أهدتني السيدة الفاضلة بشرى برتو مشكورة مؤلفها الوثائقي ” لكي لا ننسى”. وقد صدر هذا المؤلف عن دار سردم للطباعة والنشر في مدينة السليمانية، ويقع في 120 صفحة من القطع المتوسط. المؤلف هو في الواقع إعادة منقحة لكتاب سبق أن أعدته السيدة بشرى “للجنة الفرنسية ضد الإرهاب في العراق”، والذي صدر في عام 1981 باللغتين العربية والفرنسية تحت عنوان “نحن ندين”. علماً إن النسخة العربية قد طبعت آنذاك على الستنسل، ولذا لم يتسن نشره على نطاق واسع.
إن المؤلف هو حصيلة جهد دؤوب وفريد للسيدة بشرى، حيث جمعت معطيات عن انتهاكات التعسف البعثي ضد العراقيين استناداً إلى ما نشرته صحافة المعارضة العراقية في تلك الفترة من دلائل حول الممارسات الاستبدادية لحكم البعث خلال سنوات حكمه الثاني من عام 1968 وإلى عام 1981. ونشر هذا الجهد في وقت لم يتحدث أحد عن الفظائع التي كانت تحدث في العراق على يد حكام البعث. فالبعض التزم الصمت لدوافع انتهازية أو بسبب ما كان يدره النظام من أموال وعطايا على دول وأحزاب وصحف وشخصيات سياسية خاصة في البلدان العربية، أو لدوافع من الرياء والخشية من ردود فعل النظام الشريرة. ولم يكن بإمكان المؤلفة في كتابها تغطية معطيات كشفت لاحقاً وهي أشد فضاعة ارتكبتها هذه العصابة الحاكمة خلال السنوات اللاحقة والتي امتدت حتى عام 2003 وهو عام زوال هذا الكابوس المريع. ولذا اقتصر الكتاب على ما توفر للمؤلفة من معطيات لا تزيد على الألف نموذج فحسب، دون درج معطيات إضافية.
إن المؤلف بحق قد يكون الوثيقة الأولى والفريدة في حينها والتي تدون أحداث سوداء من تاريخ العراق. فقد زرع البعث في المجتمع العراقي كل ما يفتت هذا المجتمع ويشيع الفساد فيه، وطبق كل الاساليب العنفية والعدوانية والمخالفة لأبسط الحقوق الفردية والإنسانية، هذه الأساليب الوحشية التي تكشفت على السطح بعد سقوط النظام في عام 2003 والحصول على الوثائق التي تشير إلى ممارسات شائنة على يد هذه العصابة ضد العراقيين. هذه العصابة التي تتحالف الآن مع عصابات الجريمة المنظمة والمنظمات الإرهابية الدولية من أجل إلحاق الدمار بالعراق وإعادة سطوتها على البلاد. وهكذا تقدم المؤلفة نماذج غريبة من الممارسات القمعية التي شهدها العراقيون في ظل البعث مثل التنكيل بالعراقيين عبر استخدام المواد الكيمياوية علاوة على التعذيب الرهيب، وشمول النساء بالتنكيل على نطاق واسع علاوة على الرجال في بلد تحرم تقاليده الإساءة الى الأم والأخت والمرأة عموماً. كما تطرقت المؤلفة إلى نماذج مدانة من التصفيات التي طالت العراقيين في مختلف مدن الدنيا وملاحقة العراقيين في مختلف بقاع العالم من الاتحاد السوفييت وإلى بلغاريا وحتى القارة الأمريكية. ويضاف إلى هذا السجل الإجرامي لحكم البعث موجة التصفيات الجسدية في داخل العراق وخارجه لكوادر وشخصيات فلسطينية وسورية ومصرية وغيرها من رموز الثقافة والسياسة العرب، وبمن فيهم من كان في “ضيافة” البعث في بغداد. ولم تفوت عن ذاكرة المؤلفة تلك القوانين الغريبة التي أصدرها الحكم الاستبدادي ضد كل من له وجهة نظر لا تتناغم مع البطش والاستبداد الذي طغى على العراق.
وربما يختلف هذا المؤلف عن ما صدر من دراسات وثائقية حول الطغيان البعثي في أن المؤلفة لم تتحزب لضحايا تيار معين دون ضحايا التيارات الأخرى، ولم تضف صفة احتكار التضحية والفداء للوطن بتيار سياسي أو طائفي أو ديني أو عرقي دون التيارات الأخرى. فقد عرضت السيدة بشرى أمثلة لضحايا من التيار الديمقراطي والشيوعي إلى جانب ضحايا التيار الديني والقومي العربي والكردي والتركماني والآشوري وغيرهم إلى جانب ضحايا من نطق بكلمة من البعثيين أنفسهم وحذر من عواقب السير على طريق الاستبداد والعنف المنفلت ولقوا نفس مصير العراقيين الذين جاهروا بمعارضة هذا الحكم الغريب. فمن المؤسف أن المنظمات التي عملت تحت لافتة إنصاف ضحايا البعث في العراق بعد انهيار الطغيان في عام 2003 غالباً ما راحت تتاجر بضحايا من لون معين دون الآخر وانغمرت هذه المنظمات في عملية المتاجرة السياسية وحتى المالية الرخيصة بدماء الضحايا بشكل فتح الأفواه بالتشكيك بمصداقية وحقيقة ما جرى في العهد البعثي الأسود.
