننا الإسلامي الحنيف، والحفاظ على وحدة المذهب المالكي، مع اعتماد اجتهاد منفتح، يتماشى مع مستجدات العصر، تحصينا لأجيالنا من التيارات الدخيلة والهدامة”
لقد كانت المساجد والمدارس الدينية والعامة وما تزال من أبرز الأماكن التي تنشط فيها الخلايا الإرهابية للتبشير بأفكارها الداعية إلى العنف. وفي حين قدمت مصر ضحايا كثيرة من الأبرياء جراء إهمال حكوماتها مراقبة هذه الأماكن واجتثاث السلفيين والأصوليين منها في وقت مبكر، أدى تساهل الحكومة البريطانية مع نشاط الإسلاميين في أماكن العبادة وعدم مراقبة المدارس الدينية للمسلمين إلى ارتكاب الانتحاريين مجزرة بشعة في قطارات الأنفاق وباصات النقل عام 2005.
وما حدث في مصر وفي إنكلترا حدث أيضاً في بقية الدول العربية، التي ترددت حكوماتها في اتخاذ إجراءات صارمة تجاه نشاط التكفيريين. فالشعب المغربي هو شعب مؤمن بالفطرة، وليس بحاجة إلى من يعلمه الإيمان على الطريقة الوهابية، المعروفة بتشددها ودعوتها للعنف تجاه بقية المسلمين من المذاهب الأخرى. ويبدو أن تجاهل توصيات الملك محمد السادس بالإصلاح ومنع التبشير بالمذاهب التكفيرية والإرهابية كانت وراء انتشار أفكار العنف بين عدد من المغاربة، الذين يسعون إلى تحويل بلدهم إلى ساحة للعنف وإشاعة الفوضى الأمنية.
إن الكتاب والمذيعين الذين عزوا انتشار الإرهاب في المغرب إلى وجود الفقر، هم نفس الكتاب والمذيعين الذين يظهرون إثر كل مذبحة يتعرض لها العرب الأبرياء ليبرروا جريمة الانتحاري، ويمجدوا عمله، حتى تكاد تلمس السعادة تنتشر على وجوههم لدى أي عملية تسفك فيها الدماء، وبالخصوص مذيعي فضائية الجزيرة.
فالوهابية ليست ماركسية تعني بالاختلاف الطبقي، بل على العكس أنها تعتبر الفقر يأتي بإرادة الله. ولا تخلو أغنى الدول التي تلتزم الوهابية كمذهب ديني من الفقر، والفقر المدقع، وتكثر فيها مناطق بيوت الصفيح التي تؤكد انعدام العدالة الدينية والسياسية، ومبدأ تكفير المسلمين الذي لا يجعلون من الجهاد غاية أبدية استنبطه سيد قطب من الوهابية. فالوهابية معنية بالدرجة الأولى بترسيخ الحقد تجاه المذاهب الإسلامية الأخرى، واعتبار المسيحيين واليهود كفاراً يتوجب على المسلم ذبحهم حيثما طالتهم يده.
لذلك نأمل أن تكون حادثة الدار البيضاء في 11 أبريل بمثابة تحذير أخير للشعب المغربي وللقوى الأمنية، من أن التساهل مع أي نشاط علني أو سري يقوم به الإرهابيون باسم الدين، سوف يرمي المغرب في دوامة من العنف يصعب بعدئذ القضاء عليها.
* كاتب وروائي عراقي يقيم في إنكلترا
arifalwan@yahoo.com