خلال الثمانية عشر شهراً التي انقضت منذ الإطاحة بحسني مبارك، صعدت جماعة «الإخوان المسلمين» بسرعة من الكهف إلى القصر. ففي نيسان/أبريل الماضي أسست «الجماعة» “حزبَ الحرية والعدالة” الذي يهيمن على الساحة الآن، وفازت بأغلبية كاسحة في الانتخابات البرلمانية التي جرت خلال الشتاء الأخير، كما احتفلت في الأسبوع الماضي بفوز مرشحها محمد مرسي في الانتخابات الرئاسية في مصر. وبعد 84 عاماً من استغلال «الإخوان» لشبكات الخدمات الاجتماعية الممتدة عبر البلاد لبناء دولة إسلامية في مصر من القاع إلى القمة، تسعى «الجماعة»، لأول مرة، إلى تشكيل المجتمع المصري من القمة إلى القاع.
ومع ذلك، هناك أمر مريب: فمعظم المكاسب التي حققتها «الجماعة» ما هي إلا مسميات فقط. ففي مطلع حزيران/يونيو، أصدرت محكمة دستورية حكماً بإلغاء الانتخابات البرلمانية وحل البرلمان الذي يهيمن عليه «الإخوان المسلمون». ثم ما لبث “المجلس الأعلى للقوات المسلحة” [“المجلس العسكري”] أن أصدر إعلاناً دستورياً – قبل إجراء الجولة الثانية من الانتخابات الرئاسية – استولى بموجبه على السلطة التنفيذية من الرئاسة، وبذلك حوّل مرسي في النهاية إلى شخصية دون أي صلاحيات تقريباً.
بيد أنه بعد أسابيع من التوتر المتصاعد مع “المجلس الأعلى للقوات المسلحة”، بما في ذلك قيام مظاهرات حاشدة ضد استيلاء “المجلس العسكري” على السلطة، يعمل «الإخوان» على تهدئة الأمور. فـ«الجماعة» تخشى من أن السعي للحصول على المزيد من الصلاحيات في الوقت الحاضر يمكن أن يؤدي إلى زيادة الاضطرابات وإثارة القلاقل في البلاد وإبعاد الشعب المنقسم بشدة. كما يتخوف «الإخوان» من تكرار سيناريو الجزائر من عام 1991، عندما ردت حكومة البلاد – المدعومة من قبل الجيش – على الانتصار الانتخابي الذي حققه الحزب الإسلامي بشن حملة قاسية نجم عنها في النهاية اندلاع حرب أهلية. ولتجنب المزيد من العنف وتعزيز مكانتها في الحياة السياسية المصرية، تأمل «الجماعة» الآن بخلق فترة من الهدوء على المدى القصير لكي يتسنى لها التصرف على نحو أكثر حسماً في المستقبل.
وبادئ ذي بدء، يسعى «الإخوان» إلى تشكيل جبهة موحدة مع الأحزاب السياسية الأخرى في مصر. وقد بدأوا بهذه الجهود قبل أسبوع من إعلان فوز مرسي بالرئاسة، وذلك لإثناء “المجلس العسكري” عن تزوير الانتخابات لصالح المرشح من عهد مبارك أحمد شفيق. وعلى مدار يومين من المفاوضات المكثفة، التقى مرسي بطيف واسع من الجماعات السياسية والناشطين، واعداً إياهم بتعيين نائبَيْن له – مسيحي وإمرأة – وكذلك حكومة لا يهيمن عليها «الإخوان». وقد استخدم قادة «الجماعة» هذا الاتفاق كدليل على نيتهم تشكيل حكومة تمثل الجميع. وقد صرح لي النائب البرلماني من «الإخوان» خالد الديب قائلاً “إننا نقف إلى جانب جميع القوى السياسية من أجل نفس المطالب”.
لكن، هذه هي ليست المرة الأولى التي تحاول فيها جماعة «الإخوان» حماية نفسها بالتوافق مع الفصائل الأخرى. ويؤكد التاريخ على أن هذه الاتفاقات تكون عادة قصيرة الأجل.
ففي حزيران/يونيو 2011، انضم «الإخوان المسلمون» إلى “حزب الوفد” الوطني لتكوين “التحالف الديمقراطي من أجل مصر”، وهو ائتلاف انتخابي ضم في أفضل حالاته ما يقرب من 40 حزباً سياسياً بدءاً من الأحزاب الاشتراكية وحتى السلفية. ولكن بحلول أيلول/سبتمبر، انهار “التحالف الديمقراطي” بسبب إصرار «الإخوان» على الاحتفاظ بنسبة 40 في المائة من مقاعد التحالف لأعضائهم، وبالتالي كانوا سيتركون مقاعد قليلة جداً لإرضاء الأحزاب المتحالفة الأخرى مما دفع معظمها إلى الانسحاب. إلا أن تأثير ذلك كان ضئيلاً: فهذا الائتلاف الذي لم يدم أكثر من ثلاثة أشهر قد مكّن «الإخوان» من بناء صورة لهم ككيان سياسي قيادي، أسفر في النهاية عن فوزهم بأكثرية بلغت 47 في المائة من المقاعد في الانتخابات البرلمانية التي جرت في الشتاء.
