ا
يواجه كبار المسؤولين الأمريكيين – بمن فيهم الرئيس أوباما ووزير الخارجية جون كيري – قراراً هاماً حول عملية السلام في الأيام القادمة. هل يجب على واشنطن أن تستثمر بكثافة في جهود نشطة لمنع الدخول في دوامة أخرى في العلاقات الإسرائيلية الفلسطينية وإعادة بناء الأساس للدبلوماسية، أم ينبغي عليها أن تفك الارتباط وتنتظر إلى أن يشعر الطرفان المعنيان بالحاجة الملحة للمفاوضات التي يعتقد دبلوماسيون أمريكيون أن كلا الجانبين افتقداها في الجولة الأخيرة من المحادثات؟
وتتمخض معالم هذا الاختيار من خلال خطاب مفصل، حماسي، ومتوازن بدقّة ألقاه السفير مارتن إنديك أمام مؤتمر واينبرغ لمؤسسي معهد واشنطن في 8 أيار/مايو 2014، سرد فيه وقائع تسعة أشهر من المفاوضات بين الإسرائيليين والفلسطينيين، عمل خلالها كوسيط نيابة عن الوزير كيري. وبالإضافة إلى تلك التصريحات الرسمية و”المصرّح بها”، وضّح إنديك بصورة مسهبة أسباب انهيار عملية السلام، خلال جلسة شملت أسئلة وأجوبة مرتجلة وإن كانت علنية، رزح فيها مهندسو النشاط الاستيطاني الإسرائيلي تحت وطأة الانتقادات بسبب جهودهم العازمة على تقويض احتمالات تحقيق تقدم في المفاوضات. ومن خلال تركيزه الشديد على النشاط الاستيطاني – بما في ذلك الضجة الإعلامية التي سببها هذا النشاط في الخارج – ضاع خلال كلمات إنديك الخبر المهم الذي كشفه عن الجولة الدبلوماسية الأخيرة، وخاصة واقع اعتقاد المفاوضين الأمريكيين بأنهم ربما كانوا قد حصلوا على تنازلات كافية من إسرائيل من أجل التوصل إلى اتفاق انفراجة، إلا أن رئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس رفض حتى الرد على المقترحات الأمريكية عندما كان في واشنطن للقاء الرئيس أوباما في منتصف آذار/مارس.
وقد شملت التفسيرات الرئيسية من الخطاب والملاحظات التي أعقبتها ما يلي :
• في الوقت الذي سرد فيه إنديك قائمة من العبارات والإجراءات الاعتراضية التي اتخذها كل جانب، قال أيضاً إن “التصميم على استخدام النشاط الاستيطاني كوسيلة لإفشال المفاوضات” هو الذي سمّم الأجواء فيما يتعلق بإجراء المزيد من المحادثات. وبشكل أعم، تحسّر الوسيط الأمريكي على التأثير السلبي الذي يمكن أن يؤدي إليه النشاط الاستيطاني على مستقبل إسرائيل على المدى الطويل. وقال “إن النشاط الاستيطاني المستشري – خاصة في خضم المفاوضات – لا يقوّض فقط الثقة الفلسطينية في الهدف من المفاوضات، بل يمكن أن يقوّض أيضاً المستقبل اليهودي لإسرائيل. وإذا استمر هذا الوضع، يمكن أن يصبح جرح قاتل لـ “فكرة” كون إسرائيل دولة يهودية. وسيكون ذلك مأساة ذات أبعاد تاريخية”.
• حتى في الوقت الذي انتقد فيه الوسيط الأمريكي مهندسو النشاط الاستيطاني لإحباطهم المحادثات كما قال، أشار إنديك بصورة واضحة في تصريحاته المعدّة سلفاً إلى أن أكثر من نصف جميع الوحدات الاستيطانية التي أقيمت بالفعل خلال فترة المفاوضات كانت ضمن أراضي الضفة الغربية التي كان الفلسطينيون قد اقترحوا سابقاً التنازل عنها لصالح إسرائيل من خلال مقايضات الأراضي. إن النطاق موضع البحث هو أكثر تقييداً من المنطقة داخل “الجدار الأمني” أو ضمن تعريف إسرائيل لـ “الكتل الاستيطانية”. وعندما سُئل عما إذا كانت هذه القطعة المحددة من البناء قد تشير إلى أن النشاط الإستيطاني الإسرائيلي خلال محادثات السلام كان مقيداً تماماً في الواقع، رفض إنديك هذه الفرضية وقال إن الفلسطينيين لم يميزوا بين الوحدات التي تم بناؤها والوحدات التي هي في مراحل مبكرة من عملية التخطيط. وقال إنديك، “إن الدمج بين المناقصات والتخطيط – قالوا إنهم أعلنوا عن تخطيط بناء 8000 وحدة سكنية – والتي جاءت أثناء إطلاق سراح كل دفعة من السجناء، كان لها تأثير ضار جداً على المفاوضات”.