إن صدور هذه الدراسة الوثائقية الهامة تشكل دعوة جادة نحو ضرورة جمع أكوام من الوثائق التي وقعت تحت أقدام “الحواسم” أو تلفت وأحرقت بعد الإطاحة بالنظام البعثي، أو تداولتها بعض الحركات السياسية واحتفظت بها لحجب الحقيقة عن الرأي العام العراقي أو وسيلة للابتزاز أو لدوافع أخرى، أو تلك الوثائق الخطيرة التي تبلغ عشرات الأطنان والتي نقلت إلى الولايات المتحدة بدون مبرر ويجب إعادتها إلى العراقيين. إن صدور هذا الكتاب هو أيضاً دعوة لتفعيل دور المركز الوطني للوثائق كي يبذل جهوداً أضافية لجمع هذه الذاكرة العراقية كي تطلع عليها الأجيال العراقية في مسعى لتفادي هذه الكارثة التي حلت بالعراق والعراقيين، دون أن يعني ذلك إثارة حمى الانتقام ومد بساط الثأر، بل لكي يكون العراق في منأى عن احتمالات تكرار تجربة البعث المشينة ومجازرها ودمارها وحروبها العبثية.
كما أن صدور هذا الكتاب هو رد مفعم على تلك الأصوات التي تسعى إلى التستر على الجريمة ومنفذيها أو وضع المجرم والضحية على مستوى واحد كما يحلو لبعض من يدعي أنه ممثل الشعب في مجلس النواب، أو أؤلئك الذين يضعون مسؤولية الجريمة، كما هو الحال في مجزرة حلبجة، على جهات أخرى غير الفئة التي حكمت باسم البعث لعدة عقود ظلماء.
كما أن هذا الكتاب هو أفضل جواب على البعض ممن كانوا متضررين من حكم البعث ولكنهم سرعان ما استداروا 180 درجة بعد سقوطه، وراحوا يتأسفون على سقوطه ويمدون الجسور مع فلول البعث وحلفائه الإرهابيين لإلحاق الأذى بالعراق والعراقيين والإطاحة بالفرصة التي توفرت للعراقيين ببناء دولة عصرية أساسها احترام القوانين وحرية الفرد العراقي. كما أن الكتاب هو خير جواب على تلك القوى المفلسة في بلداننا العربية التي تتباكى على نظام أمعن في ظلمه وتجبره وعرض العرب لأفدح الأخطار والأزمات التي مازالت تعصف بهم، ولكنها أي تلك القوى مازالت مصرة على التستر على الظلم والأستبداد والتدمير الذاتي ورموزه بدلاً من رفع راية الحرية والديمقراطية والتسامح والبناء والحداثة وفضح كل من تتلطخ أياديه بدماء الشعوب العربية.
وهنا لا بد في النهاية أن أشير إلى ما أوردته السيدة بشرى برتو بحق في آخر صفحة من كتابها:”هل ستضيع هدراً دماء ضحايا نظام صدام حسين وحزب البعث دون تعويض معنوي على الأقل بمحاكمة المسؤولين عن تلك الجرائم وأولهم القيادة البعثية ومنفذو سياساتها القمعية خاصة وأن حزب البعث نفسه لم يصدر حتى الآن أية مراجعة ذاتية أو اعتراف بمسؤوليته لما اقترفته طيلة سنوات حكمه بحق الشعب العراقي ولم يفكر حتى الآن بالاعتذار لهذا الشعب الصبور. والأنكى من كل هذا ما قام به أزلام صدام ووكلاء استخباراته بعد سقوط نظامه من تعاون مفضوح مع تنظيم القاعدة ومختلف القوى الإرهابية التي واصلت أعمال القتل ضد أبناء الشعب وعرضت أمن واستقرار البلاد إلى أكبر الأخطار”.
وأخيراً لا بد من تقديم آيات من الثناء للسيدة العزيزة بشرى برتو على مواصلتها الجهد لخدمة قضية الحرية والديمقراطية ورفعة شأن الإنسان العراقي وبناء العراق العزيز الذي هدمته معاول الطغيان والعسف. نعم أن الطريق هو تعرية ثقافة الاستبداد والطغيان المدمرة التي وصفها مونتسكيو أحسن وصف حين قال:”موقف الطاغية، هو موقف ذلك الذي يقطع شجرة لكي يقطف ثمرة واحدة”، أو ما قاله عبد الرحمن الكواكبي:”ما من مستبد سياسي إلا ويتخذ له صفة قدسية يشارك بها الله، أو تعطيه مقماً ذا علاقة بالله”.
10 تشرين الأول 2009
adelmhaba@yahoo.co.uk
* كاتب عراقي