ويبدو أن مشروع «الإخوان» الحالي لتوحيد الصفوف سيلقى المصير نفسه. فرغم التقارير الأولية بأن «الجماعة» لن تستحوذ على أكثر من 30 في المائة من الحكومة الجديدة، إلا أن رئيس كتلة «الإخوان» في البرلمان المصري فريد إسماعيل قال مؤخراً في تصريحات لصحيفة الأهرام أن «الجماعة» قد تستحوذ على ما يصل إلى نصف المناصب في الحكومة الجديدة. كما يبدو أن «الإخوان» عازمين على السيطرة على عملية اختيار مجلس الوزراء لضمان أن لا يحمل الكثير من الوزراء – من غير «الإخوان» – إيديولوجيات أخرى، وأنه يمكن تحييدهم من خلال تعيين نواب لهم ينتمون إلى «الجماعة». وقد قال لي القيادي البرلماني «الإخواني» سعد الحسيني “لدينا أكثر من مرشح واحد من «الإخوان» لكل منصب وزاري، وبعض هؤلاء المرشحين يمكن أن يكونوا نواباً للوزراء، وربما نرشح شخصاً من خلفية تكتنوقراطية أو أن نطلب ترشيحات من الأحزاب الأخرى”.
كما أن وعد «الإخوان» بتعيين سيدة ومسيحي نواباً للرئيس هي خطوة رمزية أكثر من كونها تقاسماً حقيقياً للسلطة، حيث أشارت مصادر من «الجماعة » بأن مرسي قد يعيّن خمسة نواب، لتقويض نفوذ نائبيه المسيحي والمرأة. وعلاوة على ذلك، لكي يتم منع سيدة أو قبطي من خلافة الرئيس في حال وفاته، يسعى «الإخوان» إلى الإبقاء على مادة دستورية حالية تقضي بتولي رئيس مجلس الشعب – الزعيم «الإخواني» الحالي سعد الكتاتني – لمنصب الرئاسة. وقد أكد المتحدث باسم “مكتب الإرشاد” محمود حسين – مستشهداً بمبدأ من مبادئ الشريعة – قائلاً أنه “لا يمكن لدولة ذات أغلبية مسلمة أن يحكمها غير مسلم”.
التنسيق مع الجيش: منذ اليوم الأول..!
أما الشق الثاني من إستراتيجية «الإخوان» للتهدئة المؤقتة فيتضمن التنسيق مع الجيش. وقد أكد لي النائب البرلماني من قبل «الإخوان» خالد الديب قائلاً “لقد تأسست هذه العلاقة من اليوم الأول، [وتستند] على انعدام التصادم وانعدام الاتفاق الكامل“. غير أنه في الأسبوع الذي سبق الإعلان عن فوز مرسي، كان قادة «الإخوان» سعد الكتاتنى وخيرت الشاطر، من بين آخرين، قد التقوا بين الحين والآخر مع جنرالات “المجلس العسكري”، ويبدو أنهم قد اتفقوا على إعلان فوز مرسي مقابل التغاضي عن نقاط أخرى من الخلاف. وهذه اللقاءات التي حضرها مرسي نفسه، أدت إلى حدوث تحول في خطاب «الجماعة». فبعد أشهر من اتهام “المجلس العسكري” بالسعي لإجراء الانتخابات الرئاسية والقيام بانقلاب، يشيد الآن قادة «الإخوان» بالوظيفة المشرفة التي يقوم بها “المجلس الأعلى للقوات المسلحة”. وفي خطاب توليه منصبه يوم السبت صرح مرسي بأن “«المجلس العسكري» أوفى بعهده ووعوده التي قطعها على نفسه بألا يكون بديلاً عن الإرادة الشعبية”.
وأشارت «الجماعة» إلى أنها تقبل الآن عدداً من المطالب الرئيسية لـ “المجلس العسكري” التي كانت تعارضها من قبل. وفي هذا السياق، وبعد إعلان فوزه في الانتخابات الرئاسية، صرح مرسي بأنه لن يؤدي اليمين الدستورية إلا أمام البرلمان كورقة ضغط على “المجلس العسكري” لكي يلغي قرار حل البرلمان. ولكنه وافق في النهاية على أداء اليمين الدستورية أمام “المحكمة الدستورية العليا”، مما يعني اعترافاً ضمنياً بالإعلان الدستوري المكمل الذي أصدره “المجلس الأعلى للقوات المسلحة”.