• على الرغم من هذه الخطوات المثيرة للجدل وغيرها من التصريحات الأخرى، أشار إنديك إلى أن رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو قد أظهر “مرونة” كبيرة في المحادثات الثنائية مع المسؤولين الأمريكيين، وبحلول موعد زيارته لواشنطن في بداية آذار/مارس، كان في “نطاق التوصل إلى اتفاق ممكن”. ولم يقدّم إنديك تفاصيل حول تنازلات نتنياهو، على الرغم من أن التقارير الصحفية قد أشارت إلى إبدائه تنازلات كبيرة حول موضوع الأراضي، بما في ذلك استعداده للتفاوض على أساس حدود عام 1967 مع مقايضات الأراضي. وبشكل عام، لم يوجه إنديك تعليقات انتقادية تجاه رئيس الوزراء، على الرغم من أنه ترك دون جواب السؤال الأساسي لماذا، حسب رأيه، لم يعمل نتنياهو على كبح جماح لوبي المستوطنين في حكومته إذا كان على استعداد لاتخاذ خطوات ذات آثار مدوّية سياسياً من أجل التوصل إلى اتفاق مع الفلسطينيين.
• قال إنديك أنه حين أقدمت الإدارة الأمريكية على الانخراط ثانية في محادثات مع الفلسطينيين – بعد فترة وجيزة من زيارة نتنياهو – من أجل الحصول على تنازلات والضغط عليهم نحو التوصل إلى اتفاق، كان عباس قد انسحب من العملية: “لا أستطيع أن أقول إنني أفهم تماماً جميع العوامل ذات الصلة، ولكن [عباس] أغلق الطريق خلال تلك الفترة… والحقيقة هي أنه عندما جاء إلى واشنطن في منتصف آذار/مارس وطرحنا أفكار على الطاولة، لم يكن على استعداد للرد في ذلك الحين”. وأضاف: “[عباس] هو الآن في التاسعة والسبعين من عمره، ويشعر بالإرهاق، ويريد ان يترك منصبه، كما أنه أكثر تركيزاً على الخلافة الآن من تركيزه على صنع السلام”. ووفقاً لإنديك، إن الانتخابات المتوخاة كجزء من المصالحة بين «حماس» و «فتح» هي العامل الرئيسي وراء خطط عباس – فهو لا يريد أن يستقيل في ظل الظروف الراهنة لأن شخصية من «حماس» (رئيس المجلس التشريعي الفلسطيني المعطّل حالياً) هي التي ستحل محله.
ونظراً للتصريحات الواسعة التي جاءت في خطاب إنديك المعد سلفاً، من المهم الإشارة إلى عدة نقاط رئيسية لم يثرها الوسيط الأمريكي:
• خبرة إدارة أوباما في عملية السلام خلال فترة ولايتها الأولى وكيف كان بإمكانها أن توفر لكلا الجانبين سياقاً مهماً لهذه الجولة من المفاوضات. لقد شملت تلك الجهود التي جاءت في وقت مبكر من فترة ولاية هذه الإدارة قيام مواجهة مع إسرائيل حول النشاط الاستيطاني (أي، “لا لبنة واحدة ” [كما جاء في موقف الإدارة الأمريكية])، وموافقة إسرائيل اللاحقة على تجميد الاستيطان لمدة عشرة أشهر، وعدم الانخراط الفلسطيني خلال التسعة أشهر ونصف الأولى من ذلك التجميد، والمأزق الذي نجم عن ذلك.
• أي أخطاء أو نقاط ضعف من قبل فريق السلام الأمريكي والإدارة الأوسع. بطبيعة الحال، إن إمكانية قيام إنديك بالإعلان نيابة عن مسؤوله المباشر الوزير كيري [بأنه كان طرفاً في الفشل] من خلال خطأه، قد يكون أكثر مما يمكن توقعه. لكن تفاصيل مثل هذه الأخطاء قد بدأت في الظهور بالفعل. فعلى سبيل المثال، في وقت مبكر من مؤتمر واينبرغ، كشف مفاوض السلام الإسرائيلي مايكل هيرتسوغ أن كيري قد توصل إلى تفاهمات متعارضة مع كل جانب حول كيفية إطالة أمد المفاوضات – بما في ذلك الإفراج عن الدفعة الرابعة من السجناء – وبالتالي ساهم في التأخير في هذه العملية. بالإضافة إلى ذلك، تجدر الإشارة إلى أن إنديك لم يقدّم أي تلميح حول الخلافات داخل الإدارة فيما يتعلق بعملية السلام، في الوقت الذي أفادت التقارير أن الخلافات بين وزارة الخارجية والبيت الأبيض/مجلس الأمن القومي كانت عائقاً رئيسياً أمام قيام نهج متماسك ومنسق من قبل الولايات المتحدة. وبشكل عام، لم يتطرق إلى المسألة الأوسع والأبعد حداً – باستعادة إلى الأحداث السابقة، هل كانت الأشهر التسعة الماضية لحظة مواتية للقيام بمساعي كبيرة نحو التوصل إلى اتفاق انفراجة تقوده الولايات المتحدة، وهل كان من الحكمة للإدارة الأمريكية السعي إلى التوصل إلى اتفاق كهذا؟
• دور الجهات الفاعلة الأخرى في الشرق الأوسط و”مبادرة السلام العربية”. في الماضي، كانت الأطراف الفاعلة العربية قد برزت بصورة كبيرة في استراتيجية التفاوض الأمريكية بسبب قدرتها على توفير غطاء للتنازلات الفلسطينية أو تقديم حوافز دبلوماسية لإسرائيل. ففي مراحل مختلفة من عملية السلام، استشهد مسؤولون أمريكيون بوعد الاعتراف العربي والإسلامي الواسع بإسرائيل كحافز لإسرائيل للتوصل إلى تسوية؛ وفي الآونة الأخيرة، لعبت الدول العربية أيضاً دوراً سلبياً من خلال تأييدها، في قمة الجامعة العربية في آذار/مارس، لرفض عباس الإعتراف بإسرائيل كدولة قومية للشعب اليهودي، ذلك الدور الذي من المرجح أن يجعل أي حل وسط بشأن هذه المسألة أكثر صعوبة في المستقبل. ومع ذلك، لم تُشر توضيحات إنديك سوى إلى العلاقة الثلاثية بين الإسرائيليين والفلسطينيين وواشنطن. ومن غير الواضح ما إذا كانت هذه الثغرة تعكس تأكيداً ضمنياً على أن التأثير الإقليمي للصراع الإسرائيلي الفلسطيني يستمر في التراجع، وخصوصاً على خلفية الأزمات العابرة للحدود الوطنية، كالصراع الدائر في سوريا وسعي إيران للحصول على نفوذ إقليمي.
• القضية الحارة المتأججة حول مطالبة إسرائيل بالاعتراف بها كدولة قومية للشعب اليهودي. عندما سُئل إنديك عن هذا الموضوع في فترة الأسئلة والأجوبة، قال إنه لأمر “مشروع” بالنسبة لإسرائيل أن تثير هذه القضية، وأنه “بمجرد أن يصل الفلسطينيون إلى فهم الكيفية التي سيكون عليها شكل دولتهم – وعندما سيحصلون على هذه الدولة، سوف تصبح هذه القضية أقل أهمية بكثير، وقابلة للحل”. ولكنه قدم تشخيصاً قاتماً حول [إمكانية] حلها قريباً: “إن الفجوة حول هذا الموضوع واسعة جداً في الوقت الراهن. فرئيس الوزراء نتنياهو يقول إنها مسألة تأسيسية، و[عباس] يقول. ‘أنا حتى لن أناقشها’ “.
في انتظار قرار كيري
في صميم توضيحات إنديك تكمن الرواية حول ما الذي تسبب حقاً في التوقف الفجائي للمفاوضات. فبفصاحة وإحساس، تمثل التوجه الرئيسي لكلمته في أن النشاط الاستيطاني الإسرائيلي (الفعلي والمخطط) كان الأول بين متساوين كسبب للمأزق الحالي – وليس السبب الوحيد ولكنه بالتأكيد الأكثر أهمية. وفي الوقت نفسه، تضمنت روايته وجود مرونة لدى رئيس الوزراء الإسرائيلي واستعداداً لتقديم تنازلات كبيرة للتوصل إلى اتفاق سلام، إلا أن ذلك لم يؤدي سوى إلى رفض زعيم فلسطيني، في لحظة حاسمة، حتى الرد على المقترحات الأمريكية. وليس من السهل التوفيق بين طرفي هذه الرواية.