وقد ألمح قادة «الإخوان» أيضاً أن بإمكانهم التعايش مع سلطة “المجلس العسكري” التي أسندها لنفسه عبر الإعلان الدستوري المكمل، على الأقل في الوقت الراهن. وقال لي القيادي البرلماني «الإخواني» سعد الحسيني بأن “الإعلان الدستوري المكمل لا يمنح السلطة المطلقة إلى «المجلس العسكري» – بل يمنحه حق التشريع فقط، وللرئيس حق الفيتو”. وحتى، يبدو أن «الإخوان» على استعداد لقبول استقلال ميزانية الجيش ووقوعها تحت إشراف “المجلس الأعلى للقوات المسلحة”- وهو مطلب رئيسي لـ “المجلس العسكري” – طالما يتم إطلاع لجنة مدنية مصغرة بالتفاصيل. وقالت لي النائبة «الإخوانية» عزة الجرف “لا يمكنني طرح ميزانية الجيش للمناقشة العلنية أمام البرلمان. يجب أن يناقشها عدد قليل من أعضاء البرلمان في سرية تامة”. وكنتيجة لذلك، فإن الأرصدة التجارية العسكرية الواسعة، التي يقال أنها تمثل بين 15 إلى 40 في المائة من الاقتصاد المصري تبدو آمنة في الوقت الحاضر.
ولا تشكل ترتيبات «الإخوان» مع “المجلس العسكري” مفاجأة. فهي تتماشى مع استراتيجية «الجماعة» الطويلة المدى والتي تقوم على تجنب المواجهات مع السلطات الأكثر قوة، من خلال التفاوض على حجم أنشطتها السياسية.
وفي الواقع، كان مرسي رجل «الإخوان» الذي تولى شؤون هذه المفاوضات خلال السنوات الخمس الأخيرة من حكم مبارك، باستخدامه الاتفاقات للتنسيق من أجل مشاركة «الإخوان» في الانتخابات البرلمانية والتفاعل المحدود مع الحركات الاحتجاجية المختلفة. وكونها جماعة متماسكة تأسست قبل 84 عاماً، فإنها تضع عادة الأهداف التنظيمية مثل الوصول إلى السلطة تدريجياً، قبل الأهداف الإجتماعية الأوسع مثل إنهاء الحكم الاستبدادي بسرعة أكبر. وقد قال لي مرسي في آب/أغسطس 2010 “إن برنامجنا هو على المدى البعيد وليس على المدى القصير” مضيفاً “لو كنا نسرع الأمور، لا أعتقد أن ذلك سيؤدي إلى موقف مستقر بصورة حقيقية”.
لكن هذا لا يعني أن «الإخوان» يعتزمون استيعاب “المجلس العسكري” إلى أجل غير مسمى. فعلى سبيل المثال، في تشرين الثاني/نوفمبر الماضي عقد «الإخوان المسلمون» صفقة مع “المجلس الأعلى للقوات المسلحة” وافق بموجبها «الإخوان» على تجنب احتجاجات “ميدان التحرير” العنيفة مقابل موافقة “المجلس العسكري” على إجراء الانتخابات البرلمانية في موعدها. إلا أن الاتفاق قد انهار في آذار/مارس حين هدد “المجلس العسكري” بحل البرلمان، فما كان من «الإخوان المسلمين» إلا أن تراجعوا فجأة عن وعدهم بعدم تقديم مرشح للرئاسة. وعلاوة على ذلك، يبدو من غير المرجح أن تقبل «الجماعة» بالقيود طويلة المدى المفروضة على السلطة التي اكتسبتها في الانتخابات. وقد صرح لي البرلماني «الإخواني» أسامة سليمان بأن “ملكية الجيش تعود إلى الشعب” وأن “[الرقابة المدنية على القوات العسكرية] هي إرادة شعبية – ولا أحد يمكنه إيقاف الإرادة الشعبية”.
وباختصار، تم تأجيل المواجهة التي طال انتظارها بين “المجلس العسكري” و«الإخوان»، ونتيجة لذلك كان الكثير من المصريين سعداء من هذه المحصلة. وعلى كل حال، بدت القاهرة على شفا كارثة قبل بضعة أسابيع، عندما تدفق عشرات الآلاف من المحتجين – الذين ينتمي معظمهم للتيار الإسلامي – إلى “ميدان التحرير”، حيث أعلن بعضهم عن استعداده للموت إذا ما تم الإعلان عن شفيق رئيساً للبلاد. غير أن الهدوء الحالي ومحاولة «الإخوان» لم الشمل مع قيامهم في الحين نفسه باستيعاب “المجلس العسكري” لن يدوم طويلاً. وسيحاول «الإخوان» استغلال هذه الفترة لبناء شرعيتهم باعتبارهم الحزب الحاكم القادم في مصر مع استئناف الضغط لجني المزيد من السلطة حين تهدأ الأجواء.
إريك تراغر هو زميل الجيل التالي في معهد واشنطن.
فورين پوليسي