إن التأثير الحقيقي لكلمة إنديك قد يتمثل في التداعيات التي قد تكون لها على كبار المسؤولين الأمريكيين – وخاصة الوزير كيري – في الوقت الذي يناقشون فيه القرار الحاسم حول كيفية المضي قدماً في عملية السلام. فقد قال إنديك بأنه تجري حالياً “إعادة تقييم” سياسة الولايات المتحدة [المتعلقة بهذه الوساطة]؛ إن هذا المصطلح حافل بالمعاني التي تحتوي على ذكريات من “إعادة تقييم” [سياسة أمريكا في الشرق الأوسط] في فترة كيسنجر. ومع ذلك، فكما أشار إنديك، لم تكن “إعادة التقييم” الماضية سوى وقفة بين دورات من المباحثات للتوصل إلى سلام – فبعد بضعة أشهر فقط من اختتامها، توسطت الولايات المتحدة في اتفاق فك الاشتباك الثاني الذي أدى إلى انفراجة بين إسرائيل ومصر.
وفي الوضع الحالي، هناك تكهنات مكثفة حول خطوة الوزير كيري المقبلة. فمن جهة، يمكن أن يختار من بين مجموعة من المتباينات على غرار “خيار جيمس بيكر”: أي الموافقة على التركيز على النشاط الاستيطاني باعتباره السبب الرئيسي، إن لم يكن الوحيد، لانهيار الدبلوماسية، والإعلان عن نوع من الرؤية للأفكار الأمريكية تكون كافية للتوصل إلى اتفاق فلسطيني – إسرائيلي، ودعوة الأطراف للاتصال به كلما يشعرون بـ “الحاجة الملحة” (إذا استخدمنا مصطلح إنديك) لتقديم التنازلات اللازمة لتحقيق انفراجة. وقد يؤدي ذلك، حتى لو لم يكن مقصوداً، على إلقاء حصة الأسد من اللوم على إسرائيل وإبراء الفلسطينيين بفعالية من المسؤولية عن خطواتهم (وتقاعسهم عن القيام بأي خطوات) خلال عملية المفاوضات. وفي حين أن هذا النوع من السياسة قد يكون مغرياً للبعض، إلا أنه توجد فيه بذور العديد من الصداعات السياسية المستقبلية، مثل تعزيز الإدانة الدولية لإسرائيل الأمر الذي سيضطر الولايات المتحدة إلى العمل على مواجهتها؛ وتعزيز شعور إسرائيل بالتخلي عنها في لحظة حاسمة من المفاوضات النووية الإيرانية؛ وتعزيز مزيج قوي من التحدي وانعدام المسؤولية بين الفلسطينيين الأمر الذي قد ينتهي بقيام وضع سياسي أسوأ بكثير في رام الله.
وفي المقابل، يحتفظ كيري بمجموعة من الخيارات للحفاظ على انخراط الولايات المتحدة – وانخراطه شخصياً – في عملية صنع السلام، وإن ربما بشكل مختلف. ويشمل ذلك اتخاذ خطوات نشطة مع الجانبين لضمان استدامة التعاون الأمني بينهما؛ واقتراح خطوات أحادية الجانب يمكن أن يتخذها كل طرف وتعيد تنظيم الوضع السياسي بطريقة تجعل قيام احتمال أكبر لنجاح المفاوضات الرسمية؛ والتنسيق مع كلا الجانبين لمنع الدخول في دوامة من الخطوات السلبية الأحادية الجانب التي من شأنها أن تجعل العودة إلى المفاوضات الدبلوماسية أكثر صعوبة (مثل إطلاق المزيد من المبادرات الفلسطينية للحصول على مكانة وحقوق في منظومة الأمم المتحدة، أو بناء مستوطنات إسرائيلية فعلية في المناطق النائية التي يعتقد معظم الإسرائيليين أنها سوف تصبح في النهاية جزءاً من الدولة الفلسطينية)؛ والعمل مع عباس لضمان أن تؤدي جهود المصالحة الفلسطينية إلى الهيمنة السياسية للقوى المؤيدة للسلام، وتقديم مرشحين ذوي عقلية إصلاحية ويتمتعون بمصداقية لخلافة القيادة.
ويتطلب هذا الاتجاه السياسي مشاركة أمريكية مستمرة – أي، الكثير من العمل الشاق – وإن لن يكن ذلك مشابهاً للجهود الدبلوماسية الطموحة التي بُذلت في الأشهر الأخيرة. وسيتضح في الأيام المقبلة، ما اذا كانت واشنطن ستبتعد وتنزع يدها عن الساحة الإسرائيلية الفلسطينية إلى أن يغيّر الطرفان نفسهما من مسارهما، أو – بدلاً من ذلك – تتحول من الجهود ذات المخاطر والمكافأة العالية التي تمثلت بها التسعة أشهر الماضية إلى دور أقل بروزاً، وأكثر تدريجية، ولكن مع ذلك انخراطاً مستمراً وعميقاً للدبلوماسية الأمريكية مع كلا الطرفين.
روبرت ساتلوف هو المدير التنفيذي لمعهد واشنطن.